الجزيرة نت 20 أغسطس 06
دافعت في كتابي "نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة[i]،
عن أطروحة تقول بأن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم او مباديء أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. والفرضية الرئيسية في هذه النظرية هي ان الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية ، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
وفي اعتقادي أن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية، في البلاد العربية، بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة، للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص، وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى إدراك حقيقة الظاهرة ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، مفادها ان المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، أو حسب التعبير الذي شاع، فسيفسائي. وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية. وبالتالي ليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية.
وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة وتكاد لا تستجيب لأي مطالب عمومية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالاثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه وأحيانا المرضي بمباديء الوطنية المجردة ومظاهرها الشكلية. وهو ما ساهم في تكوين وطنية وقومية شكلية، فارغة من أي التزام، ومفتقرة إلى أي محتوى سياسي، بل عاطفي، خارج إطار ترداد الشعارات وتكثيرها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية، والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.
وفي النهاية، عمل هذا التصور الذي يقول إن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع على القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، إن لم يشرعن لقيام الدولة الطائفية نفسها، بوصفها حتمية اجتماعية أو تعبيرا عن خصوصية محلية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثرورة المرتبطة بها. وكما عمل هذا التصور على تحرير النخبة، في الحكم والمعارضة معا، من مسؤولياتها تجاه بناء دولة حديثة حقيقية، قوامها مفهوم الحق والقانون، لا تقاسم السلطة بين نخب الطوائف والعشائر القائمة، غطى على الممارسات الطائفية ورفعه فوق النقد، ووحد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي ملغيا بذلك أي إمكانية لتصور دولة سياسية. والحال يمكن لطوائفية المجتمع، أو تكوينه الفسيفسائي، أن يفسر صعوبات وتحديات نشوء نخبة وطنية منسجمة ومتماسكة. لكنه لا يبرر بأي شكل ممارسة الطائفية من قبل هذه النخبة أو بعضها داخل الدولة. فشرط تكوين هذه القوة السياسية الأساسية، وتبوئها مركز نخبة وطنية، هو قدرتها على الارتفاع فوق المصالح الجزئية والعصبيات الخاصة، ومنها النعرات الطائفية، حتى تصبح في مستوى المسؤولية الوطنية أو العمومية. وفشلها في ذلك يعكس عجزها عن تمثل قيم السياسة الحديثة ومعاييرها، أكثر مما يعكس جهل الشعب وأميته أو تعصبه لهذا الدين أو ذاك. فليس المطلوب أن يتحرر المجتمع المدني من عصبياته أو تضامناته الطبيعية المتعددة، الدينية أو المذهبية أو الإتنية التي تعكس واقع الحال، خاصة في مجتمعات تقليدية، أو خارجة حديثا من التقاليد، وإنما أن تتحرر النخبة السياسية من تماهياتها الجزئية لتتمكن من تجسيد مثال الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة، حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة امة، أي دولة مواطنيها.
ولعل أفضل مثال على ذلك ما عرفته المجتمعات العربية الحديثة نفسها، حتى وقت قريب، من تطور مضطرد للولاءات الوطنية وللكتل السياسية المعبرة عنها، قبل أن تقع فريسة نظم الطغيان الحديثة منذ السبعينيات من القرن الماضي. فلم تكن هذه المجتمعات أقل تقليدية ولا أقل تعددية طائفية وإتنية ومذهبية مما هي عليه اليوم. ومع ذلك فهي التي أنجبت أقوى الحركات الوطنية التي كان لنشوئها وتطورها الفضل الأول في تحقيق الاستقلال وطرد قوات الاحتلال. وقد ولدت هذه الحركات والدول المستقلة التي نشأت عنها، في مصر وسورية والعراق وبقية البلدان المتعددة الطوائف، في لحظة ترفع وارتفاع رائعين من قبل جميع الطوائف والطبقات والأقوام على جميع الحساسيات التقليدية، وأشكال التعصب والانغلاق الماضية، لإقامة جمهورية تعددية ديمقراطية مفتوحة بالتساوي لجميع أبنائها. ونشأت الدول الحديثة وتكونت منذ البداية بوصفها دول وطنية لا تميز بين أبنائها. وترسخت فيها خلال حقبة الوصاية والحماية الأجنبية، وفي مواجهة سياساتها التقسيمية، ثقافة وطنية قوية ترفض الطائفية وتشجب الاعتماد عليها، لدى كل الطوائف، كبيرها وصغيرها. ولا تزال معظم الشعوب العربية، بالرغم مما تعرضت له من أزمات ثقة داخلية بين الطوائف، تستلهم تلك التجربة الفذة التي تجاوزت فيها زعامات الطوائف والمناطق المتعددة، بإرادتها، منظوراتها الجزئية، لتنخرط في حركة وطنية واحدة وتعمل ضد النزعات الانقسامية، بالرغم مما تعرض له بعضها من إغراءات من قبل سلطات الوصاية، بما في ذلك تشكيل دول مستقلة خاصة ببعض الطوائف والجماعات المذهبية.
وتستند هذه التجربة نفسها، وهو ما يفسر انتصارها، في العراق وسورية على ترسخ الفكرة العربية في وعي الأفراد، بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية، والتطلع المشترك والشامل لنهضة حضارية عربية كبرى، تنقل المجتمع إلى مصاف المجتمعات الحديثة المتمدنة الديمقراطية، وتساعده على تجاوز انقسامات المجتمعات التقليدية الموروثة، وتحرر الفرد من التبعية لعصبية العشيرة والقبيلة والطائفة الدينية.
وقد شكل هذا الإرث السياسي الوطني الحي، ولا يزال يشكل إلى الآن، واليوم بشكل خاص، حصانة ومنعة حقيقيتين ضد النزوعات الطائفية والضغوط الانقسامية القوية التي تتعرض لها العديد من المجتمعات العربية. فبالرغم من بعض الانزلاقات الطائفية التي حصلت هنا وهناك، في سياق التحولات الاجتماعية العنيفة التي شهدتها في العقود الأربع الماضية، بقي القسم الأكبر من ا لرأي العام مخلصا لهذا التراث، ورافضا الانجراف وراء الطرح الطائفي للأزمة السياسية التي تعصف بالفعل بمعظم البلدان.
إن التوحيد بين منطق عمل المجتمع ومنطق عمل الدولة واعتبار الطائفية التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي تسم المجتمعات، يقودان لا محالة إلى الاعتقاد بأن محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات والتضامنات الأهلية وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية. وهو ما يعني عمليا تفكيك عرى التلاحم المجتمعي وتحويل الممسكين بالسلطة والشأن العام، أنفسهم، داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلى طائفة وحيدة، محتكرة للسلطة والثروة جميعا، بصورة نهائية، في وجه شعب أفرغ من أي علاقة اجتماعية، وتحول إلى ذرات لا تعمل ولا تتحرك ولا تفكر ولا تشعر إلا عبر طائفة السلطة وبإرادتها وأوامرها. وهذا ما راهنت عليه، بوحي ايديولوجية قومية مجردة ولا تاريخية، السلطة البعثية في سورية والعراق، وكانت نتيجته عودة مظفرة للطائفية واحتلال لا مثيل له من قبل العصبيات الأهلية لفضاء الدولة، بصورة علنية أو مقنعة، ثم دمارا حقيقيا للدولة والمجتمع، مع فتح الباب واسعا امام التدخل الخارجي والاحتلال.
من هنا، ليست الطائفية، سواء اكانت شعورا عدائيا لطائفة تجاه طائفة اخرى أو استراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس على السلطة أو سياسة منهجية تتبعها سلطة معينة في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية او إتنية أو مذهبية تعزز مواقعها الاستراتيجية، حتمية اجتماعية أو تاريخية لا ترد. وليس لها، بعكس ما تشيعه بعض الأدبيات القوموية السطحية، جذور عميقة في النظام الوطني الذي نشأ مع ولادة الدول العربية الحديثة، بعد انهيار الدولة العثمانية في العشرينات.
كما أن الطائفية لم تنبع من مؤسسات الدولة الاستقلالية نفسها، وإنما أتت إليها من خارجها. فهي أحد أبعاد الأزمة الوطنية الشاملة، وليست أزمة قائمة بذاتها، ولا حتى البعد الرئيسي فيها. وهذا يعني أن الطائفية، بالرغم من تحولها إلى استراتيجية رئيسية عند بعض القوى الاجتماعية للدفاع عن مصالح وامتيازات ومكاسب استثنائية وتكريسها، ليست ظاهرة مستقلة، ولا يمكن دراستها بمعزل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية. إنها تشكل بعدا من المسألة السياسية والاجتماعية، وهي مرتبطة بها ارتباطا عميقا وليس لها من دون هذا الارتباط حظ في الحياة والبقاء. وهي لا تملك حتى الآن، على الأٌقل، أي ديناميكية مستقلة، ولا تعمل إلا مقنعة ومن وراء حجاب. ويعني كل هذا، أخيرا، أنه من غير الممكن فهمها بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي نشأت فيه في العقود الماضية.
[i] صدر عن دار المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 1990
وفي اعتقادي أن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية، في البلاد العربية، بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة، للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص، وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى إدراك حقيقة الظاهرة ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، مفادها ان المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، أو حسب التعبير الذي شاع، فسيفسائي. وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية. وبالتالي ليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية.
وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة وتكاد لا تستجيب لأي مطالب عمومية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالاثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه وأحيانا المرضي بمباديء الوطنية المجردة ومظاهرها الشكلية. وهو ما ساهم في تكوين وطنية وقومية شكلية، فارغة من أي التزام، ومفتقرة إلى أي محتوى سياسي، بل عاطفي، خارج إطار ترداد الشعارات وتكثيرها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية، والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.
وفي النهاية، عمل هذا التصور الذي يقول إن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع على القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، إن لم يشرعن لقيام الدولة الطائفية نفسها، بوصفها حتمية اجتماعية أو تعبيرا عن خصوصية محلية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثرورة المرتبطة بها. وكما عمل هذا التصور على تحرير النخبة، في الحكم والمعارضة معا، من مسؤولياتها تجاه بناء دولة حديثة حقيقية، قوامها مفهوم الحق والقانون، لا تقاسم السلطة بين نخب الطوائف والعشائر القائمة، غطى على الممارسات الطائفية ورفعه فوق النقد، ووحد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي ملغيا بذلك أي إمكانية لتصور دولة سياسية. والحال يمكن لطوائفية المجتمع، أو تكوينه الفسيفسائي، أن يفسر صعوبات وتحديات نشوء نخبة وطنية منسجمة ومتماسكة. لكنه لا يبرر بأي شكل ممارسة الطائفية من قبل هذه النخبة أو بعضها داخل الدولة. فشرط تكوين هذه القوة السياسية الأساسية، وتبوئها مركز نخبة وطنية، هو قدرتها على الارتفاع فوق المصالح الجزئية والعصبيات الخاصة، ومنها النعرات الطائفية، حتى تصبح في مستوى المسؤولية الوطنية أو العمومية. وفشلها في ذلك يعكس عجزها عن تمثل قيم السياسة الحديثة ومعاييرها، أكثر مما يعكس جهل الشعب وأميته أو تعصبه لهذا الدين أو ذاك. فليس المطلوب أن يتحرر المجتمع المدني من عصبياته أو تضامناته الطبيعية المتعددة، الدينية أو المذهبية أو الإتنية التي تعكس واقع الحال، خاصة في مجتمعات تقليدية، أو خارجة حديثا من التقاليد، وإنما أن تتحرر النخبة السياسية من تماهياتها الجزئية لتتمكن من تجسيد مثال الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة، حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة امة، أي دولة مواطنيها.
ولعل أفضل مثال على ذلك ما عرفته المجتمعات العربية الحديثة نفسها، حتى وقت قريب، من تطور مضطرد للولاءات الوطنية وللكتل السياسية المعبرة عنها، قبل أن تقع فريسة نظم الطغيان الحديثة منذ السبعينيات من القرن الماضي. فلم تكن هذه المجتمعات أقل تقليدية ولا أقل تعددية طائفية وإتنية ومذهبية مما هي عليه اليوم. ومع ذلك فهي التي أنجبت أقوى الحركات الوطنية التي كان لنشوئها وتطورها الفضل الأول في تحقيق الاستقلال وطرد قوات الاحتلال. وقد ولدت هذه الحركات والدول المستقلة التي نشأت عنها، في مصر وسورية والعراق وبقية البلدان المتعددة الطوائف، في لحظة ترفع وارتفاع رائعين من قبل جميع الطوائف والطبقات والأقوام على جميع الحساسيات التقليدية، وأشكال التعصب والانغلاق الماضية، لإقامة جمهورية تعددية ديمقراطية مفتوحة بالتساوي لجميع أبنائها. ونشأت الدول الحديثة وتكونت منذ البداية بوصفها دول وطنية لا تميز بين أبنائها. وترسخت فيها خلال حقبة الوصاية والحماية الأجنبية، وفي مواجهة سياساتها التقسيمية، ثقافة وطنية قوية ترفض الطائفية وتشجب الاعتماد عليها، لدى كل الطوائف، كبيرها وصغيرها. ولا تزال معظم الشعوب العربية، بالرغم مما تعرضت له من أزمات ثقة داخلية بين الطوائف، تستلهم تلك التجربة الفذة التي تجاوزت فيها زعامات الطوائف والمناطق المتعددة، بإرادتها، منظوراتها الجزئية، لتنخرط في حركة وطنية واحدة وتعمل ضد النزعات الانقسامية، بالرغم مما تعرض له بعضها من إغراءات من قبل سلطات الوصاية، بما في ذلك تشكيل دول مستقلة خاصة ببعض الطوائف والجماعات المذهبية.
وتستند هذه التجربة نفسها، وهو ما يفسر انتصارها، في العراق وسورية على ترسخ الفكرة العربية في وعي الأفراد، بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية، والتطلع المشترك والشامل لنهضة حضارية عربية كبرى، تنقل المجتمع إلى مصاف المجتمعات الحديثة المتمدنة الديمقراطية، وتساعده على تجاوز انقسامات المجتمعات التقليدية الموروثة، وتحرر الفرد من التبعية لعصبية العشيرة والقبيلة والطائفة الدينية.
وقد شكل هذا الإرث السياسي الوطني الحي، ولا يزال يشكل إلى الآن، واليوم بشكل خاص، حصانة ومنعة حقيقيتين ضد النزوعات الطائفية والضغوط الانقسامية القوية التي تتعرض لها العديد من المجتمعات العربية. فبالرغم من بعض الانزلاقات الطائفية التي حصلت هنا وهناك، في سياق التحولات الاجتماعية العنيفة التي شهدتها في العقود الأربع الماضية، بقي القسم الأكبر من ا لرأي العام مخلصا لهذا التراث، ورافضا الانجراف وراء الطرح الطائفي للأزمة السياسية التي تعصف بالفعل بمعظم البلدان.
إن التوحيد بين منطق عمل المجتمع ومنطق عمل الدولة واعتبار الطائفية التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي تسم المجتمعات، يقودان لا محالة إلى الاعتقاد بأن محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات والتضامنات الأهلية وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية. وهو ما يعني عمليا تفكيك عرى التلاحم المجتمعي وتحويل الممسكين بالسلطة والشأن العام، أنفسهم، داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلى طائفة وحيدة، محتكرة للسلطة والثروة جميعا، بصورة نهائية، في وجه شعب أفرغ من أي علاقة اجتماعية، وتحول إلى ذرات لا تعمل ولا تتحرك ولا تفكر ولا تشعر إلا عبر طائفة السلطة وبإرادتها وأوامرها. وهذا ما راهنت عليه، بوحي ايديولوجية قومية مجردة ولا تاريخية، السلطة البعثية في سورية والعراق، وكانت نتيجته عودة مظفرة للطائفية واحتلال لا مثيل له من قبل العصبيات الأهلية لفضاء الدولة، بصورة علنية أو مقنعة، ثم دمارا حقيقيا للدولة والمجتمع، مع فتح الباب واسعا امام التدخل الخارجي والاحتلال.
من هنا، ليست الطائفية، سواء اكانت شعورا عدائيا لطائفة تجاه طائفة اخرى أو استراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس على السلطة أو سياسة منهجية تتبعها سلطة معينة في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية او إتنية أو مذهبية تعزز مواقعها الاستراتيجية، حتمية اجتماعية أو تاريخية لا ترد. وليس لها، بعكس ما تشيعه بعض الأدبيات القوموية السطحية، جذور عميقة في النظام الوطني الذي نشأ مع ولادة الدول العربية الحديثة، بعد انهيار الدولة العثمانية في العشرينات.
كما أن الطائفية لم تنبع من مؤسسات الدولة الاستقلالية نفسها، وإنما أتت إليها من خارجها. فهي أحد أبعاد الأزمة الوطنية الشاملة، وليست أزمة قائمة بذاتها، ولا حتى البعد الرئيسي فيها. وهذا يعني أن الطائفية، بالرغم من تحولها إلى استراتيجية رئيسية عند بعض القوى الاجتماعية للدفاع عن مصالح وامتيازات ومكاسب استثنائية وتكريسها، ليست ظاهرة مستقلة، ولا يمكن دراستها بمعزل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية. إنها تشكل بعدا من المسألة السياسية والاجتماعية، وهي مرتبطة بها ارتباطا عميقا وليس لها من دون هذا الارتباط حظ في الحياة والبقاء. وهي لا تملك حتى الآن، على الأٌقل، أي ديناميكية مستقلة، ولا تعمل إلا مقنعة ومن وراء حجاب. ويعني كل هذا، أخيرا، أنه من غير الممكن فهمها بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي نشأت فيه في العقود الماضية.
[i] صدر عن دار المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 1990
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire