مركز دمشق لدراسات حقوق الانسان
احتلت سورية منذ عقود طويلة موقعا متميزا في الثقافة السياسية العربية. وكان حجم العطف الذي تمتعت به من قبل الرأي العام العربي، من مثقفين ونقابيين ومنظمات مجتمع مدني وقطاعات شعبية عامة، متناسبا مع الدور الذي لعبته، منذ النهضة الفكرية والسياسية في القرن التاسع عشر، في أحياء الروح القومية، والمشاركة في شق طريق الحرية والاستقلال عن الهيمنة التركية، وعن السيطرة الاستعمارية الأوربية التي خلفتها، أمام الشعوب العربية. وهو الدور الذي جعلها تنفرد، من بين جميع البلاد العربية، بلقب قلب العروبة النابض، الذي أطلقه عليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وهي بالفعل قلب العروبة النابض. ولا تزال العروبة هي الهوية الحقيقية لسورية وللسوريين. وقد أخفقت جميع المحاولات التي قام بها المثقفون ولا يزالون لبلورة هوية وطنية متميزة عن الهوية العربية أو مستقلة نسبيا عنها حتى لو كانت بإزائها أو بمواكبتها وليس ضدها.
وبالرغم مما يزيد عن أربعة عقود من حكم حزب البعث الجديد الذي راهن على عزل سورية عن محيطها، واتبع سياسات القوة وفرض الرأي، التي جعلت دمشق تدخل مرارا في مواجهات دامية مع العديد من الاطراف العربية، وفي مقدمها حركة المقاومة الفلسطينية، لم يضعف هذا التعاطف مع سورية عند الرأي العام العربي. وقد زاد هذا العطف بقوة في السنوات الأخيرة، في مواجهة ما تتعرض له سورية من ضغوط خارجية، أمريكية بشكل خاص، وإزاء ما تجبر على تطبيقه من قبل مجلس الأمن من قرارات دولية جائرة، سهلت صدورها الاختيارات السياسية الخاطئة، وسوء التقدير. ولم يوفر الرأي العام العربي المحب لسورية، والحريص على استقلالها وقوتها، وسيلة للتعبير عن تأييده لها وتمسكه باستقلالها وسيادتها حتى صار الدفاع عن سورية في وجه الضغوط الأجنبية، وشجب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الرامية إلى إخضاعها، أحد مقومات العقيدة العربية الشائعة، وسلاحا من أسلحة النظام القائم في دمشق ضد معارضته المحلية، في السنوات الخمس الماضية. وهكذا لم تتردد أي منظمة عربية إقليمية، من اتحادات كتاب وصحفيين، إلى مؤسسات برلمانية، مرورا باتحادات المحامين والمهندسين وغيرها، في أن تعقد مؤتمراتها السنوية، بل أن تدعو لمؤتمرات استثنائية، في دمشق للتعبير عن وقوفها إلى جانب سورية وتعاطفها مع شعبها.
وإلى وقت قريب، لم يكن الرأي العام العربي يظهر قلقا كبيرا على الأوضاع السورية. وكانت ثقة العرب المتضامنين مع سورية وشعبها قوية بالأسس التي تقوم عليها الوحدة الوطنية، بل بالقيادة السياسية السورية، وبالتالي بقدرة البلاد على تجاوز أزمتها الداخلية المؤقتة، وعلى التصدي للمؤامرات الخارجية. لكن الشكوك التي بدأت ضعيفة أخذت تتنامى في الأشهر الأخيرة، وفي موازاتها النزوع إلى مقارنة الخيار السوري الراهن في ما يتعلق بالانغلاق على المجتمع وإظهارالخوف الشديد منه، بالخيار العراقي السابق على التدخل الأمريكي البريطاني. ومع تعثر عملية الاصلاح، وتراجع السلطة عن العديد من الوعود التي أعطتها، ثم تزايد الحديث في الإعلام العربي والعالمي عن العودة إلى سياسة العصا الأمنية الغليظة التي تعاني منها العديد من الشعوب العربية، بدأت الثقة تترك مكانها للانشغال والقلق والخوف على مستقبل سورية وشعبها.
ومهما كانت مبرراتها أو الدافع إليها، شكلت حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت منذ الرابع عشر من أيار مايو عشرات المثقفين السوريين، على أرضية توقيعهم على بيان مع زملائهم اللبنانيين يدعو لإصلاح العلاقات السورية اللبنانية المتأزمة، نقلة نوعية في مشاعر قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تجاه النظام السوري، وقدرة القيادة السياسية في هذا البلد على مواجهة التحديات. فلم ألتق مثقفا أو مسؤولا، عربيا أو أجنبيا، واحدا في تنقلاتي الأخيرة، وقد صدف وكانت كثيرة بسبب ندوات متعددة، لم يبادرني بالسؤال : ما الذي يجري في بلادك؟ كيف يحصل هذا وكيف يمكن تفسيره؟
لقد أصبحت سورية اليوم بالتأكيد أحد الهموم الكبرى التي تشغل الرأي العام العربي، بمثقفيه وكتابه وصحفييه ومحاميه وأطبائه ومهندسيه، وجميع فئات الشعب التي أحبت سورية ولا تزال ترى فيها، ذخرا للعروبة.
وقد أرسل لي زميل عربي يقول بالانكليزية : "زرت دمشق مؤخرا وعرفت بالضبط عما تتكلمون. وفي اعتقادي أن أفضل وصف للديناميكية التي تتحكم بالمجتمع جاء على يد باحث غربي زار البلاد وتحدث مع السكان وراقبهم وهم يلهثون وراء لقمة العيش، مع تراجع قوتهم الشرائية وغلاء الأسعار من دون ضابط. فقد لاحظ أن الناس يعيشون كالأشباح "زومبي"، يعتقدون بأنهم أحياء، ولكنهم ليسوا كذلك في الواقع. وآخر همهم العمل مع آخرين في فريق واحد لتحسين شروط عيشهم وعيش أقرانهم. والملاحظة الثانية التي أشار إليها الباحث الغربي، والتي تتفق مع وجهات نظركم، هي الاختلاف الكبير في منظومات القيم التي يتعامل بها الشعب اليوم، بالمقارنة مع قيم الخمسينيات والستينيات. كانت القيم الماضية تشجع على التفكير بالذات وبالناس الآخرين أيضا، وبالتالي بالمجتمع ككل. وهو ما كان يعبر عن نفسه عبر الايديولوجيات والشعارات الاجتماعية الرائجة. أما اليوم فجميع القيم الشائعة مرتبطة بالمصالح الخاصة فحسب. وبإمكانك أن ترى قصرا منيفا يتجاوز سعره 20 مليون ليرة لا يضير اصحابه أن يكون محاطا بكومات من الزبالة. ومع أن هالة كربون الأوكسيد التي تغطي مدينة دمشق كافية لتقصير عمر أشرس الحيوانات للنصف، فليس هناك من يتحدث عن مسؤولية الحكومة وعن واجبها في ايجاد الحلول لحماية المواطنين. ومن الواضح أن نسبة السكان الذين يعيشون ويعملون ويمارسون نشاطات ربحية خارج القانون كبيرة جدا. وكلمة العدالة ليست من المفردات التي يمكن أن نجدها في قاموس هؤلاء. فبالنسبة لهم القوة وحدها هي القانون. كما أنك لن تستغرب أن ترى أناسا يمتدحون السارقين لما يقدمونه للبلاد من فرص، ولما يغمرونها به من عواطف. يبدو لي كما لو أن المجتمع بأكمله يعيش في الخطيئة أو يشعر بأنه يعيش فيها، وان النار تشتعل تحت الرماد، وأن المستقبل لا ينطوي على وعد آخر سوى انتظار البركان الآتي ليطهر هذا المجتمع من الطغاة والسارقين".
الذي دعاني إلى استعادة هذه الرسالة وترجمتها هو حملة الاعتقالات الجماعية الأخيرة التي طالت مثقفين سوريين، وتلك التي أعقبتها بصرف سبعة عشر آخرين منهم من وظائفهم، بسبب توقيعهم على إعلان دمشق بيروت نفسه. فهي تذكرنا بأصل المشكلة. فليس لما تعيشه سورية وشعبها، حسب ما وصفته الرسالة، سبب أكبر من مصادرة حريات الأفراد، وفي مقدمها حرية الرأي والتعبير، وفرض الوصاية الدائمة على العقل، التي تعني تجريم النقد والمساءلة، وفرض الإذعان والاستسلام على شعب بأكمله، وتسليمه وموارده مقيد اليدين والقدمين لمشيئة أصحاب المصالح والامتيازات. فلا ترتبط هذه الاعتقالات والانتهاكات الصارخة لحق الأفراد بأي خطر يتهدد النظام من قريب أو بعيد، وإنما جاءت على سبيل المبالغة في الاحتياط وقتل أي بصيص أمل يمكن لفكر المثقفين الحر أن يبعثه في شعب حوله الاعتساف الطويل والعنف إلى رميم.
ليس من المستغرب والحالة هذه، أن تحدث المعاملة المهينة للعقل وللمثقفين والناشطين المدنيين هزة كبيرة في وعي جميع أولئك العرب والأجانب الذين كانوا يتعاطفون مع سورية وأحيانا مع النظام السوري ذاته، وأن توجه ضربة قاضية إلى أسطورة النظام الاصلاحي الفتي، وما رافقها من شعارات التحديث والتطوير والانفتاح الاقتصادي، وتمحو آثار مئات القوانين التي أصدرها العهد الجديد. فبسببها أصبحت سورية تبدو نشازا في كل محيطها وعالمها، وكأنها الدولة الوحيدة التي تصر فيها السلطة على أن تبقى طائشة ومتمردة على شعبها ومجتمعها.
وبالرغم مما يزيد عن أربعة عقود من حكم حزب البعث الجديد الذي راهن على عزل سورية عن محيطها، واتبع سياسات القوة وفرض الرأي، التي جعلت دمشق تدخل مرارا في مواجهات دامية مع العديد من الاطراف العربية، وفي مقدمها حركة المقاومة الفلسطينية، لم يضعف هذا التعاطف مع سورية عند الرأي العام العربي. وقد زاد هذا العطف بقوة في السنوات الأخيرة، في مواجهة ما تتعرض له سورية من ضغوط خارجية، أمريكية بشكل خاص، وإزاء ما تجبر على تطبيقه من قبل مجلس الأمن من قرارات دولية جائرة، سهلت صدورها الاختيارات السياسية الخاطئة، وسوء التقدير. ولم يوفر الرأي العام العربي المحب لسورية، والحريص على استقلالها وقوتها، وسيلة للتعبير عن تأييده لها وتمسكه باستقلالها وسيادتها حتى صار الدفاع عن سورية في وجه الضغوط الأجنبية، وشجب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الرامية إلى إخضاعها، أحد مقومات العقيدة العربية الشائعة، وسلاحا من أسلحة النظام القائم في دمشق ضد معارضته المحلية، في السنوات الخمس الماضية. وهكذا لم تتردد أي منظمة عربية إقليمية، من اتحادات كتاب وصحفيين، إلى مؤسسات برلمانية، مرورا باتحادات المحامين والمهندسين وغيرها، في أن تعقد مؤتمراتها السنوية، بل أن تدعو لمؤتمرات استثنائية، في دمشق للتعبير عن وقوفها إلى جانب سورية وتعاطفها مع شعبها.
وإلى وقت قريب، لم يكن الرأي العام العربي يظهر قلقا كبيرا على الأوضاع السورية. وكانت ثقة العرب المتضامنين مع سورية وشعبها قوية بالأسس التي تقوم عليها الوحدة الوطنية، بل بالقيادة السياسية السورية، وبالتالي بقدرة البلاد على تجاوز أزمتها الداخلية المؤقتة، وعلى التصدي للمؤامرات الخارجية. لكن الشكوك التي بدأت ضعيفة أخذت تتنامى في الأشهر الأخيرة، وفي موازاتها النزوع إلى مقارنة الخيار السوري الراهن في ما يتعلق بالانغلاق على المجتمع وإظهارالخوف الشديد منه، بالخيار العراقي السابق على التدخل الأمريكي البريطاني. ومع تعثر عملية الاصلاح، وتراجع السلطة عن العديد من الوعود التي أعطتها، ثم تزايد الحديث في الإعلام العربي والعالمي عن العودة إلى سياسة العصا الأمنية الغليظة التي تعاني منها العديد من الشعوب العربية، بدأت الثقة تترك مكانها للانشغال والقلق والخوف على مستقبل سورية وشعبها.
ومهما كانت مبرراتها أو الدافع إليها، شكلت حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت منذ الرابع عشر من أيار مايو عشرات المثقفين السوريين، على أرضية توقيعهم على بيان مع زملائهم اللبنانيين يدعو لإصلاح العلاقات السورية اللبنانية المتأزمة، نقلة نوعية في مشاعر قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تجاه النظام السوري، وقدرة القيادة السياسية في هذا البلد على مواجهة التحديات. فلم ألتق مثقفا أو مسؤولا، عربيا أو أجنبيا، واحدا في تنقلاتي الأخيرة، وقد صدف وكانت كثيرة بسبب ندوات متعددة، لم يبادرني بالسؤال : ما الذي يجري في بلادك؟ كيف يحصل هذا وكيف يمكن تفسيره؟
لقد أصبحت سورية اليوم بالتأكيد أحد الهموم الكبرى التي تشغل الرأي العام العربي، بمثقفيه وكتابه وصحفييه ومحاميه وأطبائه ومهندسيه، وجميع فئات الشعب التي أحبت سورية ولا تزال ترى فيها، ذخرا للعروبة.
وقد أرسل لي زميل عربي يقول بالانكليزية : "زرت دمشق مؤخرا وعرفت بالضبط عما تتكلمون. وفي اعتقادي أن أفضل وصف للديناميكية التي تتحكم بالمجتمع جاء على يد باحث غربي زار البلاد وتحدث مع السكان وراقبهم وهم يلهثون وراء لقمة العيش، مع تراجع قوتهم الشرائية وغلاء الأسعار من دون ضابط. فقد لاحظ أن الناس يعيشون كالأشباح "زومبي"، يعتقدون بأنهم أحياء، ولكنهم ليسوا كذلك في الواقع. وآخر همهم العمل مع آخرين في فريق واحد لتحسين شروط عيشهم وعيش أقرانهم. والملاحظة الثانية التي أشار إليها الباحث الغربي، والتي تتفق مع وجهات نظركم، هي الاختلاف الكبير في منظومات القيم التي يتعامل بها الشعب اليوم، بالمقارنة مع قيم الخمسينيات والستينيات. كانت القيم الماضية تشجع على التفكير بالذات وبالناس الآخرين أيضا، وبالتالي بالمجتمع ككل. وهو ما كان يعبر عن نفسه عبر الايديولوجيات والشعارات الاجتماعية الرائجة. أما اليوم فجميع القيم الشائعة مرتبطة بالمصالح الخاصة فحسب. وبإمكانك أن ترى قصرا منيفا يتجاوز سعره 20 مليون ليرة لا يضير اصحابه أن يكون محاطا بكومات من الزبالة. ومع أن هالة كربون الأوكسيد التي تغطي مدينة دمشق كافية لتقصير عمر أشرس الحيوانات للنصف، فليس هناك من يتحدث عن مسؤولية الحكومة وعن واجبها في ايجاد الحلول لحماية المواطنين. ومن الواضح أن نسبة السكان الذين يعيشون ويعملون ويمارسون نشاطات ربحية خارج القانون كبيرة جدا. وكلمة العدالة ليست من المفردات التي يمكن أن نجدها في قاموس هؤلاء. فبالنسبة لهم القوة وحدها هي القانون. كما أنك لن تستغرب أن ترى أناسا يمتدحون السارقين لما يقدمونه للبلاد من فرص، ولما يغمرونها به من عواطف. يبدو لي كما لو أن المجتمع بأكمله يعيش في الخطيئة أو يشعر بأنه يعيش فيها، وان النار تشتعل تحت الرماد، وأن المستقبل لا ينطوي على وعد آخر سوى انتظار البركان الآتي ليطهر هذا المجتمع من الطغاة والسارقين".
الذي دعاني إلى استعادة هذه الرسالة وترجمتها هو حملة الاعتقالات الجماعية الأخيرة التي طالت مثقفين سوريين، وتلك التي أعقبتها بصرف سبعة عشر آخرين منهم من وظائفهم، بسبب توقيعهم على إعلان دمشق بيروت نفسه. فهي تذكرنا بأصل المشكلة. فليس لما تعيشه سورية وشعبها، حسب ما وصفته الرسالة، سبب أكبر من مصادرة حريات الأفراد، وفي مقدمها حرية الرأي والتعبير، وفرض الوصاية الدائمة على العقل، التي تعني تجريم النقد والمساءلة، وفرض الإذعان والاستسلام على شعب بأكمله، وتسليمه وموارده مقيد اليدين والقدمين لمشيئة أصحاب المصالح والامتيازات. فلا ترتبط هذه الاعتقالات والانتهاكات الصارخة لحق الأفراد بأي خطر يتهدد النظام من قريب أو بعيد، وإنما جاءت على سبيل المبالغة في الاحتياط وقتل أي بصيص أمل يمكن لفكر المثقفين الحر أن يبعثه في شعب حوله الاعتساف الطويل والعنف إلى رميم.
ليس من المستغرب والحالة هذه، أن تحدث المعاملة المهينة للعقل وللمثقفين والناشطين المدنيين هزة كبيرة في وعي جميع أولئك العرب والأجانب الذين كانوا يتعاطفون مع سورية وأحيانا مع النظام السوري ذاته، وأن توجه ضربة قاضية إلى أسطورة النظام الاصلاحي الفتي، وما رافقها من شعارات التحديث والتطوير والانفتاح الاقتصادي، وتمحو آثار مئات القوانين التي أصدرها العهد الجديد. فبسببها أصبحت سورية تبدو نشازا في كل محيطها وعالمها، وكأنها الدولة الوحيدة التي تصر فيها السلطة على أن تبقى طائشة ومتمردة على شعبها ومجتمعها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire