الاتحاد 1 فيفرييه 07
تعيش المجتمعات العربية رهينة طغيانين: الطغيان السياسي الذي يتحكم بسلطة الدولة ليهمش المجتمع ويستبعده من أي قرار، والطغيان الفكري الذي يتحكم بالرأي العام ويحوله إلى كتلة واحدة صماء وتابعة معا. وكلاهما يقومان على نفي الفرد وتجريده من استقلاله وحرية تفكيره ووعيه النقدي في سبيل إلحاقه بهما واستتباعه. فالطاغية لا يقبل بأقل من الاستسلام والإذعان وصاحب الوصاية الدينية لا يقبل بأقل من التسليم والانصياع لما يعتبره الرأي الصحيح والتفسير الحق. من هنا ليس من المبالغة القول إن هناك تحالفا موضوعيا بين احتكار السلطة واحتكار الحقيقية. فهما يكملان بعضهما البعض. وكما يدل على ذلك واقع الحال لا يعيشان إلا معا ولا يتواجدان إلا متجاورين ومتضامنين. فهما يتغذيان من نتائج عملهما المتبادل. فبقدر ما يجرد الطغيان السياسي الفرد من وعيه وضميره وحسه النقدي، أي من إرادته واستقلاله، يحوله إلى لقمة سائغة لأصحاب المشاريع الدينية أو شبه الدينية التي تقدم له فرصة التعويض عن انعدام الهوية الشخصية في الانحلال في شخصية جماعية واحدة، هي التجسيد المطلق للوعي والضمير والإرادة والاستقلال.
هذا ما يفسر ما تعيشه مجتمعاتنا من حالة مواجهة دائمة واقتتال، وعدم التردد في تفجير السيارات المفخخة في الشوارع والأسواق وقتل العشرات بل المئات يوميا من دون أي شعور بالمسؤولية أو بتأنيب ضمير. وإذا كان العراق هو اليوم البؤرة الأكثر تجسيدا لعواقب نظام الطغيان المزدوج هذا، فهو ليس الوحيد ولا الأخير. فكما أن المدنية تقوم على الاستثمار في الفرد وتنمية استقلاله الروحي والفكري، تتغذى البربرية من قتل الفرد وتفريغه من الوعي والإرادة والضمير والحس النقدي والاستقلال، كي ما تحوله إلى أداة تنفيذ فحسب، يتلاعب بها عقل واحد مفكر ومدبر، سواء أكان طاغية أو اميرا للجماعة. وبقدر ما يستدعي الابداع أناسا على درجة من الاستقلال الفكري والروحي والوعي والإرادة والمسؤولية الشخصية، يقوم الانحطاط على تعميم الإمعية والتبعية الشخصية والالتحاق. كلا السلطتين تمثلان نمطا واحد من السلطة المطلقة التي تستتبع الآخرين ولا تطلب منهم سوى الطاعة والانقياد. وهما على نقيض تنمية ملكة النقد والتفكير الشخصي الحر. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر، بل الحقيقة. كلاهما ينزع إلى النظر إلى المجتمعات ككتل تابعة، ولا يهتم أي اهتمام باستقلال الفرد الفكري والسياسي وتحرره.
بسحق الفرد وقتل وعيه النقدي والتمييزي حكمنا على أنفسنا بالوصول إلى طريق مسدودة والسقوط إلى هاوية القتل على الهوية وتحليل المجازر الأكثر وحشية. وصرنا على شفا حرب أهلية علنية أو كامنة، في أكثر من قطر وأكثر من ميدان، نفتقر فيها إلى فرص الحسم كما نفتقر إلى فرص التسوية، بل إلى احتمال ايجاد الوساطة الناجعة لوقف التدهور المستمر. وهو ما يحتاج في نظري إلى وقفة تأمل ومحاسبة للنفس من قبل قادة الرأي، من صحفيين ومفكرين وسياسيين وفنانين وأدباء وغيرهم من الذين ينصت لهم الجمهور ويتمثل بأفكارهم وآرائهم. فعلى هؤلاء تقع مسؤولية استعادة المبادرة لتحرير الفرد وانتزاعه من الولاءات العصبية والالتزامات اللامسؤولية، اللاأخلاقية واللاإنسانية، التي دفعته إليها الديكتاتورية السياسية والديكتاتورية الفكرية معا، ولا يزال يقود إليها احتكار السلطة من جهة والتماهي مع الحقيقة من جهة أخرى، من تدمير لكل أسس التفكير الشخصي والمسؤول. ويستدعي هذا مسبقا تحرر قادة الرأي أنفسهم من الولاءات الجماعية العمياء وتحليهم بالشجاعة الكافية للتعبير عن الرأي المستقل والحر، والوقوف ضد أعمال العنف والاغتيال والتصفيات الدموية، التي أصبحت الخبز اليومي للمجتمعات المشرقية اليوم. وليس هناك بديل عن ذلك. فالتسليم بالقيادة للنخب الاستبدادية الفاسدة على مستوى الدولة، ولأصحاب الولايات الدينية المتعددة الأشكال والأنواع على مستوى الرأي العام، لن يعني سوى الانغماس بشكل اكبر في الحروب الدموية والاقتتال.
تتطلب إعادة بناء الفرد الحر المستقل القادر على التمييز بين الصح والخطأ والخير والشر والعمل الإنساني والعمل الوحشي، أي الفرد الذي يتمتع بشخصية وذاتية حقيقية ولا يتصرف بدافع الغريزة والدفاع عن المصالح الخاصة أو برغبة الثأر والانتقام والاستئثار، الخروج من منطق الأحادية السياسية والفكرية وإعمال منطق التعددية القائم على تأكيد مشروعية الاختلاف والتباين في الموقف ونسبية المعرقة والحقيقة. فهذا هو شرط تكوين وعي نقدي يحمي الفرد من التورط في عمليات القتل الهمجية بدافع الولاء أو الانتماء أو الخوف من الآخر أو الشك فيه أو نتيجة تكفير الرأي الآخر وتخوين الموقف المختلف. وهو الشرط ذاته الذي نحتاج إليه لجمع شتات النخبة الممزقة والمتوزعة بين ولاءات وانتماءات واستعداءات وثارات وغرائز متضاربة ومتحاربة، وإعادة بنائها على أسس تضمن حدا ضروريا من الاجماع، مع القبول في الوقت نفسه التعامل مع تباين المصالح والمواقف والآراء الذي هو واقع المجتمعات. إن إحياء مبدأ التعددية وتشغيله ليس الطريق الوحيد للقضاء على الفرد الإمعة وتكوين الوعي الحر فحسب وإنما لتكوين النخب الاجتماعية المتسقة المسؤولة، القادرة على تطبيق مبدا المحاسبة والمساءلة. فهو المبدأ المؤسس للحرية الفكرية والسياسية بقدر ما يشكل شرط الوحدة الحية التي تحتمل في الوقت نفسه عنصري التنوع والاتساق معا.
لم يعد الاحتكار المديد للسلطة السياسية واستخدام الدولة أداة للقهر والاستعباد من قبل النخب الحاكمة هو السبب الوحيد لانعدام التعددية. لقد نشأت في العقود الاخيرة، وفي موازاة هذا الاحتكار، أسباب إضافية لاغتيال التعددية ومحو فكرتها تماما من الوجود، تقف في مقدمها السيطرة المتزايدة للفكر الواحد على ساحة الرأي العام وتصفية الآراء المغايرة بصورة مقصودة او غير واعية. وهذا ما يعبر عنه نجاح تيارات الفكر الاسلامي، على اختلافها، في احتلال ميادين السلطة الاجتماعية: الثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية والفنية، وحرمان الأطراف الأخرى من أصحاب الاختصاص من مشاركتها في تكوين الرأي العام حتى في ميدان اختصاصها نفسه. ولا يدفع هذا إلى ضرب ثقة هذه الأطراف الاجتماعية بنفسها وزيادة يأسها، ولكنه يقود أكثر من ذلك إلى إفقار شديد للفكر وللثقافة العربيتين، بقدر ما يجعل من أصحاب الرأي الديني المخاطب الأول، إن لم يكن الوحيد، للرأي العام في كل القضايا والموضوعات، بما فيها الطبية والعلمية. فهو يخفض الخطاب في المجتع والمعرفة الاجتماعية، المتعددة والمتنوعة والمركبة بالضرورة، بكاملها إلى معرفة لا هوتية أو فقهية، ويقزم النخبة الاجتماعية إلى مكون واحد وحيد من مكوناتها، فيطغى على الحياة الاجتماعية بكاملها، خطاب واحد ولون واحد وسلوك واحد، وتغييب معالم وحيوات وانماط كثيرة أخرى.
أول ما ينبغي الالتفات له في هذا المسار هو وسائل إعلامنا التي تكاد تستسلم لهذا الواقع، وتفتتن بعرض هذه المواجهة الكارثية بين نخبتين متنابذتين ومتكاملتين معا، من دون ان تدرك انها تسد بذلك الطريق على جماعات الرأي والاختصاص الأخرى، وتحرمها من التعبير عن رأيها وتاكيد حضورها، عبر المشاركة في النقاشات العامة، والمساهمة في بلورة الحلول المطلوبة. فمن حق الصناعيين والنقابيين والعلماء والفنانين والإداريين والمبدعين في جميع الميادين أن يكون لهم مكانهم في وسائل الإعلام، وأن يتمكنوا هم أيضا من التواصل عبرها مع الرأي العام. كما أن من حقهم أن تكون لهم الكلمة الأخيرة في ميادين عملهم واختصاصهم، وأن لا يكون عليهم وصاية سياسية او دينية في التعبير عن أرائهم ومواقفهم وتحليلاتهم هذه. لا يتفق هذا مع مصلحة المجتمع فحسب، ولكن مع مصلحة جميع الاطراف أيضا، بما فيها تلك التي تسيطر على الرأي العام اليوم. فهو وحده الكفيل بوقف السقوط نحو هاوية الاقتتال والحروب الاهلية، والعودة إلى الوضع السليم، أي التعددية الطبيعية التي تشكل سمة دائمة للمجتمعات وللرأي العام في كل مكان وزمان، والثقة المتبادلة بين أطراف النخبة الاجتماعية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire