اتحاد 26 يناير 05
أقر مجلس وزراء خارجية الدول العربية الذي عقد في العشرين من شهر كانون الثاني يناير الجاري مشروع إنشاء برلمان عربي بينما تجاهل ملفات ورحل إلى قمة الجزائر المقبلة في شهر آذار مارس أو إلى ما بعد ذلك، حسب مزاج القادة العرب وتقديراتهم وأجندتهم الشخصية، قضايا أكثر أهمية مثل محكمة العدل العربية التي كانت قد أقرت في قمة القاهرة عام 1996 ووافق عليها المجلس الوزاري نفسه عام 2000 لكنها لم تر النور منذ ذلك الوقت، وهيئة متابعة قرارات الجامعة وإصلاح آلية التصويت داخل الجامعة ومشروع تكوين مجلس أمن شبيه بمجلس الأمن الدولي لكن على مستوى المنطقة العربية ومجلس قومي للثقافة العربية ومصرف عربي للتنمية.
ويعتقد مسؤولو الجامعة أنه بالرغم من الصعوبات الكبيرة التي يواجهها مشروع الاصلاح الذي قدمه الأمين العام واعتمدته من حيث المبدأ الدول العربية في سعيها للتخفيف من الضغوط الخارجية والتظاهر بامتلاكها مشروعها الخاص للاصلاح في مواجهة المشاريع المفروضة من الخارج أن إقرار البرلمان خطوة أولى تعبر على الأقل عن استمرار الأمل في تقدم عملية الاصلاح والسير إلى الأمام.
وفي جميع المقاييس تشكل نتائج المجلس الوزاري العربي خيبة أمل عميقة لكل المتابعين لملف العمل العربي المشترك ولمشروع الاصلاح العربي من الداخل أيضا. وربما جاءت الموافقة على البرلمان العربي كتغطية على الفشل وكترضية شكلية للرأي العام الذي ينتظر تحركا ملموسا على جميع الأصعدة وفي جميع الميادين. فالبرلمان الجديد الذي يتكون من 88 عضوا يعينون من قبل برلمانتهم الوطنية أو حكوماتهم للسنوات الخمس القادمة بالتساوي، أي بحدود أربع نواب لكل بلد، يعكس الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها التي قادت التعاون العربي إلى الطريق المسدود الذي لا يزال يتخبط فيه منذ منتصف القرن الماضي. فلا أعتقد أن لدى عربي واحد أدنى شك في أن البرلمان الجديد سوف يكون صورة باهتة أكثر للبرلمانات العربية الكثيرة القائمة والتي ليس لها وظيفة أخرى سوى المصادقة على سياسات وقرارات النخب الحاكمة التي تخدم مصالحها وحدها ولا تعبر ولا بنسبة محدودة عن مصالح المجتمع أو أغلبيته الساحقة. ولن يكون سلوك هؤلاء النواب الجدد الذين ستختارهم أجهزة الأمن في كل دولة، حتى تضمن أن لا تسير الأمور داخل البرلمان العتيد لصالح الحكومات العربية الأخرى بغير ما تريد هي، مختلفا عن سلوك أي عضو ممثل لهذه الدولة أو تلك ضمن بيرقراطية الجامعة العربية التقليدية. إن كل ما سيضيفه هو توسيع القاعدة العددية لهذه البيرقراطية وجعل بلورة القرارات التي تتخذها الجامعة العربية أكثر تعقيدا وتوفير دهاليز سياسية أكثر لدفنها أو تجميدها حتى يصعب على الرأي العام انتقادها. إن إقرار البرلمان العربي لا يعبر عن خطوة إلى الأمام ولكنه مبادرة فارغة هدفها التغطية على الجمود وطمس انعدام الإرادة وغياب التفاهم معا بين أطراف المنظومة العربية حول برنامج إصلاح جدي.
ليس هناك أي لوم في ذلك على الجامعة العربية نفسها أو على أمانتها العامة. فالجامعة ليست في الواقع سوى مرآه شفافة للحكومات العربية التي تتحكم بها ولا تسمح لها بأي استقلالية ولو كانت هامشية. وهي في طبيعة تكوينها ووضعها والوظائف الموكلة لها لا تختلف كثيرا عن المؤسسات الرسمية الأخرى القائمة في البلاد العربية. فهي جميعا مفرغة من المعنى ومن المضمون لأنها تفتقر إلى جوهر ما يجعل منها مؤسسات حية وفاعلة، أعني الارتباط بالمجتمع والاستناد إليه والاعتماد على توجيهاته ومشاركته ومراقبته وبالتالي بسبب خضوعها الآلي لإرادة النخب الأقلوية المقطوعة تماما عن مجتمعاتها والمفتقرة في ثقافتها وسلوكها معا لمعنى السياسة الوطنية ومضمونها. فالانفصال عن المجتمع وعن قواه الحية، وهو الانفصال الذي يعززه ويعمقه غياب القوى الاجتماعية والسياسية المنظمة التي تساعد على بلورة إرادة المجتمع بفئات مصالحه المتنوعة والمتعددة، يحول هذه المؤسسات، وعلى رأسها الدولة ذاتها، إلى أدوات طيعة تستخدمها النخب الحاكمة لتنفيذ مآربها وتحقيق مصالحها كما تتصورها كاملة.
ومن هنا نجد أن الدولة التي يفترض فيها أن تساعد المجتمع على توحيد إرادته عبر توسطها بين المصالح المتباينة وبث الاتساق فيها تتحول إلى آلة تقسيم وتفتيت له لضمان السيطرة عليه وإخضاعه وقهره واستبعاده من أي حياة عمومية. ومجلس نواب الشعب أو البرلمان الذي يفترض فيه التجسيد الشفاف للسيادة الشعبية وتكوين أغلبية شرعية تقوم برسم السياسات الوطنية يتحول إلى وسيلة استثنائية لتزييف الإرادة العامة وفرض تشريعات وسلطة الأقلية الحاكمة بالسلاح والعنف. والجيوش أو القوات المسلحة المكلفة بالدفاع عن المصالح الوطنية ضد التحرشات والتهديدات الخارجية تصبح الركيزة الرئيسية للتفاهم والتعاون بين النخب المحلية الحاكمة والدول الأجنبية وتعميق النفوذ الخارجي . وأجهزة الأمن التي يفترض فيها حماية الفرد وضمان احترام حقوقه وصيانة استقلاله الذاتي تجعل من بث الرعب والخوف الوسيلة الرئيسية لتجريد الأفراد جميعا من حصانتهم الطبيعية وإضاعة حقوقهم السياسية وأحيانا المدنية، أي لإلغاء السياسة وتحويل المواطنين إلى محاسيب طيعين مفتقدين للحرية والكرامة معا. والقضاء الذي يفترض أن ينشر العدل بين الناس بحل النزاعات في ما بينهم على أسس قانونية وأخلاقية لتعزيز روح السلام والأمن الأهليين وتعميق الوحدة والانسجام بين الأفراد يصبح هو المصدر الرئيسي لتكريس المظالم وتبرير العدوان وتعميم مبدأ حرب الجميع ضد الجميع.
باختصار، إن المؤسسات لا توجد، بكافة أنواعها، إلا بالقوة والروح التي تسكنها وتسيرها. وفي غياب مجتمع حي ومنظم يمسك المؤسسات من الداخل ويشغلها لصالحه، تتحول جميع مؤسسات الدولة والدولة ذاتها إلى أدوات تستخدمها الفئات التي تتحكم فيها، من بيرقراطية وغيرها من أصحاب المصالح والنفوذ، إلى أدوات لكسر إرادة الناس وتعميق استلابهم وتكبيلهم بالقيود وقتل أي حياة أو مبادرة أو قدرة على الحركة والتنظيم الاجتماعيين فيهم.
ومن هنا، كنت أعتقد ولا أزال أن المشكلة التي تحكم كل مسائل الاصلاح وتتحكم بها، في الجامعة العربية كما هو الحال داخل كل بلد عربي على حدة، كانت ولا تزال هي التغييب المتعمد والمنظم والمنهجي للمجتمع من الحياة العامة وفرض الانسحاب الكامل عليه أو تهجيره خارج حقل السياسة والمدنية والشأن العام بأي طريق كانت.
ولأن مؤسساتنا الراهنة جميعا، من الدولة إلى المنظمة الإقليمية، أعني الجامعة العربية، مرورا بالبرلمانات ومؤسسات الدفاع والأمن ومؤسسة القضاء ودور العلم من مدارس وجامعات، تظل وهي إطار مفرغ من المضمون، فليس من الممكن إصلاحها ولا توجد وصفة إصلاحية ممكنة تفيدها. وحتى تصلح ويسري عليها مبدأ الإصلاح ينبغي أن تكون ذات مضمون أو أن يعود إليها مضمونها أعني المجتمع الذي أقيمت من أجله وصممت لتكون أداة لخدمة مصالحه. وإصلاحها لا يعني شيئا آخر سوى إعادتها إلى حقيقتها الوجودية بوصفها الأطر القانونية التي ينظم فيها المجتمع، فكريا وعمليا واقتصاديا وسياسيا وإجتماعيا، نفسه ذاتيا، أو التي ينتظم في علاقة مدنية عبرها. وهذا يعني أن ينتهي استلابها تجاه النخب الحاكمة كي تعود إلى المجتمع ليكون حاملها و محركها الحقيقي. عندئذ يمكنها أن تتحول إلى مؤسسات عامة وأن تتمتع بسلطة مؤسسية فعلية نتيجة ما تحظى به من الصدقية في الفاعلية الاجتماعية التي تقودها وتنظمها. ومثل هذا العمل، أي ملء هذه الأطر الفارغة بالمضمون المجتمعي العمومي الذي افتقرت له حتى الآن أو بسلطة المجتمع، ممنوع اليوم على الجامعة العربية كما هو ممنوع على غيرها من مؤسسات الحياة السياسية العربية وفي مقدمها كما قلت الدولة. ولذلك ليس من الممكن الاصلاح من دون التغيير، أي من دون تغيير علاقة السلطة السائدة أولا والبيئة السياسية والثقافية والفكرية العربية. فلا إصلاح ممكنا للجامعة العربية مع الأسف من دون إصلاح المجتمعات العربية نفسها، أي إصلاح الدولة والحياة السياسية العربية عموما، أو بكلمة أدق من دون وجود مجتمع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire