اتحاد 4 يونيو 07
حظيت السياسة السورية الخارجية، التي أرسى قواعدها الرئيس حافظ الاسد منذ أربعة عقود، بتقدير كبير من قبل كتاب ومحللين سياسيين عالميين وعرب. وجعل النظام من التفاف الأحزاب والقوى السياسية السورية جميعا من حولها نقطة إجماع وطني لا يجوز المساس بها أو تجاوزها. وقد قامت هذه السياسة عموما خلال العقود الثلاث الأخيرة على التدخل القوي، السياسي والعسكري، في الشؤون الداخلية للبلدان او الحركات الوطنية العربية والإقليمية، بدءا من النزاع العراقي الايراني، إلى النزاع الكردي التركي، مرورا بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي، واللبناني الاسرائيلي، وغيرها. فقد أعطت دمشق لنفسها الحق، باسم الالتزام القومي أحيانا وباسم المصالح الوطنية السورية أحيانا أخرى، في أن تكون طرفا في النزاعات الداخلية العربية، وإذا لم تجدها، لم تتردد في اختلاقها وتوسيعها.
لكن الاحباطات الكثيرة التي واجهتها دمشق في السنوات الماضية، زاد التشكيك في حقيقة الفائدة التي جنتها سورية من هذه السياسة. ويسود شعور طاغ اليوم بان هذه السياسة ربما تكون قد وصلت إلى نهاية طريقها. فبعد أن كان للتدخل في نزاعات داخلية عربية وإقليمية عائدا ايجابيا يؤمن لدمشق فوائد متعددة، استراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، أصبح هو نفسه اليوم، بعد تبدل وجهة السياسة الامريكية الشرق أوسطية، سببا في دفع سورية إلى بؤرة صراعات الشرق الأوسط جميعا، وجعلها موضوعا رئيسيا للنزاع. هذا هو الحال في ما يتعلق بعلاقة دمشق الاستراتيجية مع طهران، وتحالفها مع أطراف المقاومة الفلسطينية الرديكالية، العلمانية والإسلامية، وتمسكها بنفوذها الاستثنائي في لبنان، ودعمها العلني للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي.
ففي نظر العديد من العواصم الدولية، وليس الإدارة الأمريكية الراهنة فقط، أصبحت دمشق محور سياسة شرق أوسطية حاملة لمخاطر كبيرة. فهي متهمة بسبب تدخليتها الواسعة هذه بدعم الإرهاب، أو على الأقل التلاعب به من أجل تأكيد نفوذها وتوسيع رقعة مصالحها الوطنية. وباستثناء بعض الكتاب اليساريين أو شبه اليساريين الغربيين الذين يدفعهم عداؤهم الايديولوجي والسياسي لسياسات واشنطن الهيمنية إلى إبداء تعاطف نسبي مع سياسة دمشق الخارجية، كما مع غيرها من العواصم التي تبدي تماسكا أكبر تجاه التسلطية الأمريكية، يكاد جميع المسؤولين في الدبلوماسية الدولية ينظرون إلى السياسة السورية الإقليمية والدولية نظرة مليئة بالريبة. فهي إما أن تكون في نظرهم سياسة متهورة تفتقر للمعايير العقلانية والواقعية، أو أنها تسعى بالفعل إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، في سبيل دفع الأذى المحتمل عنها أو تأكيد نفوذها بوسائل لا شرعية لدى جيرانها وعلى حساب مصالحهم الوطنية.
لكن الدبلوماسيات الغربية ليست الوحيدة التي تنظر بعين الريبة إلى الخيارات السورية في السياسة الخارجية. فمثل هذه الريبة بدأت تغزو أيضا الرأي العام السوري ذاته، أو قطاعات واسعة منه، لا تقتصر على حلقات المعارضة الضيقة أبدا. ولا تعني الريبة التشكيك المطلق بهذه الخيارات وإنما التساؤل، من وراء إعلان التأييد الظاهري لها، عما إذا كانت تنطوي دائما على خيارات سليمة وناجعة. فعلى سبيل المثال، هل كان دعم المقاومة الكردية الماركسية، أعني حزب العمال الكردستاني، خلال سنوات حكم الرئيس حافظ الأسد الطويل، ضد الحكومة التركية، مفيدا لسورية؟ وهل كان لتأييد جميع أشكال المقاومة المسلحة في العراق، بكل ما انطوت عليه من تناقضات، وبصرف النظر عن منطلقاتها الفكرية ووسائل عملها وتقنياتها العسكرية، نتائج ايجابية أيضا تخدم المصالح السورية العليا؟ وبالمثل ما هي الفائدة التي جنتها دمشق في النهاية من تشجيعها الانقسام داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، واختيارها الوقوف إلى صف التيارات الرديكالية الفلسطينية، من الجبهة الشعبية بشقيها، العادية والقيادة العامة التي يترأسها أحمد جبريل، ثم دعمها لحركة حماس الاسلامية منذ التسعينيات، ضد ياسر عرفات ومنظمة فتح المركزية التي كانت تمثل الأكثرية السياسية في الحركة الوطنية الفلسطينية؟ وهل أعطى التحالف مع ايران وبالتالي مع حزب الله في لبنان، فوائد لدمشق تفوق تلك التي كان من الممكن أن تجنيها سورية لو اختارت توثيق الروابط مع المنظومة العربية؟
تتلخص إجابات أنصار دمشق بنظريتين متباينتين يشكلان في الوقت ذاته تأويلين لهذه السياسة نفسها. الأولى ذات سمة واقعية أو "ريل بوليتيك" تفيد بأن هذه السياسة هي التي ضمنت ولا تزال تضمن لسورية أوراقا إقليمية أساسية من أجل العمل والمبادرة على ساحة الشرق الأوسط. ومنها استمدت سورية نفوذا كبيرا في المنطقة، وتحولت إلى دولة فاعلة ومؤثرة يخشى جانبها، بعد أن كانت، في الخميسينيات والستينيات، موضوع نزاع بين الدول الأخرى العربية وغير العربية. وهذا يعني أن النفوذ الذي يؤمنه التدخل في قضايا الدول المجاورة هو السند للدفاع عن المصالح السورية الوطنية، وأن أي تراجع عنه يعني المغامرة بتعريض هذه المصالح للخطر. وربما كان أولها المصالح الأمنية. ومن هذا المنظور من الطبيعي ان لا تثير النزاعات التي تتفجر من حول سورية قلقا كبيرا لدى القيادة السورية، بل بالعكس. إنها تؤكد بالنسبة لها صحة خياراتها. فهي تعتقد اليوم أكثر من أي يوم مضى أن أفضل وسيلة لدفع الضغوط الخارجية ومنعهم من اللعب بالساحة الداخلية، هي تكثيف الضغوط عليهم، مباشرة أو من خلال حلفائهم المحليين، او ما ترى فيهم ذلك، واللعب في ملعبهم. وأن أفضل وسيلة لنيل السلام والهدوء والراحة في الداخل هو أن إنهاك الآخرين وحرمانهم من الاستقرار.
أما النظرية الثانية فهي من طبيعة عقائدية مناقضة تماما للأولى. فهي ترى في التدخلية السورية تجسيدا لوفاء دمشق لمبادئها القومية والوطنية التقدمية. ومن هذا المنظور ليست الجهود التي تبذلها سورية للبقاء في قلب الشؤون الداخلية العربية استثمارات سياسية واستراتيجية تهدف إلى الحصول على مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أكبر، وإنما هي تضحيات يقوم بها السوريون لايمانهم بالقيم الوطنية والقومية، ودفاعهم عن استقلال العرب وحريتهم وكرامتهم. وفي هذه الحالة لا بأس في أن لا تكون لهذه السياسة عوائد حقيقية، من أي نوع كان. فهي ليست مقصودة لفوائدها وإنما هي واجب يقع على السوريين ولا يمكنهم تركه أو تجاهله من دون أن يفقدوا مبرر وجودهم السياسي والعقائدي معا. ومن شواهد النظرية الأولى اعتقاد مراقبين كثر، بل ومسؤولين سوريين، أن التحالف مع طهران ضمن ولا يزال يضمن وجود حزب الله كورقة للضغط على إسرائيل وإجبارها على إعادة الجولان إلى سورية. وينطبق الأمر نفسه على الدعم السوري السابق للحركة الانفصالية الكردية بقيادة أوجلان في تركيا. فقد كان الرئيس حافظ الأسد يعتقد أنه سوف يتمكن عن طريق هذا التحالف من إجبار أنقرة على الاعتراف بحصة سورية الطبيعية من مياه الأنهار المشتركة، التي توجد منابعها في تركيا. أما التحالف مع حركات المعارضة الفلسطينية، مهما كان اتجاهها السياسي والعقائدي، علمانيا أم إسلاميا، فالهدف منه قطع الطريق على أي تسوية منفردة يمكن للحركة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، الأقرب في تحالفاته إلى مصر والمملكة السعودية، أن تعقدها مع إسرائيل قبل أن يتم التوصل إلى تسوية سورية إسرائيلية تعيد الجولان المحتل.
لكن بالرغم من أن النظام يستخدم الحجتين لتبرير خياراته السياسية، خطاب الواقعية السياسية وخطاب المثالية الايديولجية القومية، إلا أن الخطاب القومي هو الذي يسود أحاديث وخطب المسؤولين في الحزب والدولة. هكذا لا يكف المسؤولون السوريون، عندما يوجه لهم النقد بسبب تدخلهم في الشؤون العراقية أو اللبنانية أو الفلسطينية، عن تكرار الفكرة ذاتها التي تفيد بأن سورية قدمت تضحيات كبيرة في لبنان، أو أنها لا تقبل بتقسيم العراق أو تغيير طبيعته القومية، أو أنها ترفض تصفية القضية الفلسطينية من قبل التيارات الانهزامية والاستسلامية. أما المعارضة فهي تستهين كثيرا بالحجة القومية التي يستخدمها المسؤولون السوريون، وترى فيها وسيلة للتغطية على المقاربة الأولى أو تبريرا لها. لكن المعارضة لا تناقش جديا نظرية الواقعية السياسية التي تنظر إلى النشاطية المفرطة على أنها الخيار الوحيد لسورية إذا أرادت أن تحافظ على موقعها الإقليمي وتتملك أوراقا للفعل الاستراتيجي تضمن مصالحها الوطنية وتبعد عنها القوى والحركات الطامعة فيها أو المهددة لاستقرارها ووحدتها الوطنية. فهي إما أنها تشارك في النظرة ذاتها إلى مسألة النفوذ الإقليمي، أو بعبارة أدق سياسة الهيمنة الإقليمية، التي اعتبرها أنصار الحكم البعثي باستمرار على أنها مركزالإنجاز الرئيسي لنظام الأسد، أو أنها لا تأخذ مأخذ الجد ادعاءات النظام حول مبررات السياسات التدخلية الخارجية وتتهمه مسبقا بأنه لا يهدف منها إلا إلى خدمة النظام وتأمين دفاعاته ومصالحه، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية السورية. لكن هذا الموقف يقطع الطريق مسبقا على أي مناقشة جدية لأهداف السياسة الخارجية السورية وأساليب عملها. ويفقد المعارضة نفسها في هذه الحالة فرصة بلورة سياسة خارجية سورية وطنية بالفعل، أي لا تتوسل خدمة نظام أو عقيدة او رؤية خاصة ولا الدفاع عن مصالح فئوية.
ينبغي في اعتقادي، بالعكس من ذلك، أخذ ادعاءات النظام على محمل الجد حتى يمكن فحصها بطريقة منهجية تمكننا وحدها من بلورة رؤية لأهداف السياسة الوطنية السورية ومعرفة أفضل الأساليب لخدمتها والدفاع عنها. والسؤال الذي يطرح اليوم، ونحن على أعتاب حرب إقليمية وحروب طوائفية منظورة وغير منظورة، تشكل التدخلية السورية أحد ذرائعها ومبرراتها، هل كان الانخراط في النزاعات الداخلية للأقطار العربية، سواء جاء استجابة لمراكمة أوراق ضغط استراتيجية أو تحقيقا لعقيدة قومية، الخيار الوحيد الممكن لبناء استراتيجية سورية وطنية، أم كان من المحتمل الوصول إلى الأهداف ذاتها بالطرق الدبلوماسية وأساليب التفاوض السياسية؟ وهل ساعدت هذه التدخلات في النزاعات الداخلية العربية والإقليمية في تحقيق المصالح السورية أو تحقيق جزء منها، أم عملت بالعكس على ابعاد دمشق بشكل أكبر عن إمكانية ايجاد الحلول لمشاكلها الوطنية؟ والجواب على هذين السؤالين يفترض منطقيا الإجابة على سؤال سياسي أسبق يتعلق بتعريف المصالح الوطنية السورية، وتحديد في ما إذا كانت مصلحة نوعية واحدة أم مصالح متعددة ومتباينة في سلم الاهمية والأولوية.
حظيت السياسة السورية الخارجية، التي أرسى قواعدها الرئيس حافظ الاسد منذ أربعة عقود، بتقدير كبير من قبل كتاب ومحللين سياسيين عالميين وعرب. وجعل النظام من التفاف الأحزاب والقوى السياسية السورية جميعا من حولها نقطة إجماع وطني لا يجوز المساس بها أو تجاوزها. وقد قامت هذه السياسة عموما خلال العقود الثلاث الأخيرة على التدخل القوي، السياسي والعسكري، في الشؤون الداخلية للبلدان او الحركات الوطنية العربية والإقليمية، بدءا من النزاع العراقي الايراني، إلى النزاع الكردي التركي، مرورا بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي، واللبناني الاسرائيلي، وغيرها. فقد أعطت دمشق لنفسها الحق، باسم الالتزام القومي أحيانا وباسم المصالح الوطنية السورية أحيانا أخرى، في أن تكون طرفا في النزاعات الداخلية العربية، وإذا لم تجدها، لم تتردد في اختلاقها وتوسيعها.
لكن الاحباطات الكثيرة التي واجهتها دمشق في السنوات الماضية، زاد التشكيك في حقيقة الفائدة التي جنتها سورية من هذه السياسة. ويسود شعور طاغ اليوم بان هذه السياسة ربما تكون قد وصلت إلى نهاية طريقها. فبعد أن كان للتدخل في نزاعات داخلية عربية وإقليمية عائدا ايجابيا يؤمن لدمشق فوائد متعددة، استراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، أصبح هو نفسه اليوم، بعد تبدل وجهة السياسة الامريكية الشرق أوسطية، سببا في دفع سورية إلى بؤرة صراعات الشرق الأوسط جميعا، وجعلها موضوعا رئيسيا للنزاع. هذا هو الحال في ما يتعلق بعلاقة دمشق الاستراتيجية مع طهران، وتحالفها مع أطراف المقاومة الفلسطينية الرديكالية، العلمانية والإسلامية، وتمسكها بنفوذها الاستثنائي في لبنان، ودعمها العلني للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي.
ففي نظر العديد من العواصم الدولية، وليس الإدارة الأمريكية الراهنة فقط، أصبحت دمشق محور سياسة شرق أوسطية حاملة لمخاطر كبيرة. فهي متهمة بسبب تدخليتها الواسعة هذه بدعم الإرهاب، أو على الأقل التلاعب به من أجل تأكيد نفوذها وتوسيع رقعة مصالحها الوطنية. وباستثناء بعض الكتاب اليساريين أو شبه اليساريين الغربيين الذين يدفعهم عداؤهم الايديولوجي والسياسي لسياسات واشنطن الهيمنية إلى إبداء تعاطف نسبي مع سياسة دمشق الخارجية، كما مع غيرها من العواصم التي تبدي تماسكا أكبر تجاه التسلطية الأمريكية، يكاد جميع المسؤولين في الدبلوماسية الدولية ينظرون إلى السياسة السورية الإقليمية والدولية نظرة مليئة بالريبة. فهي إما أن تكون في نظرهم سياسة متهورة تفتقر للمعايير العقلانية والواقعية، أو أنها تسعى بالفعل إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، في سبيل دفع الأذى المحتمل عنها أو تأكيد نفوذها بوسائل لا شرعية لدى جيرانها وعلى حساب مصالحهم الوطنية.
لكن الدبلوماسيات الغربية ليست الوحيدة التي تنظر بعين الريبة إلى الخيارات السورية في السياسة الخارجية. فمثل هذه الريبة بدأت تغزو أيضا الرأي العام السوري ذاته، أو قطاعات واسعة منه، لا تقتصر على حلقات المعارضة الضيقة أبدا. ولا تعني الريبة التشكيك المطلق بهذه الخيارات وإنما التساؤل، من وراء إعلان التأييد الظاهري لها، عما إذا كانت تنطوي دائما على خيارات سليمة وناجعة. فعلى سبيل المثال، هل كان دعم المقاومة الكردية الماركسية، أعني حزب العمال الكردستاني، خلال سنوات حكم الرئيس حافظ الأسد الطويل، ضد الحكومة التركية، مفيدا لسورية؟ وهل كان لتأييد جميع أشكال المقاومة المسلحة في العراق، بكل ما انطوت عليه من تناقضات، وبصرف النظر عن منطلقاتها الفكرية ووسائل عملها وتقنياتها العسكرية، نتائج ايجابية أيضا تخدم المصالح السورية العليا؟ وبالمثل ما هي الفائدة التي جنتها دمشق في النهاية من تشجيعها الانقسام داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، واختيارها الوقوف إلى صف التيارات الرديكالية الفلسطينية، من الجبهة الشعبية بشقيها، العادية والقيادة العامة التي يترأسها أحمد جبريل، ثم دعمها لحركة حماس الاسلامية منذ التسعينيات، ضد ياسر عرفات ومنظمة فتح المركزية التي كانت تمثل الأكثرية السياسية في الحركة الوطنية الفلسطينية؟ وهل أعطى التحالف مع ايران وبالتالي مع حزب الله في لبنان، فوائد لدمشق تفوق تلك التي كان من الممكن أن تجنيها سورية لو اختارت توثيق الروابط مع المنظومة العربية؟
تتلخص إجابات أنصار دمشق بنظريتين متباينتين يشكلان في الوقت ذاته تأويلين لهذه السياسة نفسها. الأولى ذات سمة واقعية أو "ريل بوليتيك" تفيد بأن هذه السياسة هي التي ضمنت ولا تزال تضمن لسورية أوراقا إقليمية أساسية من أجل العمل والمبادرة على ساحة الشرق الأوسط. ومنها استمدت سورية نفوذا كبيرا في المنطقة، وتحولت إلى دولة فاعلة ومؤثرة يخشى جانبها، بعد أن كانت، في الخميسينيات والستينيات، موضوع نزاع بين الدول الأخرى العربية وغير العربية. وهذا يعني أن النفوذ الذي يؤمنه التدخل في قضايا الدول المجاورة هو السند للدفاع عن المصالح السورية الوطنية، وأن أي تراجع عنه يعني المغامرة بتعريض هذه المصالح للخطر. وربما كان أولها المصالح الأمنية. ومن هذا المنظور من الطبيعي ان لا تثير النزاعات التي تتفجر من حول سورية قلقا كبيرا لدى القيادة السورية، بل بالعكس. إنها تؤكد بالنسبة لها صحة خياراتها. فهي تعتقد اليوم أكثر من أي يوم مضى أن أفضل وسيلة لدفع الضغوط الخارجية ومنعهم من اللعب بالساحة الداخلية، هي تكثيف الضغوط عليهم، مباشرة أو من خلال حلفائهم المحليين، او ما ترى فيهم ذلك، واللعب في ملعبهم. وأن أفضل وسيلة لنيل السلام والهدوء والراحة في الداخل هو أن إنهاك الآخرين وحرمانهم من الاستقرار.
أما النظرية الثانية فهي من طبيعة عقائدية مناقضة تماما للأولى. فهي ترى في التدخلية السورية تجسيدا لوفاء دمشق لمبادئها القومية والوطنية التقدمية. ومن هذا المنظور ليست الجهود التي تبذلها سورية للبقاء في قلب الشؤون الداخلية العربية استثمارات سياسية واستراتيجية تهدف إلى الحصول على مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أكبر، وإنما هي تضحيات يقوم بها السوريون لايمانهم بالقيم الوطنية والقومية، ودفاعهم عن استقلال العرب وحريتهم وكرامتهم. وفي هذه الحالة لا بأس في أن لا تكون لهذه السياسة عوائد حقيقية، من أي نوع كان. فهي ليست مقصودة لفوائدها وإنما هي واجب يقع على السوريين ولا يمكنهم تركه أو تجاهله من دون أن يفقدوا مبرر وجودهم السياسي والعقائدي معا. ومن شواهد النظرية الأولى اعتقاد مراقبين كثر، بل ومسؤولين سوريين، أن التحالف مع طهران ضمن ولا يزال يضمن وجود حزب الله كورقة للضغط على إسرائيل وإجبارها على إعادة الجولان إلى سورية. وينطبق الأمر نفسه على الدعم السوري السابق للحركة الانفصالية الكردية بقيادة أوجلان في تركيا. فقد كان الرئيس حافظ الأسد يعتقد أنه سوف يتمكن عن طريق هذا التحالف من إجبار أنقرة على الاعتراف بحصة سورية الطبيعية من مياه الأنهار المشتركة، التي توجد منابعها في تركيا. أما التحالف مع حركات المعارضة الفلسطينية، مهما كان اتجاهها السياسي والعقائدي، علمانيا أم إسلاميا، فالهدف منه قطع الطريق على أي تسوية منفردة يمكن للحركة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، الأقرب في تحالفاته إلى مصر والمملكة السعودية، أن تعقدها مع إسرائيل قبل أن يتم التوصل إلى تسوية سورية إسرائيلية تعيد الجولان المحتل.
لكن بالرغم من أن النظام يستخدم الحجتين لتبرير خياراته السياسية، خطاب الواقعية السياسية وخطاب المثالية الايديولجية القومية، إلا أن الخطاب القومي هو الذي يسود أحاديث وخطب المسؤولين في الحزب والدولة. هكذا لا يكف المسؤولون السوريون، عندما يوجه لهم النقد بسبب تدخلهم في الشؤون العراقية أو اللبنانية أو الفلسطينية، عن تكرار الفكرة ذاتها التي تفيد بأن سورية قدمت تضحيات كبيرة في لبنان، أو أنها لا تقبل بتقسيم العراق أو تغيير طبيعته القومية، أو أنها ترفض تصفية القضية الفلسطينية من قبل التيارات الانهزامية والاستسلامية. أما المعارضة فهي تستهين كثيرا بالحجة القومية التي يستخدمها المسؤولون السوريون، وترى فيها وسيلة للتغطية على المقاربة الأولى أو تبريرا لها. لكن المعارضة لا تناقش جديا نظرية الواقعية السياسية التي تنظر إلى النشاطية المفرطة على أنها الخيار الوحيد لسورية إذا أرادت أن تحافظ على موقعها الإقليمي وتتملك أوراقا للفعل الاستراتيجي تضمن مصالحها الوطنية وتبعد عنها القوى والحركات الطامعة فيها أو المهددة لاستقرارها ووحدتها الوطنية. فهي إما أنها تشارك في النظرة ذاتها إلى مسألة النفوذ الإقليمي، أو بعبارة أدق سياسة الهيمنة الإقليمية، التي اعتبرها أنصار الحكم البعثي باستمرار على أنها مركزالإنجاز الرئيسي لنظام الأسد، أو أنها لا تأخذ مأخذ الجد ادعاءات النظام حول مبررات السياسات التدخلية الخارجية وتتهمه مسبقا بأنه لا يهدف منها إلا إلى خدمة النظام وتأمين دفاعاته ومصالحه، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية السورية. لكن هذا الموقف يقطع الطريق مسبقا على أي مناقشة جدية لأهداف السياسة الخارجية السورية وأساليب عملها. ويفقد المعارضة نفسها في هذه الحالة فرصة بلورة سياسة خارجية سورية وطنية بالفعل، أي لا تتوسل خدمة نظام أو عقيدة او رؤية خاصة ولا الدفاع عن مصالح فئوية.
ينبغي في اعتقادي، بالعكس من ذلك، أخذ ادعاءات النظام على محمل الجد حتى يمكن فحصها بطريقة منهجية تمكننا وحدها من بلورة رؤية لأهداف السياسة الوطنية السورية ومعرفة أفضل الأساليب لخدمتها والدفاع عنها. والسؤال الذي يطرح اليوم، ونحن على أعتاب حرب إقليمية وحروب طوائفية منظورة وغير منظورة، تشكل التدخلية السورية أحد ذرائعها ومبرراتها، هل كان الانخراط في النزاعات الداخلية للأقطار العربية، سواء جاء استجابة لمراكمة أوراق ضغط استراتيجية أو تحقيقا لعقيدة قومية، الخيار الوحيد الممكن لبناء استراتيجية سورية وطنية، أم كان من المحتمل الوصول إلى الأهداف ذاتها بالطرق الدبلوماسية وأساليب التفاوض السياسية؟ وهل ساعدت هذه التدخلات في النزاعات الداخلية العربية والإقليمية في تحقيق المصالح السورية أو تحقيق جزء منها، أم عملت بالعكس على ابعاد دمشق بشكل أكبر عن إمكانية ايجاد الحلول لمشاكلها الوطنية؟ والجواب على هذين السؤالين يفترض منطقيا الإجابة على سؤال سياسي أسبق يتعلق بتعريف المصالح الوطنية السورية، وتحديد في ما إذا كانت مصلحة نوعية واحدة أم مصالح متعددة ومتباينة في سلم الاهمية والأولوية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire