الجزيرة نت
لا يستطيع أحد منا أن ينكر اننا لم نحقق في العقود الخمس الماضية التي أعقبت الاستقلال أيا من أهدافنا الوطنية، سواء ما تعلق منها بتحرير فلسطين أو حماية الاستقلال أو توحيد البلاد العربية كما حلم بذلك الآباء المؤسسون. وبدل ذلك نحن اليوم الهدف الرئيسي للحرب والتدخلات العسكرية وسياسات الوصاية والتمزيق الاتني والطائفي معا، من دون أن يكون لدينا أي خطة متسقة للرد.
لا ينبع ذلك من نقص في المصالح التي تربطنا بالآخرين، والتي كان من الممكن تثميرها لتحقيق أهدافنا. كما لا يكمن في خمود شعوبنا ورفضها تقديم التضحيات. ولا تكمن كذلك في ضعف مقاوماتنا أو غيابها. فنحن نملك أكبر احتياطي للطاقة في العالم يثير منافسة دائمة بين الدول الصناعية، ونحظى بأفضل المواقع الجيوستراتيجية الدولية، وتتميز منطقتنا بأنها الموطن الأول للترات الروحي لجزء كبير من الانسانية. كما أن شعوبنا لم تبخل في البذل خلال القرن الماضي بأكمله، إذ لم تتوقف ثوراتها ضد المحتلين ولا استكانت للعدوان الخارجي. ولا تزال المقاومة، بما فيها المسلحة، هي الشعار الأكثر تعبئة للرأي العام.
ما الذي يفسر إذن هذه الحصيلة المزرية لسياساتنا الخارجية؟ ولماذا حققت شعوبنا أقل بكثير مما حققته شعوب ليس لديها عشر الموارد الاستراتيجية التي نملكها، ولا تتمتع لا بموقع استراتيجي استثنائي، ولم يظهر جمهورها ما اظهره الجمهور العربي من إرادة مقاومة واستعداد للتضحية وإنكار الذات؟ قليلا ما طرحنا على أنفسنا مثل هذا السؤال. فقد اعتدنا على التغطية على إخفاقتنا بتصويرها أحيانا وكأنها انتصارات أو انتصارات مؤجلة، أو كما هو الحال اليوم، بالاستسلام والتسليم لفكرة مخدرة ومجهضة لإرادة التحرر عندنا هي أننا مستهدفين. وهذا ما جنبنا التساؤل عن صحة المناهج السياسية التي اتبعناها ونتبعها في التعامل مع العالم الخارجي الدولي، وعن السبب الذي صرنا فيه مستهدفين وتحولنا إلى مسرح لنزاعات الآخرين.
سيطرت خلال العقود القليلة الماضية مقاربتان على سياسات حكوماتنا وعلى تعاملها مع العالم الخارجي ليس لأي منهما حظ من المعقولية. ففي مقابل نزعة الأغلبية الساحقة من النظم العربية الحاكمة إلى الالتحاق بواشنطن والتكيف مع استراتيجياتها الإقليمية بل والدولية من دون نقاش، نمت في صفوف الرأي العام العربي نزعة معارضة تماما لهذه السياسات تثمن كل ما من شأنه تعميق القطيعة مع الغرب وإدانة سياساته والعداء له. وكما تبدو المقاربة الأولى للسياسة الخارجية العربية وكانها استسلام تمليه مصالح بعض النخب الحاكمة التي لا تفكر في مصالح شعوبها، تبدو المقاربة الثانية وكأنها تمسك بقيم الوطنية التي عبرت عنها في مرحلة سابقة الحركة القومية العربية، وتكاد تتميز في تجسيدها اليوم الحركات الاسلامية السياسية على مختلف اتجاهاتها، في مواجهة النخب المستلبة. وتستفيد بعض النظم الأكثر عزلة عن شعوبها من التماهي مع هذه المقاربة الثانية للحصول على مباركة الرأي العام العربي لاختياراتها السياسية، بما فيها الداخلية، وإخراس أصوات معارضاتها الداخلية، كما تستفيد منها بعض القوى المعارضة أيضا لعزل أنظمتها وتأكيد شرعية وجودها باسم قيادة حركة المقاومة الوطنية والقومية ضد السياسات العدوانية الغربية.
ينبغي أن نعترف اليوم، بعد عقود طويلة عاصفة شهدتها الشعوب العربية أن أيا من هاتين المقاربتين لم تحققا الإنجازات المطلوبة أو المنتظرة، لا على جبهة الصراع لاستعادة الحقوق الوطنية في فلسطين وغيرها، ولا على جبهة العمل لتقريب مصالح الشعوب العربية وتجاوز خلافات دولهم، ولا على مستوى تعزيز التبادل والتواصل بين هذه الشعوب وتحقيق الحد الأدنى من أهداف العرب التاريخية، أي تعزيز اواصر التضامن بين أبناء ما نطلق عليه حتى اليوم الأمة الواحدة. وبالعكس، بقدر ما عكس التباين بين المقاريتين القطيعة القائمة بين النخب الحاكمة والشعوب أضعف قدرات السياسة العربية الخارجية وأفرغها من مضمونها، فصار التفاهم مع الغرب يعني بالفعل التسليم للقوى الأجنبية بتقرير السياسات الإقليمية باسم الاعتدال، وتحول العداء لهذا الغرب نفسه باسم الرديكالية القومية والإسلامية إلى القبول أكثر فأكثر بالقطيعة مع العالم واستمراء الهامشية وتمجيد الانعزال باسم الخصوصية والاستقلال.
والواقع لا يمكن بناء سياسة خارجية منتجة وفعالة قادرة على خدمة المصالح الوطنية من دون بناء علاقات تفاهم وتعايش وثقة مع المنظومة الدولية، وفي مقدما الدول العظمى التي تتحكم بمعظم الموارد المادية واللامادية في العالم، وتملك الوسائل التي تمكنها من الحكم على الشعوب والجماعات بالعزل والتهميش بالفعل. لكن بالمقابل لا يمكن أن ينتج هذا التفاهم سياسات فعالة إذا قام على الثقة من جانب واحد. ومن المحتم أن يتحول إلى التحاق وإذعان إذا افتقر إلى الحد الأدنى من الندية والاحترام المتبادل حتى لا نقول الاستقلال. وهو ما يفسر الطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسات مجموعة ما أطلق عليه منذ عقود اسم دول الاعتدال العربي، فصار الاعتدال يعني ببساطة التكيف مع أهداف الاستراتيجيات الغربية والخضوع لها طوعا ومن دون نقاش.
وبالمثل، لا نستطيع أن نبنى سياسة خارجية منتجة وفعالة تخدم مصالح شعوبنا إذا قبلنا مخاطر العزلة ومارسنا سياسات ونشاطات ينظر إليها الرأي العام الدولي على أنها لا قانونية أو لا إنسانية أو لا أخلاقية، أي لا مشروعة، تقدم الذرائع والحجج التي تسمح للدول الكبرى الاستعمارية أو شبه الاستعمارية بعزلنا وتشديد الحصار السياسي أو الفكري والنفسي علينا على الصعيد الدولي.
قد يقول البعض، وهذا هو لسان حال الغالبية العظمى من الرأي العام العربي، أن الدول الغربية الكبرى التي تسيطر على منطقتنا وتحتفظ فيها بمصالح حيوية، تتبنى تجاهنا سياسات عدوانية مكشوفة، ولا تقبل حتى بالحوار معنا، وربما لا تقبل بأن تتعامل معنا كطرف أصيل حقيقي في مواجهتها. وهذا هو رأيي منذ فترة طويلة أيضا. وهو السبب الرئيسي الذي يفسر أساسا انقلاب الرأي العام العربي نحو المواقف الرديكالية. لكن رفض هذه الدول للتعامل معنا على قاعدة الحد الأدنى من الندية والاحترام لا ينبغي أن يدفع بنا إلى التضحية بأدوات عملنا الدبلوماسية والسياسية والايديولوجية، أي أن يقودنا إلى موقف اليأس والتسليم بعزلتنا والقبول بالعمل كمتمردين على المجموعة الدولية، بصرف النظر عن حقيقة وجود هذه المجموعة وطبيعة القوى التي تتحكم بوعيها وما يسمونه بالشرعية الدولية. ليس ذلك تشكيكا بحقنا الطبيعي في مقاومة السياسات الظالمة، ولا تخليا عن تأكيد مواقفنا الصائبة، وإنما من أجل ضمان نتائج أفضل لهذه المقاومة وبالتالي استعادة الحقوق المرتبطة بها والتي تبررها. وقبولنا بمخاطر الانكفاء على الذات وقطع الأمل في العمل الدولي، انطلاقا من ايماننا بأننا ضحايا، وأنه لا ينفع لنا الانشغال بالرأي العام الدولي ومعرفة آليات عمله اللاعنفية وعمل المنظومة الدولية عموما، هو الذي يفسر الطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسات الرديكالية العربية. أي كيف عملت هذه السياسات على تحويلنا إلى هدف معلن للحرب العالمية الجديدة، التي تساهم فيها وتشارك جميع الدول والشعوب، بما فيها الدول والشعوب العربية، من دون رغبتها أحيانا، أعني الحرب ضد الإرهاب.
لم نحقق شيئا من أهدافنا الوطنية والداخلية باتباع سياسات التسليم والاستسلام الموسومة باسم الاعتدال. كما أننا لم نحقق شيئا من هذه الأهداف نفسها من اتباع سياسات المقاومة السلبية أو ما نسميه اليوم الممانعة، لا في العراق ولا في ليبيا ولا في فلسطين ولا في سورية ولا في لبنان. وحتى حين نجحنا بفضل هذه السياسة في منع الخصم من تحقيق أهدافه أو بعضا منها، فقد كانت العواقب وخيمة على الشعوب، وكان ثمن ذلك باهظا جدا يتجاوز كل احتمال، وكل ما هو مقبول دفعه بقدر ما يتساوى مع انفراط عقد الشعوب وتدمير أسس اجتماعها نفسه.
لا يكمن الخطأ في السعي إلى التفاهم مع الدول الغربية المسيطرة على المنطقة، كما لا يكمن في مقاومة هذه السيطرة، فهما عنصران ضروريان لكل سياسة ترفض أن تكون خضوعا لإملاءات خارجية أو خروجا على الاجماعات الدولية. إن خطأها يكمن في القطيعة بينهما مما جعل التفاهم يتحول إلى استسلام والمقاومة تتحول إلى تمرد لا هدف له ولا خطة ولا آفاق. والواقع أن المقاربتين السياستين لا تتناقضان بالرغم من تباينهما، وإنما تكملان بعضهما بعضا. فكما تشكل الرديكالية تعويضا لسياسات التسليم والالتحاق، يجد الاستسلام تبريره في الخوف من رديكالية تعيش بعيدا عن الوقائع وتفتقر للنظرة الواقعية وعقلانية البناء. وكلاهما يعبران في انشقاقهما بين اعتدال التحاقي وتمرد انتحاري عن إزمة العمل الوطني وافتقارنا إلى أي مشروع جماعي، أي عن انقسامنا على أنفسنا في تحديد كل ما يتعلق بمصيرنا.
لا تستقيم سياسة عربية خارجية من دون نجاح النخب الحاكمة في فهم المصالح الوطنية العليا وأخذها في الاعتبار، حتى لو اضطرها ذلك إلى إبراز اختلافها مع الدول الأجنبية الحليفة التي تدعمها في وجه معارضاتها الداخلية، بل والقبول بمخاطر التصادم معها إذا احتاج الأمر. ولا تستقيم سياسة عربية خارجية كذلك من دون احترام الحد الأدنى من معايير التعامل الدولي ومنطق العلاقات الدولية، حتى لو كان هذا المنطق ليس منطق العدالة والانصاف، وإنما يعكس في عمقه موازين القوى الدولية. لكن هذه الموازين هي بالضبط الواقع الذي ينبغي التعامل معه. وعندما نقول الحد الأدنى فذلك بالضبط لأن المنطق الذي يحكم العلاقات الدولية ليس منطقا عادلا. ومن ثم لا يمكن ضمان المصالح الجارية من دون القبول بالتعامل الواقعي مع الواقع، لكن لا يمكن تغيير هذا الواقع الظالم أيضا من دون خيانة المنطق الذي يقوم عليه إلى هذه الدرجة أو تلك. وهذا ما يميز موقفنا عن موقف الدول الكبرى التي ترى فيه مثالا للعدالة والاستقرار، ولا تطرح على نفسها أية أسئلة تتعلق بتعديله أو تحسينه.
من دون الالتزام بأهداف ومصالح وطنية واضحة، تتحول السياسة الخارجية إلى صفقات مع أشخاص ومجموعات حاكمة، وتفقد احترام الدول والشعوب معا. ومن دون الالتزام بمعايير أخلاقية وسياسية وقانونية، تتحول المقاومة في نظر الرأي العام إلى تمرد وتفقد قدرتها على المراكمة والانجاب. لذلك لا يمكن أن تكون السياسية الخارجية ناجحة وتضمن التقدم ما لم تتحل أولا برؤية واضحة للأهداف والمصالح الوطنية العامة، وهو ما يتطلب تمييزها عن مصالح الحاكمين انفسهم والنظام. ولا يمكن أن تثمر إذا لم تقم على قاعدة متينة من علاقات التواصل والتعايش والاحترام بين الشعوب، سواء أكان ذلك في سبيل ضمان عمل القانون أو استخدام القوة تحت سقف القانون أو من أجل إصلاحه. فهي أبعد ما تكون عن مفاهيم التمرد والاستسلام التي تكاد تحكم علاقتنا بالعالم الخارجي وتفسر انتقالنا من فشل إلى فشل. فهي عمل في العلاقات الدولية وعليها، والعلاقات الدولية لا تقوم على القانون وحده كما لا تقوم على القوة المحضة وإنما تقوم على خليط من القوة والقانون. وكما تقتضي المقاومة، بعكس التمرد، استخدام القوة المادية والمعنوية لتحقيق أهداف ايجابية تهدف إلى البناء والإنجاز، يحتاج التفاهم بين الدول حتى يكون ناجعا ومنتجا إلى الحد الأدنى من الندية، أي احترام الذات وعدم الذوبان في الآخر أو التماهي معه.
لا ينبع ذلك من نقص في المصالح التي تربطنا بالآخرين، والتي كان من الممكن تثميرها لتحقيق أهدافنا. كما لا يكمن في خمود شعوبنا ورفضها تقديم التضحيات. ولا تكمن كذلك في ضعف مقاوماتنا أو غيابها. فنحن نملك أكبر احتياطي للطاقة في العالم يثير منافسة دائمة بين الدول الصناعية، ونحظى بأفضل المواقع الجيوستراتيجية الدولية، وتتميز منطقتنا بأنها الموطن الأول للترات الروحي لجزء كبير من الانسانية. كما أن شعوبنا لم تبخل في البذل خلال القرن الماضي بأكمله، إذ لم تتوقف ثوراتها ضد المحتلين ولا استكانت للعدوان الخارجي. ولا تزال المقاومة، بما فيها المسلحة، هي الشعار الأكثر تعبئة للرأي العام.
ما الذي يفسر إذن هذه الحصيلة المزرية لسياساتنا الخارجية؟ ولماذا حققت شعوبنا أقل بكثير مما حققته شعوب ليس لديها عشر الموارد الاستراتيجية التي نملكها، ولا تتمتع لا بموقع استراتيجي استثنائي، ولم يظهر جمهورها ما اظهره الجمهور العربي من إرادة مقاومة واستعداد للتضحية وإنكار الذات؟ قليلا ما طرحنا على أنفسنا مثل هذا السؤال. فقد اعتدنا على التغطية على إخفاقتنا بتصويرها أحيانا وكأنها انتصارات أو انتصارات مؤجلة، أو كما هو الحال اليوم، بالاستسلام والتسليم لفكرة مخدرة ومجهضة لإرادة التحرر عندنا هي أننا مستهدفين. وهذا ما جنبنا التساؤل عن صحة المناهج السياسية التي اتبعناها ونتبعها في التعامل مع العالم الخارجي الدولي، وعن السبب الذي صرنا فيه مستهدفين وتحولنا إلى مسرح لنزاعات الآخرين.
سيطرت خلال العقود القليلة الماضية مقاربتان على سياسات حكوماتنا وعلى تعاملها مع العالم الخارجي ليس لأي منهما حظ من المعقولية. ففي مقابل نزعة الأغلبية الساحقة من النظم العربية الحاكمة إلى الالتحاق بواشنطن والتكيف مع استراتيجياتها الإقليمية بل والدولية من دون نقاش، نمت في صفوف الرأي العام العربي نزعة معارضة تماما لهذه السياسات تثمن كل ما من شأنه تعميق القطيعة مع الغرب وإدانة سياساته والعداء له. وكما تبدو المقاربة الأولى للسياسة الخارجية العربية وكانها استسلام تمليه مصالح بعض النخب الحاكمة التي لا تفكر في مصالح شعوبها، تبدو المقاربة الثانية وكأنها تمسك بقيم الوطنية التي عبرت عنها في مرحلة سابقة الحركة القومية العربية، وتكاد تتميز في تجسيدها اليوم الحركات الاسلامية السياسية على مختلف اتجاهاتها، في مواجهة النخب المستلبة. وتستفيد بعض النظم الأكثر عزلة عن شعوبها من التماهي مع هذه المقاربة الثانية للحصول على مباركة الرأي العام العربي لاختياراتها السياسية، بما فيها الداخلية، وإخراس أصوات معارضاتها الداخلية، كما تستفيد منها بعض القوى المعارضة أيضا لعزل أنظمتها وتأكيد شرعية وجودها باسم قيادة حركة المقاومة الوطنية والقومية ضد السياسات العدوانية الغربية.
ينبغي أن نعترف اليوم، بعد عقود طويلة عاصفة شهدتها الشعوب العربية أن أيا من هاتين المقاربتين لم تحققا الإنجازات المطلوبة أو المنتظرة، لا على جبهة الصراع لاستعادة الحقوق الوطنية في فلسطين وغيرها، ولا على جبهة العمل لتقريب مصالح الشعوب العربية وتجاوز خلافات دولهم، ولا على مستوى تعزيز التبادل والتواصل بين هذه الشعوب وتحقيق الحد الأدنى من أهداف العرب التاريخية، أي تعزيز اواصر التضامن بين أبناء ما نطلق عليه حتى اليوم الأمة الواحدة. وبالعكس، بقدر ما عكس التباين بين المقاريتين القطيعة القائمة بين النخب الحاكمة والشعوب أضعف قدرات السياسة العربية الخارجية وأفرغها من مضمونها، فصار التفاهم مع الغرب يعني بالفعل التسليم للقوى الأجنبية بتقرير السياسات الإقليمية باسم الاعتدال، وتحول العداء لهذا الغرب نفسه باسم الرديكالية القومية والإسلامية إلى القبول أكثر فأكثر بالقطيعة مع العالم واستمراء الهامشية وتمجيد الانعزال باسم الخصوصية والاستقلال.
والواقع لا يمكن بناء سياسة خارجية منتجة وفعالة قادرة على خدمة المصالح الوطنية من دون بناء علاقات تفاهم وتعايش وثقة مع المنظومة الدولية، وفي مقدما الدول العظمى التي تتحكم بمعظم الموارد المادية واللامادية في العالم، وتملك الوسائل التي تمكنها من الحكم على الشعوب والجماعات بالعزل والتهميش بالفعل. لكن بالمقابل لا يمكن أن ينتج هذا التفاهم سياسات فعالة إذا قام على الثقة من جانب واحد. ومن المحتم أن يتحول إلى التحاق وإذعان إذا افتقر إلى الحد الأدنى من الندية والاحترام المتبادل حتى لا نقول الاستقلال. وهو ما يفسر الطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسات مجموعة ما أطلق عليه منذ عقود اسم دول الاعتدال العربي، فصار الاعتدال يعني ببساطة التكيف مع أهداف الاستراتيجيات الغربية والخضوع لها طوعا ومن دون نقاش.
وبالمثل، لا نستطيع أن نبنى سياسة خارجية منتجة وفعالة تخدم مصالح شعوبنا إذا قبلنا مخاطر العزلة ومارسنا سياسات ونشاطات ينظر إليها الرأي العام الدولي على أنها لا قانونية أو لا إنسانية أو لا أخلاقية، أي لا مشروعة، تقدم الذرائع والحجج التي تسمح للدول الكبرى الاستعمارية أو شبه الاستعمارية بعزلنا وتشديد الحصار السياسي أو الفكري والنفسي علينا على الصعيد الدولي.
قد يقول البعض، وهذا هو لسان حال الغالبية العظمى من الرأي العام العربي، أن الدول الغربية الكبرى التي تسيطر على منطقتنا وتحتفظ فيها بمصالح حيوية، تتبنى تجاهنا سياسات عدوانية مكشوفة، ولا تقبل حتى بالحوار معنا، وربما لا تقبل بأن تتعامل معنا كطرف أصيل حقيقي في مواجهتها. وهذا هو رأيي منذ فترة طويلة أيضا. وهو السبب الرئيسي الذي يفسر أساسا انقلاب الرأي العام العربي نحو المواقف الرديكالية. لكن رفض هذه الدول للتعامل معنا على قاعدة الحد الأدنى من الندية والاحترام لا ينبغي أن يدفع بنا إلى التضحية بأدوات عملنا الدبلوماسية والسياسية والايديولوجية، أي أن يقودنا إلى موقف اليأس والتسليم بعزلتنا والقبول بالعمل كمتمردين على المجموعة الدولية، بصرف النظر عن حقيقة وجود هذه المجموعة وطبيعة القوى التي تتحكم بوعيها وما يسمونه بالشرعية الدولية. ليس ذلك تشكيكا بحقنا الطبيعي في مقاومة السياسات الظالمة، ولا تخليا عن تأكيد مواقفنا الصائبة، وإنما من أجل ضمان نتائج أفضل لهذه المقاومة وبالتالي استعادة الحقوق المرتبطة بها والتي تبررها. وقبولنا بمخاطر الانكفاء على الذات وقطع الأمل في العمل الدولي، انطلاقا من ايماننا بأننا ضحايا، وأنه لا ينفع لنا الانشغال بالرأي العام الدولي ومعرفة آليات عمله اللاعنفية وعمل المنظومة الدولية عموما، هو الذي يفسر الطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسات الرديكالية العربية. أي كيف عملت هذه السياسات على تحويلنا إلى هدف معلن للحرب العالمية الجديدة، التي تساهم فيها وتشارك جميع الدول والشعوب، بما فيها الدول والشعوب العربية، من دون رغبتها أحيانا، أعني الحرب ضد الإرهاب.
لم نحقق شيئا من أهدافنا الوطنية والداخلية باتباع سياسات التسليم والاستسلام الموسومة باسم الاعتدال. كما أننا لم نحقق شيئا من هذه الأهداف نفسها من اتباع سياسات المقاومة السلبية أو ما نسميه اليوم الممانعة، لا في العراق ولا في ليبيا ولا في فلسطين ولا في سورية ولا في لبنان. وحتى حين نجحنا بفضل هذه السياسة في منع الخصم من تحقيق أهدافه أو بعضا منها، فقد كانت العواقب وخيمة على الشعوب، وكان ثمن ذلك باهظا جدا يتجاوز كل احتمال، وكل ما هو مقبول دفعه بقدر ما يتساوى مع انفراط عقد الشعوب وتدمير أسس اجتماعها نفسه.
لا يكمن الخطأ في السعي إلى التفاهم مع الدول الغربية المسيطرة على المنطقة، كما لا يكمن في مقاومة هذه السيطرة، فهما عنصران ضروريان لكل سياسة ترفض أن تكون خضوعا لإملاءات خارجية أو خروجا على الاجماعات الدولية. إن خطأها يكمن في القطيعة بينهما مما جعل التفاهم يتحول إلى استسلام والمقاومة تتحول إلى تمرد لا هدف له ولا خطة ولا آفاق. والواقع أن المقاربتين السياستين لا تتناقضان بالرغم من تباينهما، وإنما تكملان بعضهما بعضا. فكما تشكل الرديكالية تعويضا لسياسات التسليم والالتحاق، يجد الاستسلام تبريره في الخوف من رديكالية تعيش بعيدا عن الوقائع وتفتقر للنظرة الواقعية وعقلانية البناء. وكلاهما يعبران في انشقاقهما بين اعتدال التحاقي وتمرد انتحاري عن إزمة العمل الوطني وافتقارنا إلى أي مشروع جماعي، أي عن انقسامنا على أنفسنا في تحديد كل ما يتعلق بمصيرنا.
لا تستقيم سياسة عربية خارجية من دون نجاح النخب الحاكمة في فهم المصالح الوطنية العليا وأخذها في الاعتبار، حتى لو اضطرها ذلك إلى إبراز اختلافها مع الدول الأجنبية الحليفة التي تدعمها في وجه معارضاتها الداخلية، بل والقبول بمخاطر التصادم معها إذا احتاج الأمر. ولا تستقيم سياسة عربية خارجية كذلك من دون احترام الحد الأدنى من معايير التعامل الدولي ومنطق العلاقات الدولية، حتى لو كان هذا المنطق ليس منطق العدالة والانصاف، وإنما يعكس في عمقه موازين القوى الدولية. لكن هذه الموازين هي بالضبط الواقع الذي ينبغي التعامل معه. وعندما نقول الحد الأدنى فذلك بالضبط لأن المنطق الذي يحكم العلاقات الدولية ليس منطقا عادلا. ومن ثم لا يمكن ضمان المصالح الجارية من دون القبول بالتعامل الواقعي مع الواقع، لكن لا يمكن تغيير هذا الواقع الظالم أيضا من دون خيانة المنطق الذي يقوم عليه إلى هذه الدرجة أو تلك. وهذا ما يميز موقفنا عن موقف الدول الكبرى التي ترى فيه مثالا للعدالة والاستقرار، ولا تطرح على نفسها أية أسئلة تتعلق بتعديله أو تحسينه.
من دون الالتزام بأهداف ومصالح وطنية واضحة، تتحول السياسة الخارجية إلى صفقات مع أشخاص ومجموعات حاكمة، وتفقد احترام الدول والشعوب معا. ومن دون الالتزام بمعايير أخلاقية وسياسية وقانونية، تتحول المقاومة في نظر الرأي العام إلى تمرد وتفقد قدرتها على المراكمة والانجاب. لذلك لا يمكن أن تكون السياسية الخارجية ناجحة وتضمن التقدم ما لم تتحل أولا برؤية واضحة للأهداف والمصالح الوطنية العامة، وهو ما يتطلب تمييزها عن مصالح الحاكمين انفسهم والنظام. ولا يمكن أن تثمر إذا لم تقم على قاعدة متينة من علاقات التواصل والتعايش والاحترام بين الشعوب، سواء أكان ذلك في سبيل ضمان عمل القانون أو استخدام القوة تحت سقف القانون أو من أجل إصلاحه. فهي أبعد ما تكون عن مفاهيم التمرد والاستسلام التي تكاد تحكم علاقتنا بالعالم الخارجي وتفسر انتقالنا من فشل إلى فشل. فهي عمل في العلاقات الدولية وعليها، والعلاقات الدولية لا تقوم على القانون وحده كما لا تقوم على القوة المحضة وإنما تقوم على خليط من القوة والقانون. وكما تقتضي المقاومة، بعكس التمرد، استخدام القوة المادية والمعنوية لتحقيق أهداف ايجابية تهدف إلى البناء والإنجاز، يحتاج التفاهم بين الدول حتى يكون ناجعا ومنتجا إلى الحد الأدنى من الندية، أي احترام الذات وعدم الذوبان في الآخر أو التماهي معه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire