أصبح من الواضح اليوم أن الحرب التي خاضتها الحكومة الاسرائيلية، بالتفاهم مع الإدارة الأمريكية وبتشجيع منها، كانت تهدف إلى القضاء على حزب الله في إطار تتفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1959، الذي لم تستطع الحكومة اللبنانية أن تنفذه بوسائلها الخاصة، أي بالطرق السياسية. وكان من المفروض أن يحقق هذا غرضين رئيسيين. يتعلق الأول بسياسة واشنطن. فبكسرها ما أصبح يشكل الذراع الضاربة للتحالف الايراني السوري، كانت الإدارة الأمريكية تامل في زعزعة هذا التحالف وإجبار أطرافه المختلفة على التسليم بالأمر الواقع، أي التعاون مع الولايات المتحدة، والمجموعة الدولية التي تقف وراءها، لتحقيق هدفيين : قبول ايران بالعرض الغربي المتعلق بوقف عملية تخصيب اليورانيوم، واحترام دمشق الوضع الناشيء في لبنان بعد انسحاب الجيش السوري، وتأمين قاعدة سياسية قوية للاستقرار فيه. وما كان لمثل هذا المشروع إلا أن يثلج صدر تل أبيب التي لم تكن تنتظر فرصة أفضل للتخلص من التهديد الدائم القابع على حدودها الشمالية، من قبل حزب الله وترسانته العسكرية والصاروخية بالدرجة الأولى. وعلى هذا الأساس تم التخطيط للحرب الدائرة منذ 12 آب أغسطس الجاري بين العاصمتين، والتنسيق العسكري والدبلوماسي الفاضح بينهما، داخل مجلس الأمن وخارجه.
لكن الأهداف التي تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تحقيقها في هذه الحرب ليست مرتبطة بمصالح اسرائيلية وأمريكية فحسب، وإنما هي محل إجماع دولي تقريبا. فأوروبة وفرنسا على رأسها ليست أقل انشغالا بملف التخصيب النووي الايراني، ولا أقل اهتماما بتثبيت الوضع غير المستقر في لبنان. ولذلك فقد وقفت وراء أهداف الحرب، حتى لو أنها سعت إلى تمييز موقفها عن الموقف الأمريكي، من خلال التأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار بأسرع وقت ممكن، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان فيه إلى تأجيل تقديم قرار بوقف إطلاق النار إلى أقصى مدة ممكنة، أملا بتحقيق إنجازات على الأرض، تجعل تنفيذ القرار 1959 أمرا واقعا ومفروغا منه، قبل أن يكرسه قرار دولي رسمي. يفسر هذا البطء الشديد الذي وسم حركة الدبلوماسية الدولية في مجلس الأمن وخارجه، كما يفسر موقف الصمت والحياد الذي اتخذته الدبلوماسية العربية، التي لا يقل خوفها من امتلاك ايران السلاح النووي، ومن احتمال تفجر الوضع السياسي والعسكري في لبنان، عن خوف العواصم الأوروبية نفسها. وكان من الواضح أنها لن تتخذ موقف المناصر لحزب الله، أو المدافع عن وجوده العسكري، في الوقت الذي تطمح فيه إلى أن تزيد الدول الغربية من ضغوطها على ايران لحملها على وقف تخصيب اليورانيوم، كما تتخفظ بشكل واضح على سياسة دمشق المتحالفة مع ايران، وتكاد تعيش في حالة قطيعة تامة مع النظام البعثي الذي تنظر إليه، منذ اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري العام الماضي في بيروت، على أنه فقد سيطرته على نفسه، وأصبح مصدرا للمخاطر واشعال الحرائق في المنطقة، ولا تحلم، أقل من العواصم الغربية، في عزله وفرض الحظر السياسي عليه، على أمل احتوائه وتطويعه.
وليس من المبالغة القول إنه لم يحصل توافق دولي ضمني منذ فترة طويلة حول أهداف حرب، بالرغم من المظاهر المخالفة الكاذبة، كما هو حاصل حول الحرب القائمة اليوم في لبنان. وهذا التوافق، الذي دفع إلى القبول باستمرار الحرب والدمار المرافق لها لأربع أسابيع متتالية، من دون أي اعتراض قوي لأي دولة، هو الذي يفسر منحى الاستثمار السياسي المطروح اليوم لهذه الحرب في مجلس الأمن، والذي من المحتمل أنه سيجعل من الصعب جدا التوصل إلى وقف فعلي للقتال.
فليس لمضمون هذا المشروع الفرنسي الأمريكي المقدم إلى مجلس الأمن للتصويت عليه هذه الأيام إلا معنى وحيدا واحدا، هو تفريغ النصر العسكري الذي حققه، من دون أدنى شك، حزب الله، في مقاومته الباسلة للعدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان، من محتواه وتحويله إلى هزيمة سياسية، ومن وراء ذلك معاقبة لبنان نفسه، الرسمي والشعبي معا، على وقوفه صامدا امام حرب التدمير الإسرائيلية، وعدم انقلابه على المقاومة الإسلامية، كما كانت تنتظر الدوائر التي خططت للحرب ونفذتها. فكما اعترف العديد من المسؤولين الاسرائيلين أنفسهم، يكاد هذا القرار يستجيب كليا لمطالب إسرائيل وحاجاتها، سواء في تساهله مع استمرار وجود القوات الاسرائيلية في الأراضي اللبنانية، بعد وقف العلميات "الهجومية"، بل مع استمرار العمليات العسكرية نفسها، كما ادعى ناطق باسم الحكومة الاسرائيلية، أملا باستكمال أهداف الحرب، أو بتأييده فكرة خلق منطقة عازلة في جنوب لبنان ووضع قوات دولية فيها حسب البند السابع، تكون مهمتها مساعدة الجيش اللبناني على نزع سلاح حزب الله، أو في جميع الحالات، تحييده وإزالة أي قدرة لديه على الضغط على إسرائيل، أو في الحديث غير الواضح عن ترسيم للحدود، يتجنب ذكر مزارع شبعا اللبنانية، أو في مطالبته بالافراج عن الجنديين الاسرائيليين الأسيرين وتجاهل الأسرى اللبنانيين.
وهذا يعني أن مجلس الأمن، والدبلوماسية الدولية، قد أقرا مشروعية تحقيق أهداف الحرب الاسرائيلية الأمريكية، بصرف النظر عن نتائج المواجهة العسكرية، في الوقت الذي كان جميع المراقبين يتوقعون، على أقل تقدير، أن يفتح توازن الردع النسبي، الذي أنجبه صمود المقاومة الاسلامية، الباب أمام تسوية سياسية شاملة للنزاع اللبناني الاسرائيلي، بكل ما يتضمنه من ملفات : احتلال الأرض والأسرى وضمان الأمن والاستقرار على الحدود. بل لقد كان الوضع الناشيء عن هذا الردع النسبي مناسبة مثالية لفرض حل دائم وشامل، يخرج لبنان من دائرة الصراع العربي الاسرائيلي، ويفرض في النهاية على حزب الله التخلي الطوعي عن سلاحه، والانضمام إلى بقية القوى اللبنانية لبناء لبنان الديمقراطي والسلمي معا. ولم يكن مثل هذا الحل في صالح لبنان فقط، ولكن في صالح إسرائيل أيضا، التي يهمها الفصل بينه وبين محيطه العربي والايراني. ورفض واشنطن وتل أبيب مثل هذه التسوية يلقي ضوءا جديدا على أهداف هذه الحرب نفسها، ويؤكد أن منطق الصراع والسيطرة والاستفراد بالقرار الإقليمي لا يزال هو السائد في الطرف الآخر، وليس منطق التسوية، حتى في صورتها الفردية المضرة بمصالح العرب ككتلة متعاونة أو مؤهلة للتعاون في ما بينها في المستقبل.
من حق لبنان الرسمي والشعبي أن يرفض مثل هذا القرار الذي يهدر قيمة تضحياته الكبرى ويكرس الهيمنة والاحتلال ولا يخدم سوى مصالح إسرائيل وأمنها. ومن واجب العرب ومصلحتهم دعم لبنان في رفضه هذا، والعمل بكل ما يملكونه من وسائل سياسية ودبلوماسية، من أجل فرض تسوية سياسية تؤمن حقوق لبنان المشروعة، وتخفف من نزوع إسرائيل إلى التصرف كما لو أنها هي التي تقرر مصير الشرق الأوسط ومصير أقطاره، وأنه لا وزن للعرب ولا مكان لهم ولا دور في كل ذلك سوى الإذعان. لا يتعلق الأمر بصدقية وجود العرب ككتلة أو مجموعة واحدة فحسب، فقد اختفت هذه الصدقية منذ زمن طويل، ولا بصدقيتهم تجاه شعوبهم، فهي معدومة تماما، ولكن بصدقية حكوماتهم تجاه محاوريها من الأمريكيين والاسرائيليين أنفسهم، وبالتالي بأسلوب تعامل هؤلاء مع هذه الحكومات واحترامهم لها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire