الاتحاد 25 اكتوبر 06
قلت في مقال سابق أن الرأي العام العربي ممزق بين خيار إصلاح الدولة، بالرغم من كل ما يسمها من نقائص، وفي مقدمها ارتهانها للإرادة الخارجية، المافيوية والأجنبية، على أمل تحسين شروط عملها، وخيار المقاومة الذي يعكس انهيار الثقة بالدولة ويطمح إلى بناء سلطة أهلية، متحررة من الهيمنة الأجنبية، وقادرة على تلبية مطالب المجتمعات المتعلقة بالاستقلال الضامن للكرامة والهوية. وبينت في مقال آخر كيف أن سياسات السيطرة الخارجية قد قوضت مشروع الدولة ووضعته على طريق مسدود، كما يشير إلى ذلك تعثر خطط الاصلاح وموتها قبل أن ترى النور. وبالمثل كيف أن المقاومة التي نشأت في سياق الصراع ضد الدولة القاصرة، وعلى أنقاض الوطنيات التي نشأت بعد الاستقلال، قد ولدت بالضرورة في إطار مقاومات محمولة على العصبية، مما يحرمها من أي أمل في أن تقود إلى طريق آخر غير الصدامات المذهبية والطائفية والإتنية والدينية. فهي بالتعريف غير قادرة على إعادة بناء الوطنية السياسية التي تشكل روح الدولة القانونية، التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم في إطار سياسي واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والإتنية.
وكل يوم يمر يتأكد فيه بشكل أكبر الوصول إلى هذا الطريق المسدود الذي دخل فيه مشروع الدولة، وطريق الفوضى الذي يهدد بإدخالنا فيه مشروع المقاومات المذهبية. وما حصل في الأيام القليلة الماضية من استعراض ميليشيات القاعدة لقوتها في شوارع الرمادي العراقية يعكس تماما مستقبل المجتمعات الخاضعة لمقاومات لا يمنعها عداؤها الفعلي والقاسي للأجنبي من أن تسير في اتجاه بناء إمارات تحكمها ميليشيات خاصة، تلغي مشروع الدولة القانونية، وتقود حتما إلى تعميق الانقسامات والنزاعات الداخلية. تماما كما عكس انهيار حلم الدولة الفلسطينية الموعودة، وتفجر الصراع على السلطة الوطنية الوهمية بين القوى القومية والاسلامية في فلسطين، المازق الذي وصل إليه مشروع الدولة المرتهنة للاجنبي والمفرغة من الاستقلال والسيادة.
في هذه الحالة على ماذا يمكن للشعوب العربية أن تراهن للخروج من الوضع المتردي الذي تعيشه على جميع المستويات، وما هو البديل لسياسات إصلاح الدولة وتوسيع عمليات المقاومة؟
والجواب أنه لا يمكن الفصل بين الدولة والمقاومة أصلا . فالدولة الحديثة من حيث هي دولة المواطنين، والتجسيد لإرادتهم تفترض من داخلها مبدأ المقاومة، أي التصدي لكل محاولات مصادرة هذه الإرادة من قبل قوة داخلية أو خارجية، ولا تستقيم من دون ضمان حق المقاومة، بل الثورة، لتأكيد قيم الحرية والمواطنية والسيادة الشعبية ضد مغتصبيها. وبالمثل ليس لأي مقاومة قيمة وشرعية إذا لم تقد إلى بناء هذه الدولة القانونية المواطنية التي تضمن الحريات والحقوق المتساوية. والفرق بين التمرد والمقاومة يكمن بالضبط في أن التمرد هو سمة الحركات التي تقف ضد الدولة رفضا للقانون والشرعية، بينما تقوم المقاومة لتأكيد تطبيق القانون المصادر وشرعيته. فأي دولة من دون ضمان حق مقاومة الشعب مدانة بالتحول إلى مملكة خاصة، بل مزرعة للمسكين بها، وأي مقاومة لا تنطلق من مبدأ تحقيق الحرية والسيادة الشعبية والقانون تتحول إلى تمرد يعطل إمكانية نشوء دولة جديدة مؤسسة على مباديء العدل والشرعية بدل تقريب اجلها. وهذا الارتباط بين المقاومة التي تجسد المصدر الشعبي للسلطة، وتعبر عن إرادة المجتمع التي تكمن وراء الدولة، وتضمن السير السليم لمؤسساتها، والدولة التي تشكل التجسيد المؤسساتي لحكم الحرية والسيادة والقانون، هي أساس تنظيم الإرادة الشعبية على أسس قانونية وعقلانية سليمة.
ولم يحصل الانفصال والتعارض بين مشاريع الدولة ومشاريع المقاومة إلا بقدر ما حصل إفسادهما معا وأفراغهما من مضمونهما. فانحط معنى الدولة ليطابق واقعها الراهن المساوي لفكرة التسلط بالقوة على مقدرات شعب وموارده وتحويله إلى أداة لخدمة السلطة والممسكين بها، وانحط معنى المقاومة لتصبح قناعا لمشاريع حروب أهلية سافرة أو خفية. وهكذا خرجت الدولة عن إرادة المجتمع وعليه وتحولت المقاومة إلى ذريعة لتشريع الميليشيات الأهلية المناوئة لفكرة الدولة والسلطة المركزية. هذا يعني أنه لا ينبغي لإخفاق شبه الدولة التي نشأت في بلداننا تحت الوصاية الاستعمارية المستمرة، ان تدفعنا إلى الكفر بمفهوم الدولة كإطار شرعي وعقلاني وحيد لتنظيم الحياة الاجتماعية أو جزء كبير منها. ولا ينبغي كذلك أن تدفعنا المقاومات المرتبطة بالانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية أن يسود في أفهامنا معنى المقاومة الوطنية والانسانية. فالمطلوب هو، بالعكس، استعادة مشروع الدولة وانتزاعه من حجر استراتيجيات السيطرة الدولية وتأهيله، وإصلاح المقاومة الأهلية التي لا سيادة لدولة ولا لحرية لأفرادها من دونها. وهو ما يتطلب العمل على إعادة الانسجام بينهما، بوصفهما مبدأين ناظمين للحياة السياسية في عصرنا: مبدأ السيادة (للدولة) والحرية (للمجتمع). فبالحرية نضمن عدم استلاب الدولة للقوى الخارجية، محلية او اجنبية، وبالسيادة نقي المقاومة من التحول إلى تمرد وخروج على القانون والشرعية. أي نؤكد تحرير الدولة من ارتهانها لغير الإرادة الاجتماعية، وتحرير المجتمع من الارتهان لإرادة قوى معادية للدولة، ومانعة من إعادة بنائها كدولة مواطنيها، بصرف النظر عن إنتماءاتهم وأصولهم الإتنية.
لا ينشأ هذا الانسجام بين المبدأين من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج إلى البناء. ويستدعي البناء العمل الواعي والدؤوب ضد الانحرافين القائمين معا: على صعيد بنية الدولة وبنية المقاومة. وبقدر ما يعكس هذان الانحرافان تحلل العقد الوطني، يستدعي تصويب عمل الدولة والمقاومة انبعاثا أو بعثا فكريا وسياسيا لفكرة الوطنية الجامعة. وكما أن قصر الوطنية العربية في المرحلة القومية السابقة على مواجهة السيطرة الغربية وتاكيد الذات ضد الآخر كان هو السبب الرئيسي في موتها، بعد ان قادها إلى سراديب التسلطية المظلمة، تشكل إعادة إحياء قيم المواطنية، والدفاع عن الحريات الفردية، وحق المقاومة الاجتماعية لسلطات الفساد والنهب والتسلط السائدة، أي لتمرد النخب الحاكمة على الشرعية والقانون، الشرط الرئيسي لولادة وطنية عربية جديدة وانبعاثها. وهي شرط إعادة بناء الدولة كدولة سيدة وفي الوقت نفسه دولة مواطنيها ومبرر وجودها.
وبقدر ما يتقدم هذا النشاط النقدي، الأخلاقي والفكري والسياسي، الذي يتصدى لتحقيق مهامه مثقفون وناشطون مدنيون وسياسيون من كل الاتجاهات، تتطور بإزائه حركة مقاومة وطنية تجمع بين مهام التصدي للاستبداد، وما يمثله من اغتصاب الدولة ومصادرة الإرادة العامة، وتغليب الولاءات الخاصة على الخضوع الطوعي الجامع للقانون من جهة، ومهام التصدي للهيمنة الأجنبية التي تمنع الدولة من الانصياع لإرادة مجتمعها ومواطنيها من جهة ثانية. في هذه الحالة لن تكون المقاومة لا نقيضا للدولة وسيطرة حكم القانون، ولا وسيلة للتغطية على الحرب الأهلية واغتصاب الإرادة العامة، ولكن عملية إعادة بناء أخلاقية وقانونية وسياسية للحقيقة الوطنية، على مستوى المجتمع المدني ومستوى الدولة معا. وتتطابق مع عملية تأهيل الدولة لجعلها دولة الجماعة، وتأهيل الجماعة لجعلها جماعة سياسية مدنية متجاوزة للانقسامات العصبوية. وفي هذه الحالة سيحل محل التعارض المصطنع بين الدولة كرمز للسيادة، والمقاومة كرمز لتأكيد الهوية الاجتماعية والشعبية، وحدة عميقة بين الدولة كقاعدة للحياة القانونية والمؤسسية التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم وتطمئنهم عليها، والمقاومة التي تشكل روح الوطنية السارية في الدولة والجاهزة في كل مرة تتعرض فيها للتهديد، من الداخل والخارج، إلى الانطلاق لتثبيت مباديء السيادة والاستقلال تجاه العدوان الخارجي الواقع، وتثبيت حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه العدوان الداخلي الناجم عن جنوح بعض جماعاتها إلى مصادرتها لجعل الدولة آلة في خدمة مصالحهم الخاصة وتلبية مطامعهم.
الدمج بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة في ما بينهم ينبغي أن يكون إذن جوهر برنامج المقاومة العربية المنشودة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.
باختصار، ليس من الممكن بناء دولة من دون وطنية جامعة تقف وراءها وتكون حاملة لها ومحركة لمؤسساتها وآلتها. وأصل الوطنية اليوم ليس العرق ولا اللغة ولا الثقافة ولا الإرادة المشتركة بقدر ما هو أجندة سياسية تاريخية. وعندما نقول أجندة فنحن نعني أن الأمة برنامج عمل وليست شيئا معطى، وراثة عن الأجداد، أو إفرازا لحقائق ومباديء فكرية. إنها تنشأ وتنمو وتتطور وتنضج بقدر ما تتوفر للجماعة سياسات عملية تمكنها من حل التناقضات الخارجية، أي مسألة السيادة وتأمين هامش مبادرة وطنية مستقلة والتناقضات الداخلية، الأفقية والعمودية، التي تقسمها أو تباعد بين أطرافها وتمنع من تكوين إرادة عامة جامعة لا بد منها لتحويلها إلى ذات فاعلة. ولهذا لن يكون من الممكن إعادة بناء الوطنية العربية المزعزعة من دون النجاح في الوصول إلى أجندة وطنية عربية يتحد فيها ويترابط بطريقة ديناميكية هدف انتزاع القرار الوطني من الوصاية الخارجية من جهة، وإعادة استملاك الشعب للدولة القائمة وتأهيلها وأنسنتها من جهة ثانية.
فليس من الممكن بلورة أجندة وطنية عربية مع بقاء الدولة والدول رهينة الاستراتيجيات الأجنبية أو تحت رحمتها، أو في قبضة قوى محلية منفصلة عن المجتمع وخائفة منه. وليس من الممكن أيضا بلورة أجندة وطنية من دون إحياء الوطنية الجامعة التي دمرتها المقاومات العصبوية، وإعادة بنائها على أسس العدل والحرية والمساواة والتضامن بين أعضائها، وتربية الأفراد على الاعتراف والاحترام المتبادلين وروح التعاون والتضحية ونكران الذات، لصالح الهدف الجماعي الأسمى. فهذه الوطنية هي التي تضمن تحويل الدولة إلى دولة حقيقية، دولة مواطنيها، وتسمح لها بانتزاع هامش مبادرة فعلي في إطار العمل الإقليمي والدولي، تجاه الدول والقوى المهيمنة الأخرى. وفي مثل هذه الدولة لن يبقى هناك أي تعارض بين مهام بناء السلطة كسلطة سياسية وقانونية ديمقراطية، ومهام بناء السياسة الخارجية كسياسة تأكيد للاستقلال ومقاومة التدخلات الأجنبية والحفاظ على وحدة الإرادة الوطنية وتعزيزها. وعندئذ لن تنفصل السياسة عن العقيدة ولا الجماعة عن الدولة.
وبقدر ما ننجح في تحويل الدولة إلى دولتنا، أي موطن إجماعنا ومختصر إرادتنا كجماعة نستطيع أن نتجاوز نزاعاتنا وأن نوحد انفسنا، وأن نعيد في الوقت نفسه بناء علاقاتنا الدولية أيضا، على أسس مختلفة تضمن استقلالنا وسيادتنا. فليست المقاومة كما نريدها ونفهمها في حقيقة الأمر سوى النزوع إلى السيادة الجمعية التي تخونها الدولة، الوكالة الأجنبية أو المزرعة الشخصية والعائلية. وليست الدولة المرضعة، أو البقرة الحلوب للقابضين عليها، سوى التعبير المباشر عن انفصال الدولة عن مجتمعاتها وتحولها إلى أداة لإخضاع هذه المجتمعات ونزع السيادة والكرامة والفضيلة عنها. وإذا لم ننجح في إصلاح مفهوم المقاومة ومفهوم الدولة معا، من الممكن أن لا يكون ما قام به حزب الله سوى آخر صفعة أمكن للعرب توجيهها لاسرائيل الصاعدة والمتفوقة حتى زمن طويل.
ينجم عن ذلك أنه لا ينبغي علينا، مهما وصل وضع الدولة من امتهان لصالح القوى الخارجية، ولا أقصد بها الأجنبية فحسب، أن نتخلى عن نقد الدولة، بما يعنيه هذا النقد من تأكيد أولويتها وتبيان طرق إصلاحها ووسائله، أي ضرورة إنقاذ فكرتها من الضياع والفساد. فهذا ما يعزز مكانتها باعتبارها إطار التنظيم الوحيد الذي نصبو إليه، في مقابل مشاريع التنظيم الطائفي والإتني والمذهبي الذي يفتن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي اليوم، بسبب انهيار الايمان بشبه الدولة القائمة وقرف الجمهور منها ومن وسائل عملها القمعية.
كما ينجم عنه ضرورة تجاوز مفهوم المقاومة الذي نشأ في سياق سقوط الدولة تحت السيطرة الخارجية وانفصالها عن المجتمع وفقدانها لحقيقتها الوطنية، والذي يحصر معنى المقاومة بالمهام الموجهة نحو إزالة الهيمنة الأجنبية، مبررا أي نوع من أنواع المقاومة، مهما كانت الأسس والمباديء التي يقوم عليها، طائفية أو مذهبية أو إتنية. والواقع أن إزالة الاستبداد الذي يشكل أساس التفاهم بين النخب المحلية المغتصبة للسلطة والهيمنة الأجنبية المستفيدة منها، ينبغي أن يكون الهدف الأول لأي مقاومة وطنية. والنجاح فيه هو شرط إنقاذ مشروع الدولة المهدد وشرط تحرير إرادة الشعوب وتنظيمها لتحقيق النجاح في مقاومة الهيمنة الخارجية. ولا ينبغي أن تخدعنا المظاهر والشعارات. فتركيز النظم الاستبدادية التي تجمعهما رسالة قتل الحرية وانتهاك حقوق شعوبهما كما لا يفعل أي طرف أجنبي، على خطاب العداء للخارج والانتقام منه، لا يهدف سوى إلى حرف أنظار الرأي العام عن السيطرة الداخلية شبه الاستعمارية، والتغطية على الطابع الطائفي والعصبوي للنظم وحركات التمرد والانشقاق والتصدع المنتشرة اليوم في المجتمعات العربية. وهي لا تقصد من وراء ذلك سوى إلى قطع الطريق على بلورة أجندة وطنية لصالح تمرير أجندة السلطة التسلطية أو فرضها. فلا يمكن للنظام القائم على لجم الرأي العام وإخضاعه والسيطرة عليه بالقوة ومنعه من الحركة، أن يكون هو نفسه نظام المقاومة والصمود والعمل على استعادة حقوق الشعب في وجه الضغوط الخارجية. فليس هناك ما يدفع النخب التي تنتهك حقوق شعوبها وتتكل بهم وتحرمهم من حق المشاركة إلى أن تضحي من أجل تأكيد هذه الحقوق تجاه القوى الأجنبية. إن التركيز على العداء للأجنبي غالبا ما يهدف لدى مثل هذه الأنظمة إلى طمس حقيقة الحرب التي تشنها على مجتمعها. ولا يمكن لنظام لا يستمر إلا بتخليد الحرب الأهلية وتقسيم المجتمعات وتفتيتها وشل إرادتها أن يكون، مهما فعل، نظام مقاومة وطنية. وأفضل مثال لما تطمح إليه هذه الأنظمة وما يمكن أن تقود إليه معا هو النظام الليبي الذي انتهت به معاركه الطاحنة ضد السيطرة الأجنبية إلى التسليم الكلي لها بعد ضمان مصادقة الدول الاستعمارية على سيطرته وعائلته على مقدرات البلاد التي يحكمها بالقوة والاحتيال.
إن رفض حصر معنى المقاومة في ممانعة الخطط الأجنبية أو التصدي لها لا يعني تجاهل هذه الخطط وغض النظر عنها، أو كما يفعل بعض اليائسين، التغطية عليها، أو النظر إليها باعتبارها ثانوية، ولكن بالعكس. إنه يعني أن معركة التحرر من الهيمنة الأجنبية تمر اليوم باقتلاع جذور التسلط الداخلي الذي يقدم الشعب مكتوف اليدين، ويحرمه من فرصة الدفاع عن نفسه وحقوقه. وأن تجاهل معركة الحرية لصالح مقاومة الهيمنة الخارجية أو فصلهما الواحدة عن الأخرى يجعل المقاومة تعمل لصالح النظم الاستبدادية التي هي الضمانة الحقيقية والوحيدة لنظم السيطرة الخارجية. من هنا ليست مقاومة وطنية تلك التي ترفض أن تضع التصدي للخطط الأجنبية في إطار مشروع أشمل يهدف إلى إعادة بناء الأوضاع السياسية والقانونية على أسس الحرية ويعمل على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية جامعة، سياسية، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، وتجعل من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وإن مقاومة وطنية حقيقية لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية، مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية. باختصار، ليست وطنية تلك المقاومة التي ترفض اليوم برنامج الديمقراطية. ولا يمكن للمقاومات التي تستند على عصبيات طائفية أو مذهبية أو أقوامية أن تبني أسسا صالحة لإعادة توليد إرادة جامعة وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية التي يقبل الجميع الخضوع لها والعمل من ضمنها.
قلت في مقال سابق أن الرأي العام العربي ممزق بين خيار إصلاح الدولة، بالرغم من كل ما يسمها من نقائص، وفي مقدمها ارتهانها للإرادة الخارجية، المافيوية والأجنبية، على أمل تحسين شروط عملها، وخيار المقاومة الذي يعكس انهيار الثقة بالدولة ويطمح إلى بناء سلطة أهلية، متحررة من الهيمنة الأجنبية، وقادرة على تلبية مطالب المجتمعات المتعلقة بالاستقلال الضامن للكرامة والهوية. وبينت في مقال آخر كيف أن سياسات السيطرة الخارجية قد قوضت مشروع الدولة ووضعته على طريق مسدود، كما يشير إلى ذلك تعثر خطط الاصلاح وموتها قبل أن ترى النور. وبالمثل كيف أن المقاومة التي نشأت في سياق الصراع ضد الدولة القاصرة، وعلى أنقاض الوطنيات التي نشأت بعد الاستقلال، قد ولدت بالضرورة في إطار مقاومات محمولة على العصبية، مما يحرمها من أي أمل في أن تقود إلى طريق آخر غير الصدامات المذهبية والطائفية والإتنية والدينية. فهي بالتعريف غير قادرة على إعادة بناء الوطنية السياسية التي تشكل روح الدولة القانونية، التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم في إطار سياسي واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والإتنية.
وكل يوم يمر يتأكد فيه بشكل أكبر الوصول إلى هذا الطريق المسدود الذي دخل فيه مشروع الدولة، وطريق الفوضى الذي يهدد بإدخالنا فيه مشروع المقاومات المذهبية. وما حصل في الأيام القليلة الماضية من استعراض ميليشيات القاعدة لقوتها في شوارع الرمادي العراقية يعكس تماما مستقبل المجتمعات الخاضعة لمقاومات لا يمنعها عداؤها الفعلي والقاسي للأجنبي من أن تسير في اتجاه بناء إمارات تحكمها ميليشيات خاصة، تلغي مشروع الدولة القانونية، وتقود حتما إلى تعميق الانقسامات والنزاعات الداخلية. تماما كما عكس انهيار حلم الدولة الفلسطينية الموعودة، وتفجر الصراع على السلطة الوطنية الوهمية بين القوى القومية والاسلامية في فلسطين، المازق الذي وصل إليه مشروع الدولة المرتهنة للاجنبي والمفرغة من الاستقلال والسيادة.
في هذه الحالة على ماذا يمكن للشعوب العربية أن تراهن للخروج من الوضع المتردي الذي تعيشه على جميع المستويات، وما هو البديل لسياسات إصلاح الدولة وتوسيع عمليات المقاومة؟
والجواب أنه لا يمكن الفصل بين الدولة والمقاومة أصلا . فالدولة الحديثة من حيث هي دولة المواطنين، والتجسيد لإرادتهم تفترض من داخلها مبدأ المقاومة، أي التصدي لكل محاولات مصادرة هذه الإرادة من قبل قوة داخلية أو خارجية، ولا تستقيم من دون ضمان حق المقاومة، بل الثورة، لتأكيد قيم الحرية والمواطنية والسيادة الشعبية ضد مغتصبيها. وبالمثل ليس لأي مقاومة قيمة وشرعية إذا لم تقد إلى بناء هذه الدولة القانونية المواطنية التي تضمن الحريات والحقوق المتساوية. والفرق بين التمرد والمقاومة يكمن بالضبط في أن التمرد هو سمة الحركات التي تقف ضد الدولة رفضا للقانون والشرعية، بينما تقوم المقاومة لتأكيد تطبيق القانون المصادر وشرعيته. فأي دولة من دون ضمان حق مقاومة الشعب مدانة بالتحول إلى مملكة خاصة، بل مزرعة للمسكين بها، وأي مقاومة لا تنطلق من مبدأ تحقيق الحرية والسيادة الشعبية والقانون تتحول إلى تمرد يعطل إمكانية نشوء دولة جديدة مؤسسة على مباديء العدل والشرعية بدل تقريب اجلها. وهذا الارتباط بين المقاومة التي تجسد المصدر الشعبي للسلطة، وتعبر عن إرادة المجتمع التي تكمن وراء الدولة، وتضمن السير السليم لمؤسساتها، والدولة التي تشكل التجسيد المؤسساتي لحكم الحرية والسيادة والقانون، هي أساس تنظيم الإرادة الشعبية على أسس قانونية وعقلانية سليمة.
ولم يحصل الانفصال والتعارض بين مشاريع الدولة ومشاريع المقاومة إلا بقدر ما حصل إفسادهما معا وأفراغهما من مضمونهما. فانحط معنى الدولة ليطابق واقعها الراهن المساوي لفكرة التسلط بالقوة على مقدرات شعب وموارده وتحويله إلى أداة لخدمة السلطة والممسكين بها، وانحط معنى المقاومة لتصبح قناعا لمشاريع حروب أهلية سافرة أو خفية. وهكذا خرجت الدولة عن إرادة المجتمع وعليه وتحولت المقاومة إلى ذريعة لتشريع الميليشيات الأهلية المناوئة لفكرة الدولة والسلطة المركزية. هذا يعني أنه لا ينبغي لإخفاق شبه الدولة التي نشأت في بلداننا تحت الوصاية الاستعمارية المستمرة، ان تدفعنا إلى الكفر بمفهوم الدولة كإطار شرعي وعقلاني وحيد لتنظيم الحياة الاجتماعية أو جزء كبير منها. ولا ينبغي كذلك أن تدفعنا المقاومات المرتبطة بالانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية أن يسود في أفهامنا معنى المقاومة الوطنية والانسانية. فالمطلوب هو، بالعكس، استعادة مشروع الدولة وانتزاعه من حجر استراتيجيات السيطرة الدولية وتأهيله، وإصلاح المقاومة الأهلية التي لا سيادة لدولة ولا لحرية لأفرادها من دونها. وهو ما يتطلب العمل على إعادة الانسجام بينهما، بوصفهما مبدأين ناظمين للحياة السياسية في عصرنا: مبدأ السيادة (للدولة) والحرية (للمجتمع). فبالحرية نضمن عدم استلاب الدولة للقوى الخارجية، محلية او اجنبية، وبالسيادة نقي المقاومة من التحول إلى تمرد وخروج على القانون والشرعية. أي نؤكد تحرير الدولة من ارتهانها لغير الإرادة الاجتماعية، وتحرير المجتمع من الارتهان لإرادة قوى معادية للدولة، ومانعة من إعادة بنائها كدولة مواطنيها، بصرف النظر عن إنتماءاتهم وأصولهم الإتنية.
لا ينشأ هذا الانسجام بين المبدأين من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج إلى البناء. ويستدعي البناء العمل الواعي والدؤوب ضد الانحرافين القائمين معا: على صعيد بنية الدولة وبنية المقاومة. وبقدر ما يعكس هذان الانحرافان تحلل العقد الوطني، يستدعي تصويب عمل الدولة والمقاومة انبعاثا أو بعثا فكريا وسياسيا لفكرة الوطنية الجامعة. وكما أن قصر الوطنية العربية في المرحلة القومية السابقة على مواجهة السيطرة الغربية وتاكيد الذات ضد الآخر كان هو السبب الرئيسي في موتها، بعد ان قادها إلى سراديب التسلطية المظلمة، تشكل إعادة إحياء قيم المواطنية، والدفاع عن الحريات الفردية، وحق المقاومة الاجتماعية لسلطات الفساد والنهب والتسلط السائدة، أي لتمرد النخب الحاكمة على الشرعية والقانون، الشرط الرئيسي لولادة وطنية عربية جديدة وانبعاثها. وهي شرط إعادة بناء الدولة كدولة سيدة وفي الوقت نفسه دولة مواطنيها ومبرر وجودها.
وبقدر ما يتقدم هذا النشاط النقدي، الأخلاقي والفكري والسياسي، الذي يتصدى لتحقيق مهامه مثقفون وناشطون مدنيون وسياسيون من كل الاتجاهات، تتطور بإزائه حركة مقاومة وطنية تجمع بين مهام التصدي للاستبداد، وما يمثله من اغتصاب الدولة ومصادرة الإرادة العامة، وتغليب الولاءات الخاصة على الخضوع الطوعي الجامع للقانون من جهة، ومهام التصدي للهيمنة الأجنبية التي تمنع الدولة من الانصياع لإرادة مجتمعها ومواطنيها من جهة ثانية. في هذه الحالة لن تكون المقاومة لا نقيضا للدولة وسيطرة حكم القانون، ولا وسيلة للتغطية على الحرب الأهلية واغتصاب الإرادة العامة، ولكن عملية إعادة بناء أخلاقية وقانونية وسياسية للحقيقة الوطنية، على مستوى المجتمع المدني ومستوى الدولة معا. وتتطابق مع عملية تأهيل الدولة لجعلها دولة الجماعة، وتأهيل الجماعة لجعلها جماعة سياسية مدنية متجاوزة للانقسامات العصبوية. وفي هذه الحالة سيحل محل التعارض المصطنع بين الدولة كرمز للسيادة، والمقاومة كرمز لتأكيد الهوية الاجتماعية والشعبية، وحدة عميقة بين الدولة كقاعدة للحياة القانونية والمؤسسية التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم وتطمئنهم عليها، والمقاومة التي تشكل روح الوطنية السارية في الدولة والجاهزة في كل مرة تتعرض فيها للتهديد، من الداخل والخارج، إلى الانطلاق لتثبيت مباديء السيادة والاستقلال تجاه العدوان الخارجي الواقع، وتثبيت حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه العدوان الداخلي الناجم عن جنوح بعض جماعاتها إلى مصادرتها لجعل الدولة آلة في خدمة مصالحهم الخاصة وتلبية مطامعهم.
الدمج بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة في ما بينهم ينبغي أن يكون إذن جوهر برنامج المقاومة العربية المنشودة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.
باختصار، ليس من الممكن بناء دولة من دون وطنية جامعة تقف وراءها وتكون حاملة لها ومحركة لمؤسساتها وآلتها. وأصل الوطنية اليوم ليس العرق ولا اللغة ولا الثقافة ولا الإرادة المشتركة بقدر ما هو أجندة سياسية تاريخية. وعندما نقول أجندة فنحن نعني أن الأمة برنامج عمل وليست شيئا معطى، وراثة عن الأجداد، أو إفرازا لحقائق ومباديء فكرية. إنها تنشأ وتنمو وتتطور وتنضج بقدر ما تتوفر للجماعة سياسات عملية تمكنها من حل التناقضات الخارجية، أي مسألة السيادة وتأمين هامش مبادرة وطنية مستقلة والتناقضات الداخلية، الأفقية والعمودية، التي تقسمها أو تباعد بين أطرافها وتمنع من تكوين إرادة عامة جامعة لا بد منها لتحويلها إلى ذات فاعلة. ولهذا لن يكون من الممكن إعادة بناء الوطنية العربية المزعزعة من دون النجاح في الوصول إلى أجندة وطنية عربية يتحد فيها ويترابط بطريقة ديناميكية هدف انتزاع القرار الوطني من الوصاية الخارجية من جهة، وإعادة استملاك الشعب للدولة القائمة وتأهيلها وأنسنتها من جهة ثانية.
فليس من الممكن بلورة أجندة وطنية عربية مع بقاء الدولة والدول رهينة الاستراتيجيات الأجنبية أو تحت رحمتها، أو في قبضة قوى محلية منفصلة عن المجتمع وخائفة منه. وليس من الممكن أيضا بلورة أجندة وطنية من دون إحياء الوطنية الجامعة التي دمرتها المقاومات العصبوية، وإعادة بنائها على أسس العدل والحرية والمساواة والتضامن بين أعضائها، وتربية الأفراد على الاعتراف والاحترام المتبادلين وروح التعاون والتضحية ونكران الذات، لصالح الهدف الجماعي الأسمى. فهذه الوطنية هي التي تضمن تحويل الدولة إلى دولة حقيقية، دولة مواطنيها، وتسمح لها بانتزاع هامش مبادرة فعلي في إطار العمل الإقليمي والدولي، تجاه الدول والقوى المهيمنة الأخرى. وفي مثل هذه الدولة لن يبقى هناك أي تعارض بين مهام بناء السلطة كسلطة سياسية وقانونية ديمقراطية، ومهام بناء السياسة الخارجية كسياسة تأكيد للاستقلال ومقاومة التدخلات الأجنبية والحفاظ على وحدة الإرادة الوطنية وتعزيزها. وعندئذ لن تنفصل السياسة عن العقيدة ولا الجماعة عن الدولة.
وبقدر ما ننجح في تحويل الدولة إلى دولتنا، أي موطن إجماعنا ومختصر إرادتنا كجماعة نستطيع أن نتجاوز نزاعاتنا وأن نوحد انفسنا، وأن نعيد في الوقت نفسه بناء علاقاتنا الدولية أيضا، على أسس مختلفة تضمن استقلالنا وسيادتنا. فليست المقاومة كما نريدها ونفهمها في حقيقة الأمر سوى النزوع إلى السيادة الجمعية التي تخونها الدولة، الوكالة الأجنبية أو المزرعة الشخصية والعائلية. وليست الدولة المرضعة، أو البقرة الحلوب للقابضين عليها، سوى التعبير المباشر عن انفصال الدولة عن مجتمعاتها وتحولها إلى أداة لإخضاع هذه المجتمعات ونزع السيادة والكرامة والفضيلة عنها. وإذا لم ننجح في إصلاح مفهوم المقاومة ومفهوم الدولة معا، من الممكن أن لا يكون ما قام به حزب الله سوى آخر صفعة أمكن للعرب توجيهها لاسرائيل الصاعدة والمتفوقة حتى زمن طويل.
ينجم عن ذلك أنه لا ينبغي علينا، مهما وصل وضع الدولة من امتهان لصالح القوى الخارجية، ولا أقصد بها الأجنبية فحسب، أن نتخلى عن نقد الدولة، بما يعنيه هذا النقد من تأكيد أولويتها وتبيان طرق إصلاحها ووسائله، أي ضرورة إنقاذ فكرتها من الضياع والفساد. فهذا ما يعزز مكانتها باعتبارها إطار التنظيم الوحيد الذي نصبو إليه، في مقابل مشاريع التنظيم الطائفي والإتني والمذهبي الذي يفتن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي اليوم، بسبب انهيار الايمان بشبه الدولة القائمة وقرف الجمهور منها ومن وسائل عملها القمعية.
كما ينجم عنه ضرورة تجاوز مفهوم المقاومة الذي نشأ في سياق سقوط الدولة تحت السيطرة الخارجية وانفصالها عن المجتمع وفقدانها لحقيقتها الوطنية، والذي يحصر معنى المقاومة بالمهام الموجهة نحو إزالة الهيمنة الأجنبية، مبررا أي نوع من أنواع المقاومة، مهما كانت الأسس والمباديء التي يقوم عليها، طائفية أو مذهبية أو إتنية. والواقع أن إزالة الاستبداد الذي يشكل أساس التفاهم بين النخب المحلية المغتصبة للسلطة والهيمنة الأجنبية المستفيدة منها، ينبغي أن يكون الهدف الأول لأي مقاومة وطنية. والنجاح فيه هو شرط إنقاذ مشروع الدولة المهدد وشرط تحرير إرادة الشعوب وتنظيمها لتحقيق النجاح في مقاومة الهيمنة الخارجية. ولا ينبغي أن تخدعنا المظاهر والشعارات. فتركيز النظم الاستبدادية التي تجمعهما رسالة قتل الحرية وانتهاك حقوق شعوبهما كما لا يفعل أي طرف أجنبي، على خطاب العداء للخارج والانتقام منه، لا يهدف سوى إلى حرف أنظار الرأي العام عن السيطرة الداخلية شبه الاستعمارية، والتغطية على الطابع الطائفي والعصبوي للنظم وحركات التمرد والانشقاق والتصدع المنتشرة اليوم في المجتمعات العربية. وهي لا تقصد من وراء ذلك سوى إلى قطع الطريق على بلورة أجندة وطنية لصالح تمرير أجندة السلطة التسلطية أو فرضها. فلا يمكن للنظام القائم على لجم الرأي العام وإخضاعه والسيطرة عليه بالقوة ومنعه من الحركة، أن يكون هو نفسه نظام المقاومة والصمود والعمل على استعادة حقوق الشعب في وجه الضغوط الخارجية. فليس هناك ما يدفع النخب التي تنتهك حقوق شعوبها وتتكل بهم وتحرمهم من حق المشاركة إلى أن تضحي من أجل تأكيد هذه الحقوق تجاه القوى الأجنبية. إن التركيز على العداء للأجنبي غالبا ما يهدف لدى مثل هذه الأنظمة إلى طمس حقيقة الحرب التي تشنها على مجتمعها. ولا يمكن لنظام لا يستمر إلا بتخليد الحرب الأهلية وتقسيم المجتمعات وتفتيتها وشل إرادتها أن يكون، مهما فعل، نظام مقاومة وطنية. وأفضل مثال لما تطمح إليه هذه الأنظمة وما يمكن أن تقود إليه معا هو النظام الليبي الذي انتهت به معاركه الطاحنة ضد السيطرة الأجنبية إلى التسليم الكلي لها بعد ضمان مصادقة الدول الاستعمارية على سيطرته وعائلته على مقدرات البلاد التي يحكمها بالقوة والاحتيال.
إن رفض حصر معنى المقاومة في ممانعة الخطط الأجنبية أو التصدي لها لا يعني تجاهل هذه الخطط وغض النظر عنها، أو كما يفعل بعض اليائسين، التغطية عليها، أو النظر إليها باعتبارها ثانوية، ولكن بالعكس. إنه يعني أن معركة التحرر من الهيمنة الأجنبية تمر اليوم باقتلاع جذور التسلط الداخلي الذي يقدم الشعب مكتوف اليدين، ويحرمه من فرصة الدفاع عن نفسه وحقوقه. وأن تجاهل معركة الحرية لصالح مقاومة الهيمنة الخارجية أو فصلهما الواحدة عن الأخرى يجعل المقاومة تعمل لصالح النظم الاستبدادية التي هي الضمانة الحقيقية والوحيدة لنظم السيطرة الخارجية. من هنا ليست مقاومة وطنية تلك التي ترفض أن تضع التصدي للخطط الأجنبية في إطار مشروع أشمل يهدف إلى إعادة بناء الأوضاع السياسية والقانونية على أسس الحرية ويعمل على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية جامعة، سياسية، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، وتجعل من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وإن مقاومة وطنية حقيقية لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية، مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية. باختصار، ليست وطنية تلك المقاومة التي ترفض اليوم برنامج الديمقراطية. ولا يمكن للمقاومات التي تستند على عصبيات طائفية أو مذهبية أو أقوامية أن تبني أسسا صالحة لإعادة توليد إرادة جامعة وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية التي يقبل الجميع الخضوع لها والعمل من ضمنها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire