لا أعتقد أن خطاب الإدارة الأمريكية الجديد حول التحويل الديمقراطي والاصلاح في البلاد العربية دعاية فارغة ولا خدعة لفظية لا تهدف إلا إلى ضمان تأييد العرب لمشاريعها الامبرطورية في احتلال العراق وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية من دون تحقيق مطالب الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة. وفي نظري أن الباعث على الحديث عن مبادرات ديمقراطية للعالم العربي موجود في مكان آخر غير الدفاع المباشر عن المصالح المادية والسياسية والاستراتيجية التي تحدثنا عنها. إنه يكمن في الاقتناع الصحيح بأن النظم العربية قد أخفقت في تحقيق أي هدف من الاهداف التي لا بد منها لاستقرار الشعوب والمجتمعات والبلدان، سواء ما تعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو بناء الأنظمة السياسية الشرعية، وأن النتيجة الطبيعية لهذا الإخفاق هو تدهور شروط الحياة العربية وتفاقم البطالة والفقر ومن ورائهما تنامي التناقضات والنزاعات الداخلية وبالتالي انفجار أزمة تاريخية طويلة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمآلها ولا بعواقبها على المصالح الأمريكية والغربية والاسرائيلية عموما، بل وعلى استقرار الشرق الأوسط والقدرة على حكمه والسيطرة عليه. وعلى هامش هذه الأزمة الطاحنة والسائرة حتما نحو التفاقم مع توليد المزيد من التعصب والتوتر والاقتتال والعنف لا يبدو في المشهد السياسي أحد، أعني فاعل جمعي يقف على رجليه أو يبدو كذلك ويقدر على التدخل لتثمير الأحداث ودفعها في اتجاه واضح على الأقل من وجهة نظره سوى القوى الاسلامية التي تمتح من معين المشاعر والاعتقادات والتقاليد الجمعية الدينية والمدنية معا. وأمام تفكك هذا النظام الشرق أوسطي ومخاطره الكبيرة على تدفق النفط الطبيعي وسلام وأمن إسرائيل وانتشار أسلحة الدمار الشامل إن لم يكن استخدامها من قبل مجموعات منظمة صغيرة واتساع دائرة ما يسمى اليوم بالارهاب لا يسع الولايات المتحدة ولا بلدان المعسكر الصناعي الأخرى التي تدعمها وتقف ورائها، حتى عندما تختلف معها في الخطط التكتيكية، إلا أن تتدخل مباشرة في عين المكان لتعيد ترتيب الأوضاع وتقطع الطريق على أي مفاجآت أو تطورات غير متوقعه ومهددة للمصالح الغربية.
هكذا يعقتد الأمريكيون والغربيون عموما أن سبب الإخفاق الخطير الذي تشهده المنطقة في جميع المستويات والذي يحمل تهديدات لا يمكن تجاهلها للمصالح الغربية هو سوء حكم وإدارة النخب العربية الحاكمة وأن من المستحيل درء مخاطر الإخفاق الشامل في المنطقة من وضع حد لما أصبح يبدو عمليات سطو جماعي مسلحة على موارد البلاد وسكانها أكثر مما يبدو سياسات مدنية وعقلانية مستمدة من حاجات بناء المجتمعات وضمان عمل المؤسسات وتكوين الدول الفاعلة. إن ما تهدف إليه واشنطن من الحديث عن الديمقراطية هو القفز علىى برنامج الاصلاح الذي أصبح برنامجا عربيا شعبيا والتظاهر بتبنيه لتبرئة نفسها من مسؤولية الوضع الكارثي القائم وانتزاع المبادرة في توجيه وقيادة المرحلة القادمة التي ستخلف مرحلة تفكك النظم العربية القائمة. وهكذا تريد الولايات المتحدة التي كانت الداعم الأول لنظم الحكم اللاشعبية باسم الحفاظ على الاستقرار أن تظهر بمظهر الشريك الأول للشعوب العربية في السعي نحو الخروج من الأزمة. والمضمون الحقيقي لمشروعات الاصلاح الأمريكية هو لا أكثر ولا أقل من إعادة تشكيل النظم والنخب العربية بما يحقق استعادة زمام الأمور في منطقة استثنائية في موقعها وقيمتها الاستراتيجية، أي بما يضمن الحفاظ على المصالح الحيوية الأمريكية الأوروبية. ولا يمكن تحقيق ذلك في نظر التحالف الغربي إلا بوضع حد لسياسات الهدر والاستهتار والانفلات القانوني والإداري التي تشكل اليوم أكبر تهديد للاستقرار وبوقف مسار التدهور المعنوي والمادي والسياسي وإنقاذ الوضع الشرق أوسطي من وجهة نظر الولايات المتحدة وحلفائها من كوارث محققة. ولا شك أن الديمقراطية بما تعنيه من الاعتراف بحد أدنى من الحريات والتعددية للشعوب العربية وتأكيد معنى المسؤولية والمحاسبة السياسية تشكل اليوم أحد العناوين الأساسية إن لم تكن العنوان الرئيسي لأي برنامج إصلاح عربي.
لكن لا ينبغي أن نفهم من المشروع الأمريكي لنشر الديمقراطية في البلاد العربية إعادة السيادة للشعب والقبول بمطالبه وجعل السلطة العمومية ممثلة بالفعل لمصالحه وتوجهاته. فالولايات المتحدة لا تزال تنظر إلى الشعوب العربية على أنها شعوب بدائية ضعيفة التكوين الروحي والفكري والسياسي لا يمكن الإطمئنان لها أو السيطرة عليها. إن ما يهدف إليه هو بالأحرى وضع الأنظمة أو النخب العربية التي تدين ببقائها وتدعيمها للولايات المتحدة تحت الوصاية المباشرة للمعلم وحرمانها من التصرف بحرية بما أصبح يبدو لها، من بلاد وعباد وثروات وموارد وطنية، وكأنه من أملاكها الخاصة وحكرا قائما عليها. أي في الواقع وضع حد لعربدتها الداخلية الاستثنائية. وهو من قبيل وصاية الأب على الولد الجاهل والفاسد والقاصر معا.
يطمح الحلفاء، والأمريكيون على رأسهم، أن يحقق لهم نظام الوصاية الجديد الذي يزمعون فرضه على العالم العربي إشرافا أفضل على مسار التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المنطقة والقيادة شبه المباشرة لها بعد أن خرجت أو كادت تخرج في نظرهم عن السيطرة. فالاصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية هي التي تضمن في نظرهم منع برميل البارود الذي هو العالم العربي برمته من الانفجار وتدمير كثير من المصالح حوله. كما يطمحون أيضا، من خلال إدخال درجات أكبر من الشفافية على النظم السياسية الجديدة أو المجددة، ضمان النفاذ بشكل أفضل إلى سلطة القرار والتحكم به عن قرب ومنع حصول تطورات خطيرة لا يمكن التحكم بنتائجها، مثل تطوير اسلحة الدمار الشامل. وهم يطمحون كذلك إلى تقريب الطبقات الوسطى لإضفاء طابع من الاستقرار على النظام الجديد أو المجدد وذلك من خلال تأمين شكل من أشكال التعددية السياسية وضمان الحريات الفردية الأساسية. باختصار إنهم يريدون شراء المجتمعات العربية أو طبقاتها الوسطى ونخبها الرئيسية لضمان استمرار أطول واستقرار أكثر وأقوى مقابل الإبقاء على ما ينبغي تسميته نظام السيطرة المشتركة العربية الأمريكية. وبهذا المعنى قلت إن هدف ديمقراطيتهم الليبرالية الفردوية هو قطع الطريق على الديمقراطية الحقيقية التمثيلية التي تعترف بسيادة الشعب والمجتمع وتعبر عن طموحاته وأهدافه وآماله الجمعية.
لكن في ما وراء وضع الوصاية الأمريكية المباشرة تشكل إعادة بناء وترسيخ قواعد النظام الشرق أوسطي شبه الاستعماري الذي يشكل جزءا تابعا للنظام الغربي منذ الحرب العالمية الثانية الوسيلة الوحيدة أيضا لقطع الطريق على أي تحول حقيقي نحو سيطرة الشعوب العربية على مقدراتها الحقيقية، أي نحو ديمقراطية تضمن تقرير المجتمعات لمصيرها فعلا من دون ضغوط ولا قيود ولا تدخلات أجنبية. إنها تعني الحفاظ على نظام التدخلات الأجنبية التي طبعت مصير الشرق العربي وحددت اتجاهات تطور نظمه وعمليات استتباع نخبه في الوقت نفسه خلال العقود الطويلة الماضية بعد انقضاء حقبة التحرر من السيطرة الاستعمارية.
ومع ذلك يمثل هذا الوضع تقدما بالمقارنة مع الوضع السابق الذي أطلقت فيه الولايات المتحدة يد الفئات الحاكمة في البلاد العربية طالما بقيت هذه الفئات منسجمة مع استراتيجياتها الإقليمية، سواء أعلنت تحالفها معها أم لا. فهو يعني حدا أفضل من تطبيق المعايير الدولية والمراقبة الخارجية وبالتالي نوعا ما من المحاسبة كما يعني حدا أدنى من احترام القانون والحقوق والحريات الفردية. والأهم من ذلك في نظري أن هذا النظام الذي يعاني من الانهيار والتفتت اليوم لن لن يمكن إصلاحه لا من قبل الولايات المتحدة ولا من قبل غيرها. وسوف تنقلب أي إجراءات ديمقراطية مهما كانت ضعيفة على أصحابها. لن ينجح الأمريكيون في نظري في إعادة الحياة إلى نظام الشرق الأوسط الخنوع والخاضع والتابع لهم ولن يفيدهم ترقيعه في شيء. وهذا يعني أن الأمريكيين ووكلاءهم المباشرين وغير المباشرين يعيشون في مأزق سواء أنجحوا في فرض التجديد والاصلاح على النظم التي رعوها في العقود الماضية وانكشفت عورتها اليوم للعامة والخاصة أو لم ينجحوا واضطروا إلى التعامل مع ازمة النظم العربية المتفجرة بوسائل وطرائق أخرى، بما فيها ربما الحرب المستمرة.
من هنا، لا ينبغي التقليل أيضا من أثر التأكيد العالمي، والأمريكي منه بشكل خاص، على مأزق الأنظمة العربية وافتقارها للديمقراطية واحترام الانسان. فالواقع أن استقرار الاستبداد ذاته لم يحصل في البلاد العربية إلا بسبب الصمت والتغطية على اننهاكات الأنظمة العربية لجميع التزاماتها تجاه مواطنبها من قبل الدول الغربية، وبالتالي بسبب ثقة النخب الحاكمة بأنها منسجمة في سياساتها القمعية مع الاستراتيجية الأوروبية الأمريكية. ولذلك فهي تشعر اليوم بالضياع ولا تفهم شيئا مما يحصل حولها بعد تغيير الولايات المتحدة خطابها وإظهارها ميولا مختلفة لمعالجة معضلات الأوضاع الشرق أوسطية. ولا شك أن حديث الإدارة الأمريكية عن المبادرات الديمقراطية يزعزع استقرار هذه الأنظمة أو بالأحرى يساهم في تعميق زعزعتها لأنه يحرمها من الغطاء السياسي الخارجي الأساسي والذي لا غنى لها عنه في استمرارها للتعويض عن غياب التأييد أو الشرعية الشعبية والانتخابية. وهذا ما يفسر أنها بالرغم من كل ما حصل ومن كل المبادرات الأمريكية حول الديمقراطية والاصلاح لا تزال معظم النخب الحاكمة الحائرة والمنكوبة تتأمل خيرا وتراهن على الوقت لإقناع الولايات المتحدة بالتراجع عن خططها والعودة إلى رشدها، أي إلى التعاون والتفاهم مع النظم القائمة لقاء التنازلات العربية المطلوبة.
ومهما كان الأمر، ليس لدينا أي سبب لرفض أي تحولات ديمقراطية مهما كان الباعث لها. بل نحن الذين كنا ولا نزال نتهم الدول الغربية بخيانة مبادئها باستمرار ودعم الاستبداد والنظم اللاشعبية في المنطقة. ولا يمكن أن نطالبهم اليوم بالعودة عن خطابهم وتأكيد موقفهم التقليدي من جديد. لكننا نقول لهم أولا أن الحديث عن تعميم الديمقراطية في المنطقة لا يمكن أن يستقيم وأن يكون حقيقيا طالما لم تربط الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مثل هذه المبادرات بايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية واليوم لقضية احتلال العراق. كما لا يمكن أن يستقيم ثانيا ما لم تغير الولايات المتحدة والغرب بشكل عام من نظرتهما لطبيعة مصالحهما في المنطقة ومن اعتقادهما بأن ضمان هذه المصالح لا يمكن أن يتحقق بالتفاهم مع شعوبها ولكن بإخضاعهم وتأمين السيطرة المباشرة عليهم، أي بحرمانهم من حقهم في المشاركة الفعلية في التعبير عن مصالحهم، سواء أجاء هذا الاعتقاد نتيجة الشك في المجتمعات الاسلامية وقدرتها على التعامل مع معايير الحضارة العصرية أو بسبب الخوف من أن يؤدي تسليمها مقاليد أمورها إلى صعود نخب إسلامية معادية للغرب في معظم البلاد العربية.
ليس هناك إذن ما يمكن أن يوحي بالثقة بأن المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ليست مجرد وسيلة للتغطية على إرادة السيطرة أو التمديد لها في المنطقة ولحرف نظر الشعوب العربية عن المسائل الخطيرة العالقة بين العرب والأمريكيين وفي مقدمها المسألة الفلسطينية. وبالرغم من الحديث المكرور عن الاصلاح بل ربما بسببه فإن هناك شكوكا كبيرة حول جديه الولايات المتحدة. ومن الممكن أن لا تكون جميع هذه المبادرات سوى وسيلة لذر اللرماد في العيون وللضغط على النظم العربية حتى تستجيب بشكل أكبر للمطالب الأمريكية. فإلى جانب الإرادة الضعيفة التي تظهرها واشنطن تجاه زبائنها من النظم العربية هناك من دون شك الحسابات المعقدة أيضا في التوفيق بين المصالح القريبة والبعيدة. ثم إنه لا شيء يؤكد أن لدى واشنطن القدرة، بالرغم من كل شيء، على مواجهة النخب التي أطلقت يدها خلال عقود طويلة في البلاد العربية والتي استشرست وأتقنت اللعب على كل الحبال واستخدام جميع وسائل المراوغة والتحايل والخديعة، بما فيها الحروب الأهلية، لقطع الطريق على أي تغيير يحد من نفوذها أو يهددها بالتخلي عن ممتلكاتها، أعني عن الدول التي تسيطر عليها كإقطاعات القرون الوسطى القديمة مع كل شعوبها ومواردها. وكلها مستعدة لتفجير هذه الدول ودفعها نحو الهاوية بكل الوسائل إذا كانت النتيجة المتوقعه لأي إصلاح إخراجها من جنتها وحرمانها من ثمراتها بل تقليم أظافرها.
والخوف كل الخوف أن تنجح المخاوف الأمريكية من الانفتاح السياسي والمراوغة التقليدية للنخب المتسلطة على الدول والبلدان في الدفع نحو توقيع صفقة جديدة، وهذا هو المرجح في نظري، بين الفئات الحاكمة والإدارة الأمريكية الراهنة أو القادمة تكون نتيجتها التضحية المشتركة بالديمقراطية، أي بالمصالح الشعبية، مقابل التزام الدول الصناعية بتقديم مساعدات كبيرة اقتصادية وأمنية للنظم الحالية وقبول الأخيرة بتنازلات كبيرة في مسائل الاستقلال والسيادة والهوية الوطنية والتمسك بحل عادل للمسألة الفلسطينية وبآفاق التنمية المستقلة والوحدة والتحرر من السيطرة والاحتلال الأجنبيين. لا يمنع هذا بالتأكيد القيام ببعض الإصلاحات الشكلية لإقامة واجهة من التعددية السياسية العقيمة والحريات الفردية الفارغة لكنه يضمن إعادة بناء النظام الشرق أوسطي القديم وتجديد الشراكة التقليدية بين النخب الحاكمة والتحالف الغربي على الأسس ذاتها التي ضمنت في الماضي حرمان الشعوب العربية من الحرية والمشاركة والسيادة وبالتالي من التنمية، أي الاستمرار في الإحياء الاصطناعي لدول فارغة من أي مضمون سوى التغطية على المصالح الخاصة والعمل كوكالات للشركات والدول الأجنبية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire