الرأي 8 يناير 2005
في هذه المرحلة من التطور الدقيق للأوضاع المشرقية ينظر الرأي العام العربي، بالرغم من تراجع آمال الوحدة والاندماج أكثر من أي مرحلة سابقة، إلى ما يجري في البلاد العربية المجاورة، سواء أتعلق الأمر بالمسألة الفلسطينية أو بالمسألة العراقية أو اللبنانية، على أنه ليس أمرا يهم هذه البلاد وحدها ولكنه يهم العرب أيضا بقدر ما يؤثر على حاضرهم ومستقبلهم. ومن المنظور نفسه نظر الرأي العام العربي إلى التهديدات التي تعرضت ولا تزال تتعرض لها سورية على أنها لا تعني الشعب السوري وحده وإنما العالم العربي برمته بقدر ما يؤثر مصير سورية على مصيره. فكل ما يعمل على إضعاف سورية أو تدهور الاوضاع فيها يؤثر في نظره، عن حق، على مصير المشرق العربي بأكمله والعكس صحيح أيضا. ولهذا السبب لم تعد مسألة الاصلاح السياسي والاقتصادي التي يدور النقاش حولها في سورية منذ سنوات مسألة سورية بحتة ولكنها أصبحت مسألة قومية حسب تعبيراتنا الكلاسيكية. وهي تحتل أكثر فأكثر موقعا متميزا في النقاشات العربية المعبر عنها في الصحافة المكتوبة والمسموعة أو في الندوات واللقاءات العلمية، كما تحتل موقعا مهما في النقاشات العالمية الدائرة حول مصير الشرق الأوسط ومستقبله.
وفي سورية تحولت مسألة التغيير والإصلاح ألى المحور الرئيسي للحياة السياسية السورية الراكدة والمصدر الوحيد الذي يستمد منه النظام السياسي مشروعية استمراره وبقائه منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي بعد أن تفاقمت الأزمة الاقتصادية. وليس هناك شك في أن الآمال التي أثارها عهد الرئيس بشار الأسد منذ وصوله إلى السلطة عام 2000 قد نجمت عن تبنيه بشكل أكثر وضوحا من أي عهد سابق مفهوم التغيير الذي كان الرأي العام السوري والدولي أيضا ينتظره بفارغ الصبر بعد أربعين سنة من حكم الحزب الواحد والعصبة الثابتة المكرسة في مناصبها. لكن السنوات الثلاث التي مرت على العهد الذي أراد أن يكون عهد الإصلاح بامتياز، أظهرت أن التغيير في مثل هذا النمط من الانظمة يظل مسألة صعبة وإشكالية. وهو ما اعترف به الرئيس نفسه في مقابلاته العديدة مع الصحافة العربية والأجنبية. بيد أن الاعتراف بهذه الصعوبة التي لا يشك أحد بوجودها لا يمنع المراقبين للأوضاع السورية أيضا من الاعتقاد بأن العهد الجديد قد ضيع على نفسه فرصا عديدة كان من الممكن استغلالها بطريقة أفضل لتسريع وتيرة التحولات السورية. ومن هذه الفرص وربما آخرها الانتخابات التشريعية لعام 2002 التي كان من الممكن أن تكون وسيلة لتحقيق درجة أولى من الانفتاح على قوى المجتمع السياسي والمدني. ومنها أيضا تشكيل حكومة العطري الأخيرة في عام 2003 والتي كان الكثير ينتظر منها أن تكون أقل خضوعا لحسابات ومصالح مراكز القوى الفئوية والحزبية. ومنها أخيرا الاجماع الشعبي الذي ظهر على أثر العدوان الاسرائيلي في عين الصاحب، والذي أخفق النظام في استثماره لخلق حالة وطنية تساعد على الانفراج السياسي وتسمح بتوسيع قاعدة السلطة الاجتماعية.
لكن بالرغم من ضياع هذه الفرص جميعا ومرورها من دون أن ينجح الحكم الجديد في استغلالها لصالحه في سبيل تحقيق الانفتاح الأولي المطلوب وتغيير المناخ السياسي والنفسي السائد وإعطاء إشارة قوية بتبلور إرادة التغيير، لا يزال الأمل قويا في في أوساط الرأي العام السوري والعربي والعالمي المعني بالشأن السوري بأن فرص العمل للخروج من الأزمة لم تنفذ جميعا بعد. فالتخلي عن خيار الاصلاح لا يعني استمرار الأوضاع كما هي وإنما التدهور المستمر فيها سواء أكان ذلك على المستوى الاستراتيجي أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. كما أن أحدا لا يستطيع أن يفكر أو يعتقد بأن من الممكن لدولة كسورية أن تغامر بمستقبلها وتقبل أن تستمر تعمل حسب النظام القديم الذي ولد منذ أربعين عاما وتتراجع عن فكرة التغيير أو تدير ظهرها بهذه البساطة للعالم المحيط بها والذي يتغير بسرعة البرق. ثم إن قطاعات واسعة من الرأي العام السوري والعربي والعالمي تعتقد أيضا أنه لا يمكن للتهديدات التي تتعرض لها البلاد، بعد سقوط بغداد في أيدي القوات الأمريكية وإخفاق سياسة الاستئصال الإسرائيلية في فلسطين، إلا أن تزيد من راهنية مسألة التغيير وإلحاحها على الشعب والقيادة السوريين معا.
والواقع أن إشكالية التغيير كما هي مطروحة اليوم في سورية تثير أسئلة أساسية مثل: هل هناك مشروع تغيير حقيقي واضح أم أن الأمر يتعلق بعملية تجميل للنظام فحسب؟ هل هناك أسس موضوعية لحصول مثل هذا التغيير أم أن التغيير معلق برغبة ذاتية لبعض المسؤولين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ؟ هل لدى قوى التغيير إذا وجدت الوسائل والأدوات القانونية والسياسية التي تمكنها من تحقيق نواياها الاصلاحية التي لا يبدو أن أحدا يشك في وجودها في سورية وخارجها معا أم لا؟ وهل نجح ما يطلق عليه اسم الحرس القديم في تجميد مسار الاصلاح السوري نهائيا أم أن ما كسبه هو جولة فحسب ؟ هل أخطأت المعارضة والمثقفون معها في التعامل مع حقبة ما بعد حافظ الأسد ولم يقدروا تماما طبيعة الصراع داخل النظام نفسه وعلى الصعيد الإقليمي فساهموا من دون قصدهم في تعثر المسار الاصلاحي أو في عرقلته، مثل ما يتهمهم بعض مناوئيهم، أم أن ما أشيع عن تطرف بعضهم هو ذريعة استخدمتها القوى المتضررة من الاصلاح للضغط على الفريق الاصلاحي داخل الدولة وعزله وتسفيه أطروحاته ؟ وأخيرا هل يساهم الوضع الجديد الناشيء عن احتلال الولايات المتحدة للعراق وتصاعد تهديداتها لسورية في دفع النظام البعثي في سورية إلى تسريع وتيرة التغيير والاصلاح أم هو يضغط في اتجاه تقوقع أكبر على وسائل القمع والتضييق القديمة التي أظهرت نجاعتها في العقود السابقة ؟
ليس لدينا من المعطيات بعد ما يكفي للإجابة الوافية عن هذه الأسئلة الصعبة جميعا. لكن التدقيق في ما يكتب عن سورية مؤخرا على أيدي المثقفين المستقلين أو القريبين في موقفهم من الحكم يؤكد ملاحظة أولى هي تزايد الشك في إمكانية تقدم عملية الاصلاح. وهذا ما يعكسه التبدل الحاصل في جوهر الجدال السياسي والوطني. فبعد أن كان موضوع المناظرة في الطور الأول يدور حول تعيين أولويات الاصلاح، هل هي للملف الاقتصادي أم للملف السياسي والاجتماعي، أصبح يدور اليوم حول ما إذا كان هناك مشروع فعلي وجدي للاصلاح أم لا. وتكاد كتابات المثقفين السوريين الذين شكلوا الفريق الأكثر نشاطا وانخراطا في تغذية عملية التغيير السوري بالأفكار والمشاريع الاصلاحية منذ بدايته في الثمانينات تقتصر اليوم على التأكيد المأساوي والمكرور لنهاية عصر الإصلاح أو للكشف عن أوهامه أو إعلان الحداد عليه.
تستند هذه الاستنتاجات المتشائمة واليائسة على حجج من الصعب للوهلة الأولى نقضها أو معارضتها. في مقدم هذه الحجج غياب النتائج المادية والملموسة على الأرض لأي شكل من أشكل التغيير بالرغم من التعديلات العديدة التي طرأت على القوانين الاقتصادية والإدارية. فهي تشير إلى أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية لا تزال كما كانت من قبل. بل إن هناك من المظاهر ما يؤكد على أن الوضع قد تراجع عن السابق على مستويات عديدة حتى بالمقارنة مع الأوضاع التي كانت سائدة قبل إطلاق وعود الاصلاح والتغيير في التسعينات. فبدل أن يتراجع الفساد زاد قوة وتفاقم نفوذ المحسوبية والزبائنية وتنازع شبكات المصالح الجزئية على حساب المصالح العامة الوطنية. وكما أن الإجراءات التحريرية للاقتصاد لم تجذب استثمارات جديدة لم تظهر الدولة من جهتها رغبة أكبر في الاستثمار العام أو في تشجيع الاستثمارات الخاصة. وبالرغم من الزيادة الطفيفة في المرتبات فإن الفقر لا يزال يزداد انتشارا وتوسعا كما أن الهوة لا تزال تتفاقم بين الشرائح الدنيا التي تشكل أغلبية المجتمع اليوم والقلة من المنتفعين من النظام، بموازاة انخفاض القوة الشرائية لمتوسطي الدخل وعدم تناسبها مع كلفة تأمين الحاجات الأساسية. ولا تزال الزيادة في المرتبات بعيدة جدا عن أن تمتص صدمة العجز الكبير الذي أحدثه تجميد الأجور خلال أكثر من عقد ونصف سابقين.
أما على المستوى السياسي فلم يقلل التخفيف الواضح من درجة العنف والقمع في معاملة المعارضين من قساوة التهميش والاستبعاد والعزل السياسي والمدني الذي يطال المجتمع بأكمله ولا من شدة قبضة النظام وشمول المراقبة والمنع جميع شؤون ونشاطات الحياة الفردية والجماعية. وأجهزة الأمن التي كادت تختفي من الواجهة منذ نهاية التسعينات عادت من جديد إلى مقدمة الحياة السياسية والمدنية وأصبح لها، أكثر من قبل، اليد الطولى في تسيير شؤون البلاد وضبط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية والإعلامية. وقد زادت في الحقبة الاخيرة بشكل غير متوقع الاعتقالات والملاحقات اليومية لأصحاب الرأي. وعمل تجريم الندوات والحوار، حتى داخل القاعات المنزلية المغلقة التي كانت السلطة تغض النظر عنها منذ أكثر من عقدين، على تحطيم جميع آمال الأجيال الجديدة في التغيير السلمي وأعاد الحياة بقوة إلى مشاريع الهجرة الداخلية والخارجية. ولا شك أن السياسات الإعلامية المريضة والقصيرة النظر قد أجهزت على كل الوعود التي قدمت لاحترام الرأي الآخر، بما في ذلك الرأي الآخر داخل صفوف الحزب الحاكم نفسه. ولم يحصل في أي حقبة سابقة أن بدا مصير البلاد مرتبطا كما هو عليه اليوم بمنطق واحد هو منطق الضبط الأمني على حساب أي منطق منتج آخر إقتصاديا كان أم إداريا أم سياسيا أم علميا أم ثقافيا أم وطنيا أيضا. ولم يحدث أن ألحقت نشاطات المجتمع كافة، الجمعية والفردية، بالأجهزة الأمنية وأخضعت لحساباتها ومخاوفها وتقديراتها كما هو حاصل اليوم بحيث أصبح منطق الأمن هو المنطق الوحيد الذي يسيطر على الحياة العمومية ويقضي في الوقت نفسه على أي حياة خاصة وعامة، اقتصادية وسياسية ومدنية. ولعل اعترافات كبار المسؤولين بوجود عقبات فعلية أمام الاصلاح وبعدم تنفيذ الكثير من القوانين الجديدة وحديثهم الدائم عن ضرورة التدرج ورفض التسرع في التغيير يزيد من صدقية حجج المعارضة والمثقفين واستنتاجاتهم المتشائمة.
بالتأكيد لا يعدم النظام حججا أخرى تفيد ما يعارض هذه الاستنتاجات أو يقلل من حدتها. وهي تميل إلى اعتبار ما يبدو للبعض وكأنه مظاهر إخفاق الاصلاح أو انتكاس في مسيرة التغيير أو التطوير والتحديث مجرد تعبير عن تأخر في الجدول الزمني أو عن ضغوطات في الوقت لا غير. وفي هذا الإطار يرد المدافعون عن النظام على منتقديهم من المثقفين والمعارضين باتهامهم بالاستعجال وتبني تصور متهور لمسار الاصلاح يمكن أن يؤدي بالبلاد إلى الفوضى. وهم يشددون في مقابل ذلك على أهمية التدرجية في التغيير من دون أن يغيب عن خطابهم التذكير بالنشاط الدائب لمؤسسات الدولة والحزب التشريعية والإدارية التي لم تتوقف عن إصدار القرارات الإصلاحية التي كانت حصيلتها مئات القوانين والمراسيم الجديدة والمجددة التي صدرت في السنوات الثلاث الماضية والتي مست ميادين النشاط الاقتصادي والنشاط الإداري بشكل خاص وجعلت من سورية بيئة قانونية مثالية للاستثمار. وحتى لو أن هذه القوانين لم تطبق كلها بعد أو لم تسمح بجذب الاستثمارات الأجنبية الموعودة إلا أنها قد أعدت، في نظرهم، الشروط الضرورية لقيام حالة اقتصادية جديدة لن تتأخر ثمراتها حتى تظهر في المستقبل القريب. ثم إنهم يعتقدون أن من المستحيل أن ننظر إلى مسيرة الاصلاح، وهذه حجة أخرى أساسية لأنصار النظام، بمعزل عن الأوضاع الوطنية الخاصة التي تمر بها البلاد وما تتطلبه من ضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار في مواجهة التهديدات الأجنبية القوية والمتزايدة. وإذا كان العهد قد أظهر بطأ في تغيير التقاليد السياسية والثقافية فذلك لأن هناك خطر في أن يفسر التخفيف من القبضة الحديدية اليوم على أنه علامة ضعف وتنازل أمام هذه التهديدات يشجع بعض أوساط الرأي العام على الخروج على النظام كما يزيد من الأطماع الخارجية في تنازلات سورية وطنية إضافية. فأين تكمن الحقيقة في هذا الجدال ؟ هذا هو موضوع مقال قادم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire