لم يمنع رفض الحديث عن الاصلاح والمثابرة على التأكيد على صحة الخيارات الوطنية العديد من النظم العربية من الاستجابة لنداء المؤسسات المالية الدولية والدول الكبرى الغربية. فقام بعضهم بحركات إصلاحية في اتجاه تحرير الاقتصاد وإقامة بعض المنابر الحزبية هنا وهناك تحت مظلة الحزب الواحد أو أجهزة الأمن، لكن قواعد العمل استمرت على العموم كما كانت.
هكذا استمرت النظم الحاكمة تحكم بالطريقة نفسها، أي بأوامر شبه عسكرية لا تعرض لأي نقاش، واستمرت معها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية في التفاقم. فتوقف النمو الاقتصادي وذابت الطبقات الوسطى تحت تأثير التركيز الفاحش للثروة وزاد تسلط الحاكمين على المال العام وتوجيهه لخدمة أغراضهم الشخصية وانهارت المداخل والقوة الشرائية للأغلبية الساحقة من السكان واتسع نطاق البطش ولجوء السلطات الحاكمة للقوة والعنف لمعالجة الاحتجاجات والمعارضات السلمية وتحللت الفكرة والمشاعر القومية والوطنية معها تحت تأثير الاحتكار المطلق والدائم للثروة والسلطة وانعدام القانون وتسيب الإدارة وانتشار البطش الأعمى والمزاودة باستخدام العنف في حل المشاكل السياسية. وكانت النتيجة أن عقد التسعينات كان عهد ما ينبغي ان نسميه عقد الاحباط والتمرد والعنف الذي برهت فيه فئات من الشباب فقدت الأمل بوطنها وبالمستقبل وأصبحت تتطلع إلى المخرج من البؤس وانسداد السبل في الانتحارات الجماعية.
وبالرغم من كل ما أثارته الحركات الاسلامية المتطرفة من مخاوف ومن تهديدات بقيت النظم العربية على مواقفها ولم تشعر بتفاقم الأزمة وبأن الأمور أصبحت لا تطاق وتحتاج إلى الحد الأدنى من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومما حرمها من اختيار طريق الاصلاح للرد على التمردات الاجتماعية ما وجدته من تشجيع ودعم لدى الدول الغربية التي دفعتها إلى تبني استراتيجية المكافحة الامنية لحركات الاحتجاج السياسي الاسلامية المتطرفة. فقد كانت تعتقد أنها تستطيع بذلك حماية أمنها ومنع الاسلاميين المتطرفين المعادين للغرب ونفوذه في المنطقة العربية من استلام السلطة. لكن النتيجة كانت تحول هذه الحركات الاسلامية من حركات احتجاج سياسية إلى حركات عنف إرهابية عالمية.
هل أدركت الأنظمة العربية بعد تحول الحركات الاسلامية المتطرفة إلى حركات إرهابية عالمية الخطر ؟ أبدا
لقد اعتقدت بالعكس أنها قضت على معارضاتها الأشد خطرا وانتزعت آخر ما تبقى لدى مجتمعاتها من استقلالية حتى لو كانت استقلالية رمزية أو وهم الاستقلالية. لقد أخضعتها وجعلتها مسخرة لها ورهن إشارتها بالمعنى الحرفي للكملة لا إرادة لها ولا قول.
ما نعيشه اليوم من تخبط وتمزق وفشل وانهيار وانكشاف أمام القوى الأجنبية ليس ثمرة الأزمة العميقة التي عرفناها منذ الثمانينات وإنما ثمن إخفاق الاصلاح أو رفض النظم العربية القيام بالاصلاح في الوقت المناسب والمطلوب. وقد كان من نتيجة ذلك الانقطاع النهائي للنخب الحاكمة عن المجتمع وتجاهله كليا للانكباب على خدمة المصالح الذاتية بالاعتماد على التغطية والدعم الخارجيين من جهة وموت المجتمعات المدنية أي تفريغ الشعوب من عناصر الرؤية والتنظيم والحيوية والقوة من جهة ثانية. ولأنه لم يعد هناك فرصة للتغيير لا من قبل النخب الحاكمة المريضة ولا من قبل المجتمعات والشعوب الكسيحة أصبح التدخل الخارجي الذي كان احتلال العراق رمزه الأوضح هو الرد الوحيد على الاستعصاء والجمود الداخلي وما ينجم عنهما من تهديدات للاستقرار الداخلي والعالمي. وما هو مطروح اليوم على الدول العربية حكومات ومجتمعات معا ليس الاصلاح وإنما معالجة مسألة تزايد التدخلات الأجنبية باسم الاصلاح وانطلاقا من غيابه. وفي مواجهة هذا التدخل ليس أمام الأنظمة سوى أن تسلم واحدها بعد الآخر وتستسلم تماما للأوامر الخارجية لتحظى بالتمديد لها لفترة قادمة أو تتعرض لتحديات الضغوط الداخلية المتصاعدة والقبول بمواجهتها بالقوة من دون حماية وتغطية دولية. وقد انهار مؤتمر القمة العربية أمام تحدي مواجهة هذه التدخلات وليس أمام تحدي الاصلاح. وفي المقابل لا تزال المجتمعات التي فقدت معنى السياسة كإطار مدنى وإنساني لتنظيم الحياة الجماعية ولم تعرف غير للقوة والعنف كقانون وحيد لتنظيم شؤونها وبناء حياتها وعلاقاتها الداخلية مترددة بين الاستسلام لابتزاز النظم ودعايتها الأمنية والمراهنة على عناصر الضغط الخارجية.
كل ما يدور اليوم من نقاش حول مسألة الاصلاح و إمكانية تحقيقه سواء أجاء عن طريق التفاهم بين النظم والمعارضات أو عن طريق التفاهم بين النظم والدول الأجنبية، الأمريكية أو الأوروبية، لا يقوم في الواقع إلا بالتغطية على حقيقة فشل الاصلاح وغياب آفاقه وبأمل المد في أجل الأوضاع القائمة. ولا يدور النزاع الراهن بين النظم العربية وقوى التدخل الخارجية حول تحقيق الاصلاح أو حتى طبيعة الاصلاح ونوعه بقدر مايدور حول تحديد مسؤولية كل من الطرفين الذين قام عليهما النظام الاقليمي والقطري في العقود الثلاث الماضية، والمقصود بالطبع النخب المحلية والدول الكبرى الأجنبية التي تحالفت في مواجهة و ضد المجتمعات المحلية، عن قشل الاصلاح، أي عن الخراب والهدر المريع للموارد والمصالح العربية. فكل منهما يناور في سبيل خداع الرأي العام العربي وضمان مواقعه ونفوذه، ولو على حساب حليفه، في المنطقة العربية.
لكن القول إن الاصلاح قد انتهى وفات أوانه بالنسبة للنظم العربية لا يعني أن الأوضاع العربية لم تعد تحتاج إلى إصلاح وإنما يعني أنه لم يعد هناك أمل في انتظار الاصلاح من نظم تحتاج هي نفسها للاصلاح. وأي أمل بالاصلاح يتوقف على قدرة المجتمعات العربية على بناء نظم جديدة تعتمد قواعد عمل وآليات قرار وأساليب تفاعل مع المجتمعات والعالم الخارجي وعلى توليد قيادات سياسية وحكومات تمثيلية تعمل تحت إشراف الشعوب وفي خدمتها ولا تستخدم الدول والموارد العامة وسيلة للارتقاء بنفسها وتعظيم مكاسبها الشخصية والخصوصية. ومن هنا، إن مستقبل المجتمعات العربية مرهون بقدرة هذه المجتمعات على تطوير مبادرات ديمقراطية في كل قطر عربي من أجل فرص انتخابات نزيهة وحرة وعامة على النظم الحاكمة وعلى الولايات المتحدة الأمريكية واوروبا نفسها لفسح المجال أمام قيام حكومات منتخبة جديدة تمثل شعوبها وتعبر عنها وتستند إليها في سعيها للاصلاح. هذا هو الشرط الرئيسي للشروع الفعلي بتطبيق برنامج الإصلاح الممكن والمطلوب، وبغير ذلك لا يمكن أن يكون هناك إصلاح ولكن الاستمرار في إضاعة الوقت والمراوغة واللف والدوران وبالتالي، بالنسبة للشعوب، اللعب في الوقت الضائع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire