حوار مع المفكر برهان غليون عن الثقافة وسورية والمعارضة: الضغوط الأمريكية على سورية أضرت بآمال التقدم والتحرر ولأنها ارتبطت بأجندة الاستعمار وعلاقات الهيمنة المعارضة السورية ضعيفة.. وثلاثة أرباع الشعب في المعارضة دون تنظيم.. والنخبة السياسية تريد الشعب شحاذا
حاورته: فاطمة عطفة: صحيفة القدس العربي 13/7/2006
هذا لقاء تم في مدينة أبو ظبي مع الدكتور برهان غليون، وفيه اضاءة او اضاءات علي الكثير من القضايا الفكرية الساخنة التي تشغل بال المثقفين في العالم العربي. وغليون يتمتع بمكانة فكرية ونضالية متميزة، وله حضوره الفعال في المنتديات العالمية. وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس. وله العديد من المؤلفات، من أهمها بالعربية: اغتيال العقل ، بيان من أجل الديمقراطية ، المسألة الطائفية و مشــكلة الأقليات .
البداية: الاغتراب بعيدا عن سورية، المزايا التي حصلت عليها من جراء هذا السفر سواء في المجال الأكاديمي في باريس أو الحضور الفاعل في المنتديات العالمية مقارنة مع زملائك في الدراسة الذين بقوا في سورية؟
أهم شيء أن الإقامة في الخارج تتيح للإنسان أن يعيش في مناخ إنساني حر.. بمعني ألا تكون الضغوط اليومية، والضغوط التي لا علاقة لها بالمشاكل التي يفكر فيها، هي التي تحدد سلوكه، أي أن يعيش الإنسان في مناخ طبيعي، وليس مناخا مليئا بالضغوط والإكراهات والحساسيات والمراقبات. بصرف النظر عن الظروف السياسية، نحن مجتمع مراقبة، مجتمع ضغط علي الفرد وتقيد حريته، ويُطلب من الفرد أن يتأقلم أكثر ما يمكن مع الجماعة، وبالتالي: نحن أيضا مجتمع تقليدي ومحافظ من ناحية العلاقات بين الأفراد، حتي علي مستوي السلوك والقيم التي تتغير بسرعة، ولكن لا يزال هناك علاقات كثيرة محافظة، لأن مجتمعاتنا بسيطة نسبياً علي مستوي التكون الطبقي، وهي تختلف عن المجتمعات الصناعية. أما الاغتراب فقد أعطاني الحرية الفردية، والمسؤولية ومناخ الشعور بهذه المسؤولية. وفي هذا المناخ يكون عند الإنسان قدرة علي أن يبذل جهده للقضية التي يعمل من أجلها، ولا يكون ثلاثة أرباع شغله مكرسا لشيء آخر حتي يؤمن ظروف معيشته. هناك تكون ظروفه آمنة وهو موجود بشكل طبيعي وقادر أن يعمل ما يشاء. أما السلبيات في البعد عن الوطن، فأنا أقول إنه صعب، ولكني كنت دائما قريبا ومنخرطا في قضايا شعبي وهموم أمتي. أنا من الناس الذين أرهقهم الشعور السياسي، وكنت ملتزما بالثقافة وبالمجتمع. أنا من الذين راحوا إلي أوروبا علي أساس أن يرجعوا ويشتغلوا في تغيير المجتمع، مثل كل الأجيال من المثقفين العرب. أول ما يصير الواحد يقرأ ويفكر يشعر بأنه وقع علي كاهله العمل علي تغيير المجتمعات وتحديثها وتطويرها، ولكن ظل المجتمع ـ ليس السوري فقط ـ بل المجتمع العربي وهو ساكن وكأنما لا يعنيه تفكيرنا. كل فترة الدراسة كانت مركزة أيضا، دون أن نشعر، علي تحليل وتفكيك المجتمع العربي، وإعادة تركيبه علي أسس جديدة. فنحن نعيش فــــي العالم العربي حتي لو كنا نقيم علي الأرض الأوروبية، لقد بقينا نعيش فيه فكريا ونفسيا أيضا، هذا كان يخفف عنا الشعور بأننا منفيون، وإن لم يوجد هذا الشعور عندي، بل كنت أشعر أني في بلد ثان وهمومي ما زالت نفسها وعلاقتي مع الوطن ما زالت علي الرغم من مرور ست وعشرين سنة لم أعد إلي البلد إلا في زيارات قليلة جدا وقصيرة. هذا طبعا هو الشيء السلبي الذي تمثل في عدم رؤيتي الأهل، عدم رؤيتي الأصدقاء، وعدم التواصل مع الناس الذين عشت معهم في البداية، والناس الذين تربيت معهم. وفي مجال العمل أيضا، نحن في أوروبا صرنا ننظر ونشتغل في الثقافة، بينما كانت نشأتنا وشبابنا في السياسة، وهمنا السياسي كان كبيرا. الحقيقة أننا دخلنا في الفكر وانشغلنا بالثقافة من خلال السياسة، وهذا يعني تمردا علي الوضع الاجتماعي، وتمردا علي النظام التقليدي القائم، وكانت الممارسة السياسية في تصورنا. ولكن في أوروبا تعلمنا أن نعيد التفكير بشكل أساسي في سلوكنا، في تفكيرنا في التغيير، وأن نطور أيضا رؤيتنا للتغيير، كانت تلك خطوات مفيدة أيضا في هذا السياق. لماذا لا يؤثر المفكر علي السياسة أكثر المفكرين في الغرب أو في أمريكا يكون لهم تأثير كبير في السياسات القائمة في بلادهم، وقد لاحظت في الملتقي الأخير أن وزير الدفاع الأمريكي السابق عرض أفكارا وشواهد من أعمال المفكرين والأدباء في بلاده. أنت مفكر عربي صدرت لك كتب عديدة في الثقافة وعلم الاجتماع.. سؤالي: لماذا تظل مؤسساتنا السياسية غير قادرة علي أن تستفيد من أي كتاب عربي؟.. أقصد عدم تأثير المفكرين العرب في بنية وتفعيل السياسة والتغيير الاجتماعي.. لأن المفكر العربي بقي بعيدا أو معزولا إلي حد كبير عن السياسة؟ الحقيقة أن التحولات في الوطن العربي وبشكل عام، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، حصلت بشكل يمكن أن نسميه مصادرة للسياسة والثقافة. مجموعة صعدت علي ظهور الدبابات وقامت بذلك، لم يكن عندها أصلا تراث ثقافي، ولا هم ثقافي ولا سياسي. وصعودها علي ظهور الدبابات جعلها تعتمد القوة. لا يوجد عندها أي هم فكري، ولم تشعر بضرورة تطوير فكرها وثقافتها بشكل عام. صعودها أعطاها شعورا بأن الذي يحسم الأمر والذي يحكم هو القوة. وهناك نخب بدأت تتفاعل مع القوة ولا تزال، ثم انتقلت بالعمل مع أجهزة الأمن والرهان علي أجهزة الأمن.. واستمرت علي قمع المواطنين، علي قمع الحريات والحد من حرية التعبير حتي تستمر بالسلطة وتستمر بالوجود.. وجودها نفسه صار معاديا للثقافة. وصارت تشعر أنه حتي تبقي بالحكم يجب أن تلغي الثقافة، يجب أن تلغي الحرية، يجب أن تلغي المثقف الذي كانت هي قريبة منه أو كان بعض المثقفين قريبا منها. لذلك أنا كتبت منذ خمس عشرة سنة سلسلة من المقالات كان يجب أن تصدر في كتاب وحتي الآن لم تصدر. سميتها محنة المثقفين العرب . المثقفون العرب، في الحقيقة، هم الذي كانوا وراء تشكيل الأحزاب القومية واليسارية.. وحتي الليبرالية. لكن حين وصلت تلك الأحزاب إلي السلطة كان المثقـــــفون انفسهم ضحيتها الاولي والذين حرموا من كل فرصـــــة، حتي للتعبير عن وجودهم، او حتي للتعبير عن آمالهم وأفكارهم. وسيـــــطرت نخبة سياسية باسم الحزب وتحولت إلي نخبة بيروقراطية مرتبطة بأجهزة الأمن، همومها لا تتعدي ـ إلي حد كبير ـ مصالحها الشخصية وتأمين موارد أكبر وثروات أكبر. نحن نقول: إن مصادرة حقيقية للفكر حصلت، مصادرة أيضا للسياسة فأصبح السياسيون دون فكر ودون سياسة عملية. هذه الحالة تفاجئني، مثلا من هم السياسيون العرب الذي يحاورون المثقفين؟ لا وجود لهم لا في محاورة المعارضة الديمقراطية ولا غيرها، لا تجدين غير أجهزة الأمن وقادة الأمن الذين أصبحوا الوحيدين السياسيين، فلم يعد هناك غيرهم! وإذا حرمنا السياسة من الفكر لم يبق هناك سياسة، لم يعد هناك سياسيون، ولا فكر، أصبح هناك قادة أجهزة ومسؤولو أجهزة وإداريون وبيروقراطيون هم الذين يتكفلون بإدارة البلاد. لذلك، حقيقة، فإن مجتمعاتنا تفتقر حتي إلي طبقة سياسية، لا إلي نخبة سياســـــية تدور بأوامر بيروقراطية، من قبل بيروقراطية عسكرية أو إدارية، وليس هناك سياسة. هذا يفســـر تراجع أوضاع هذه المجتمعات
.
الضغط على سورية
هناك قوى عالمية تخطط وتمارس ضغوطا علي سورية، برأيك كيف يجب التعامل مع هذه القوي، وخاصة أن الشعب يعاني من ضــغوط داخلية خانقة؟
النظام في سورية يعيش أزمة سياسية عميقة، وهو يواجه الشارع بضغوط داخلية قوية جدا، كلما ازدادت عليه الضغوط الأجنبية، وبشكل خاص الضغوط الأوروبية والأمريكية. وقد حصل شعور عند الرأي العام، وخاصة المثقفين والمعارضة، أن هذا النظام القائم لا يريد أن يفتح أي حوار، لقد رفض بالفعل خلال الخمس سنوات الماضية أن يبدأ أي شكل من أشكال الحوار، رغم كل حسن النية التي أظهرتها المعارضة. ورفض حتي أن يقوم بأي إصلاحات تسمح للمثقفين أو للمعارضة بأن يعبروا عن أنفسهم بشكل ما من الحرية، وليس بحرية مطلقة. لذلك تزايد الشعور بأنه دون ضغوط خارجية من الصعب أن يقوم هذا النظام بأي تنازلات أو أن يتخلي عن الاحتكار المطلق للسلطة، والاحتلال المطلق للفكر والإعلام والدعاية إلي آخره. وأكثر من ذلك صار هناك شعور بأن هذا النظام لم يكن ليستمر لولا الدعم الخارجي، وبالتالي ما دام هو قائما علي الدعم الخارجي، فإن تغير الدعم الخارجي له سيكون لصالح الحركة الشعبية. وليس هناك من سبب لرفض هذا الشيء. اليوم، بعد أربع أو خمس سنين من هذا الوضع، شعوري بأن الضغوط الأجنبية، والأمريكية بشكل أساسي، كانت نتائجها سلبية، بل أضرت بآمال التقدم والتحرر والإصلاح أكثر مما أفادت. السبب أنها ارتبطت بأجندة استعمارية، أجندة إعادة علاقات الهيمنة والنفوذ في المنطقة. وكمثال كبير عليها هو احتلال العراق من قبل قوات التحالف الأمريكي والبريطاني. هذا أضعف إلي حد كبير، وما كان بالإمكان إلا أن يضعف معني ومضمون الضغوط الأمريكية علي النظام في سورية الذي له بشكل أساسي علاقة بلبنان أيضا. أما الأوروبيون فما عندهم أي سياسة منسقة للمنطقة. وكان واضحا أنهم غير قادرين علي التأثير. وأنا من الناس الذين اقتنعوا بأنه لا بد من طلب من الأمم المتحدة بشكل رئيسي، كممثل للمجموعة الدولية التدخل بشكل أو بآخر، ليس كوسيلة للضغط وإنما من أجل فتح خطوط المفاوضات بين الأطراف السورية علي مختلف اتجاهاتها. أنا أقول: أن يكون هذا النموذج للعمل الدولي علي مستوي عالمي، ليس فيما يتعلق بسورية وحدها، ينبغي أن تكون هناك مسؤولية لدي الأمم المتحدة، بدل أن تقوم بها الولايات المتحدة التي هي تقوم بالضغط وتعتبر نفسها وكأنها هي مسؤولة عن قيادة العالم ومسؤولة عن تطبيق الديمقراطية هنا في هذه البلاد أو في هذه المنطقة. نحن نقول إن الولايات المتحدة غير كفؤ وغير أهل بسبب سياساتها الاستعمارية حتي اليوم، بالنسبة لنا في فلسطين وفي العراق، فهي غير مؤهلة لأن تقوم بهذا الدور. المؤهل لأن يقوم بهذا هو مجموعة دولية في الأمم المتحدة تمثل دولا ليس لها مصالح استعمارية في بلادنا بشكل أو بآخر. وتحاول أن تضغط من أجل فتح مفاوضات بين الأطراف للوصول إلي تفاهم جديد من أجل فتح المجال السياسي في بلد مثل سورية، كما هو الحال في بلدان أخري تعيش نفس الظرف. نحن في الظروف الراهنة وبقوانا المحلية غير قادرين علي أن نفتح الحوار، وواضح أن السلطة فشلت في أن تخضع ولن تستطيع أن تخضع الشعب والرأي العام. وبنفس الوقت فإن المعارضة والمثقفين بقواها الضعيفة، في وجود نظام قائم علي احتكار كل شيء، غير قادرة أن تفرض الحوار. ولن تستطيع أن تفرض حتي التحويل التدريجي، وبأبطأ صورة ممكنة، علي نظام يعتقد أنه مدجج بالسلاح قادر علي قمع أي تحرك، ولا يسمح حتي اليوم باعتصام حتي عشرة أشخاص أو عشرين شخصا في ساحة عامة. فأنا أعتقد أن المسؤولية اليوم أصبحت دولية وينبغي أن نتوجه إلي الأمم المتحدة من أجل دفعها إلي رعاية حوار تحت إشراف ومراقبة وشهود دوليين بين الأطراف السوريين والمعارضة وأطراف المجتمع المدني التي تعاني من اضطهاد حقيقي ويومي ومن حرمان من أي شكل من أشكال الممارسة والحرية وبين أطراف النظام علي قاعدة التحول إلي نظام ديمقراطي، وليس علي قاعدة المشاركة واقتسام المنافع واقتسام السلطة، وإنما علي قاعدة فتح النظام تدريجيا تحت إشراف الأمم المتحدة.
ما العمل؟ فشل النظام السياسي أدى إلى تراجع خاصة في سورية وفي المجتمعات العربية بشكل عام، ما هو المخرج وكيف يكون ترميم هذا المجتمع في رأيك، وأنت مفكر وباحث ودراستك في علم الاجتماع؟
المهمة ليست سهلة أبدا. أنا باعتقادي أنه حصل تخريب حقيقي للمجتمع، تخريب حقيقي للنظم والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية. تخريب بأي معني؟ لم تعد هذه المؤسسات كلها تقوم بوظائفها، أصبحت كلها في خدمة السلطة، أصبحت كلها فاقدة للمعني وفاقدة للنجاعة. النشاطات الاجتماعية تدول خارجها، القانون ليس هو الشيء الحقيقي السائد اليوم، وإنما العرف حل محل القانون كمثال. كيف يمكن أن نعود إلي الحالة الطبيعية؟ باعتقادي أن المطلوب اليوم ليس الانقلاب، بعكس ما كنا نتحدث بالخمسينيات والستينيات. المطلوب العودة إلي أن الإنسان يشعر بأنه إنسان له حريته، له حقوقه، وهو مساو للآخر، بعيدا عن الاضطهاد. العودة إلي الحياة الطبيعية، لا تتم في يوم وليلة، عملية بناء وإعادة بناء للمجتمع من جديد. هناك ثلاثة مستويات لإعادة البناء: المستوي الأول هو الأعمق وهو المستوي الثقافي، وضع المثقفين أمام مسؤولياتهم من أجل بناء ثقافي فعلا.. أن نعبر عن القيم، ننمي قيم الديمقراطية، قيم المساواة، قيم الإنسانية، في مقابل ما ينمو في هذا الخراب من قيم الطائفية، وقيم التعصب، وقيم العداء المشترك، وقيم غياب الثقة بالآخر، وقيم الشك والتشكيك بالنوايا والتخوين. نحن نعيش الآن ضمن ثقافة ضاغطة لأنها تبنت كل القيم السلبية، هذه مهمة لا يمكن أن تفرض بالقوة ولا بالقوانين ولا بالمراسيم. هذه أمور لا يمكن أن تحقق ثقافة. باعتقادي أن أخطر شيء حصل في مجتمعاتنا هو تخريب البنية الاجتماعية والاقتصادية. إن الذي يتحكم بالمجتمعات خلال التاريخ هو الطبقات التي تملك الوسائل، وسائل العلم والإنتاج والمعلومات والتوجيه، والوسائل اليوم هي رأس المال، فالذي يملك رأس المال يستطيع أن يبني مؤسسات ويبني صحافة ويبني جمعيات أهلية، كلها تمول من قبل الناس. رأس المال اليوم وقع في يد مجموعات ليس لديها ثقافة ولا سياسة ولا فكرة عن المجتمع ولا شاعرة أنها هي جزء من هذا المجتمع، وأن عليها مسؤوليات، حتي الإقطاعي كان يشعر أن عليه مسؤوليات. الفلاح الذي كان تحت سيطرته، كان يزوجه، يطببه، كان يراعيه، هؤلاء يشعرون أن المجتمع غابة يصطادون فيها كما يشاؤون ويهربون بصيدهم إلي الخارج. المهم أن تكون ثرواتهم في الخارج لا تمس، مصير المجتمع في النهاية لا يهمهم علي الإطلاق. أسوأ ما حصل في مجتمعاتنا هو نوعية النخبة الاقتصادية، الطبقة المالكة لرأس المال التي تكونت في بلادنا، وتكونت في ظل سلطة احتكارية أو سلطة سياسية محتكرة، بعلاقة مشبوهة بين المال وبين السلطة. أعتقد أنه علي المدي المتوسط، هناك رأس المال في العالم العربي، وفي سورية بشكل خاص هذا عمل إلي تفكير: كيف نحول هؤلاء الوحوش الكاسرة التي تري في المجتمع فريسة ولا تفكر أن هؤلاء مكونون من بشر وعندهم عواطف، وعندهم مشاعر، وعندهم حياة وأولاد ويفكرون بالمستقبل. كل واحد من هؤلاء الجشعين لا يفكر إلا بنفسه وأولاده. كان في مجتمعنا الحرام والحلال، وكان فيه زكاة، وكانت هناك القيم الدينية التي تشجع الناس علي أن يتواصلوا ويتراحموا، حتي هذا لم يعد موجودا. الوضع الراهن يؤدي إلي مزيد من التوتر الاجتماعي لا حدود له، كما يؤدي إلي خلق طبقة لا تهتم بمصير المجتمع، وإنما تقوم كالمضخة بأخذ وجمع رأس المال وتصديره إلي الخارج، وبناء عالمها خارج البلدان. وعندنا أمثلة كثيرة في سورية. كثيرون منهم سرقوا وهربوا بأموال الشعب، وكل يوم سوف يسرقون ويهربون لأنهم يخافون أن يظلوا في البلاد ويجيء يوم للمساءلة. إن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تتم بين المثقفين، ولكن يجب أن تطرح علي إطار دولي، وأن يكون الموضوع علي مستوي دولي ومؤسسات دولية، وأن يكون حوله حوار من أجل النظر في سلوك وتأهيل هذه الطبقة. علي مستوي أقصر، أعتقد أن العمل يجب أن يكون علي مستوي سياسي، بالتأثير مباشرة علي النخب السياسية الحاكمة. يجب أن يكون في إطار يتنظم في الأمم المتحدة لتحسن التأثير علي هذه النظم وتفرض عليها الحد الأدني من المعايير، كيف يجب أن تتعامل مع شعوبها، فاليوم أصبح العالم كتلة واحدة. لا يمكن لنخبة لأنها أخذت السلطة، بطريقة أو بأخري، أن تمارس علي شعبها قوانين الرق والعبودية ومنعه من أي شكل من أشكال التعبير عن رأيه والتعبير عن إرادته.
المعارضة السورية
هل تعتقد أن المعارضة التي تسعي إلي تحقيق الديمقراطية في سورية، تستطيع أن تصل إلي هذا المطلب ولو بمساعدة الأمم المتحدة؟ وهل يمكن للأمم المتحدة أن تتجاوب مع ذلك؟ وهل أنتم قادرون علي تقديم ذلك المشروع إلي الأمم المتحدة؟
نحن نقود تجربة جديدة تحتاج إلي تفكير وإنضاج، ولماذا لا تستطيع النخبة ومؤسسات المجتمع المدني في سورية وفي غيرها من البلدان أن تؤثر أو يكون لها جدوي فاعلة في عملية التغيير، وهي تشعر فعلا أن هناك اضطهادا وترفض أن يكون الأمر عن طريق الاحتلال العسكري كما حصل في العراق، وترفض أيضا تدخل الولايات المتحدة من أجل استخدام قضية الديمقراطية وترسيخ سياسات استعمارية وهيمنة وفرض الوجود الإسرائيلي علي العرب كما تشاء إسرائيل. فنحن نريد حلا له علاقة مباشرة بتطوير النظم السياسية وتطوير علاقة النخب مع شعوبها وليس له مضاعفات تتعلق بالأمن الإقليمي والاستراتيجيات المحلية. فأنا برأيي أنه ينبغي أن نعمل بهذا الطريق ونستطيع فعلا، إذا أقنعنا كل منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة وقدمنا عريضة للأمم المتحدة تطلب رعاية حوار ومفاوضات بيننا وبين الحكم الراهن في سورية وبشهود دوليين من شخصيات محايدة، ليست شخصيات لها مصلحة خاصة في سورية، رجال أعمال كبار، نستطيع أن نفتح ربما ثغرة في دفاعات النظام وإصراره علي رفض أي حوار مع مجتمعه.
يوجد ضعف وتشتت في المعارضة في سورية، هل من الممكن تنظيم هذه المعارضة أو تقويتها؟ وهل تستطيع أن تقوم بدورها في أن تكون فعلا عامل ضغط مؤثرا علي المؤسسة السياسية لقبول الانفتاح علي الشعب وتقبل بالتالي الدخول مع المعارضة في جو ديمقراطي؟
المعارضة كانت ضعيفة ولا تزال بسبب الظروف السياسية التي تعمل فيها. نحن نعرف أنه ممنوع العمل السياسي ولا يزال ممنوعا بشكل رسمي. قانون الحزب الواحد هو قانون محدد، وبقانون الطوارئ اليوم ممنوع الاجتماع، حتي أربعة أو خمسة أشخاص غير قادرين علي أن يجتمعوا مع بعضهم ليتناقشوا في مستقبل ومصير بلدهم. فإذاً، مفهوم لماذا المعارضة ضعيفة، ولكن شعوري خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وخاصة مع انحسار الآمال بأن هناك إرادة تغيير وإرادة اصلاح من قبل النظام، شعوري أن هناك نموا كبيرا للمعارضة. هناك نمو واسع جدا، حتي النظام لا يدركه. الشعب اليوم ثلاثة أرباعه معارضون، يعبرون عن معارضتهم، ولكنهم غير منظمين، وهذا النمو سوف يفرض منحي جديدا علي المعارضة، سوف يغذيها بأفكار جديدة، وسوف يفرض عليها أيضا أن تخرج من الأطر التقليدية التي تعبر عن الانقسام والتشتت. من أين يأتي الشتت؟ من انعدام رؤية واضحة، ضغــــــوطات خارجية قوية جدا تقع علي الأفراد من أجل منعهم من التفاهم والتواصل مثلما يحصل في كل البلدان الشمولية، والنظم الاستبدادية. الآن أعتقد أن سياسة القمع وسياسة الحد من الحريات المبالغ فيها وصلت نهاياتها، وبعد أن بدأت الناس تفقد الأمل بالاصلاح الموعود ولم يحصل، وكل حديث عنه كسب للوقت، لذلك فالسنوات القادمة وربما الأشهر.. وقريبا جدا سوف تعطي المعارضة السورية قوة دفع كبيرة. سورية أصبحت تعاني اليوم من الطبقة السياسية وشريكتها في المكاسب والامتيازات طبقة التجار والمستفيدين الذين لا يهمهم إلا الربح وتأمين مصالحهم، بينما بقيت غالبية الشعب يؤمنون حاجاتهم ومتطلباتهم علي هامش هاتين الطبقتين بكل ما تتمتعان به من تسلط ونهب واستغلال. هؤلاء يريدون أن يجعلوا من الشعب شحاذاً ليس له حقوق، لا أحد يعترف له بحقوق، بل يمنون عليه حتي إذا أعطي خمسة أو عشرة بالمئة، وهم يعطونها وكأنها إكرامية وما شابه.. وعليه أن يتقدم بطلب واستجداء من أجل نيلها، يجب أن يتوسط عند هذه الطبقة المشتركة، والتي هي المالكة للسلطة السياسية ورأس المال. إنهم عبارة عن أسر وعائلات ومجموعات من بين رجال الأعمال والتجار الكبار والمسؤولين، وقد أصبح أبناء المسؤولين هم أنفسهم التجار. فعلا هذا الالتقاء الجشع بين السلطة السياسية وبين السلطة المالية (شلّح.. بالتعبير العامي)، شلح الشعب كل حقوقه، وشكل مركز قوة هائلا بأنه لا أحد يستطيع أن يقف أمامه، وأن الشعب صار تماما كما كان في فضاءات القرون الوسطي. وهؤلاء ينصبون أنفسهم كأسياد ويتصرفون كذلك، ويمنون علي الناس كأسياد، وهم الوحيدون القادرون علي أن يؤمنوا لهذا أو ذاك منافعه أمام تنازلات يمكن تكون معنوية. إنهم يريدون التبعية المطلقة والمحسوبية والزبائنية، أو مقابل شيء عيني مثل رشوات يقطعها المواطن من دمه ولحمه ومن حياته. نحن فعلا أصبحنا في نظام ألغي كل ما كسبته المجتمعات الحديثة من نظم كنظم القانون، نظم المواطنة، نظم الحرية، نظم المساواة بين المواطنين والأفراد، هذا كله ألغي تماما لصالح تكوين أرستقرطية مشتركة، وكل ما عدا ذلك هم أتباع تشكل منهم المليشيات التي تضرب الشعب أيضا والتي يمولها هؤلاء. لذلك أنا أقول إننا بالفعل فقدنا، بالتفاهم العميق بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، فقدنا كل مكتسبات الحداثة بما فيها الفكرية، بما فيها قيم المجتمعات نفسها. وأنا، مثلا، حتي أكون نافعا يجب أن أتصرف كزبون وأتخلي عن كرامتي، وأتخلي عن حريتي، وأتعامل مع صاحب النفوذ باعتباره السيد المطاع، وأبجله وأكرمه حتي أستطيع أن أضمن البقاء لنفسي. عدنا تماما إلي المجتمعات الاقطاعية التي كنا نناضل ضد بقاياها، لكن عدنا إليها بشكل أصيل وكامل. والحداثة بدأت عندما فرض الاستقلال بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، وقلنا إن الدولة تعبر عن الشعب ولا تعبر عن مجموعة المصالح القائمة. عندما تعود الدولة لتكون هي التعبير المباشر والدقيق عن مجموعة المصالح للطبقات المالكة، انتهت كل الدولة الحديثة. العلاقات السورية ـ اللبنانية
كيف تنظر إلى مستقبل لبنان وسورية ومن خلال السياسة الدولية في المنطقة والضغوط الخارجية، ولأهمية موقعهما بعد احتلال العراق؟
هناك علي المدي المتوسط معركة كبيرة نخوضها. نحن في مخاض حقيقي. أنا لا أعتقد أننا سوف نستسلم للظروف التي نحن فيها. طبعا هذه ظروف لا يمكن لأي شعب أن يقبلها. هذه الظروف الاقطاعية، ومن أجل تغييرها، هناك معركة قوية جدا بدأت من قبل ونحن نعيشها وهي بتصاعد واستمرار، ومعركة الديمقراطية جزء منها، ليست كلها معركة الديمقراطية السياسية، هي معركة إعادة تجديد الثقافة، تجديد المجتمع، النهوض بثقة المجتمع، وثقته هو بنفسه، تكوين الفرد المواطن من جديد بعد أن تم إلغاؤه. نحن شعب نرفض التدخل الخارجي ولكن فشل المؤسسات السياسية كان ســــببا لهذه الضغوط الخارجية، كما وصلنا إلي هنا بسبب تخــــلف البني الاجتماعية وغياب الفـــــردية القوية والمسؤولية. ولكن علي المدي المتوسط، هناك معركة، وهناك معاناة وصعوبات بلا شك علي المدي الطويل. إن ما يحصل من ظلم واضطهاد اليوم سوف تكون نتائجه ثورة تحرر حقيقية في العالم العربي.
انشقاق خدام بعد ثلاثين سنة من مشاركته، كيف تنظر إلي هذا الحدث؟ هل يمكن أن يكون بإيحاء خارجي أو هو بفعل طمعه في العودة والسيطرة من جديد؟
أنا أتصور أن انشقاق خدام هو بداية تصدع النظام القائم وتضارب أطرافه. طبعا عبد الحليم خدام هو جزء قائم من نظام، بل هو أحد مؤسسي النظام، أحد أطرافه الرئيسية وليس طرفا ثانويا فيه. وتحليلي أن انشقاقه دليل علي أن النظام نفسه بدأ يفقد قدرته علي تحقيق أهدافه بين أطرافه المختلفة، هذا يعني أن قاعدة السلطة بدأت تضيق لتصبح قاعدة عائلية. هذا جزء من تفكك النظام. ماذا يستطيع خدام أن يفعل؟ هذا كله متوقف فعلا علي تطور المعارضة. وإذا كان هو نفسه قادرا أن يخرج من جلده، كما يعد في بعض الأحيان.. وإلا فسوف يبقي كما هو حتي الآن، لم يقدم أي تقييم أو نقد ذاتي أو أي اعتذار عما حصل. كان عنده فرصة، علي الأقل، أن يقنع المعارضة لو أنه اعترف وقام بالحد الأدني من المسؤولية عما حصل. ومحاولة التبرؤ منها - كما قال - بأنه لم يكن مسؤولا، هذا أخطر شيء يقوله مسؤول ونائب رئيس دولة وعضو بالقيادة القطرية، يقول إني لم أكن مسؤولا ولكن كنت فقط وزير خارجية، هذا شيء غير مقبول.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire