في
بداية التسعينات من القرن الماضي، كرست
كتابا بعنوان :
المحنة العربية،
الدولة ضد الأمة، لأرد على الادبيات
العالمية التي درجت، في علم الاجتماع
والعلاقات الدولية والعلوم السياسية،
على تفسير تأخر العالم العربي في الدخول
في موجات الديمقراطية الأولى والثانية
والثالثة بعوامل ثقافية أو انتربولوجية
أي بسبب تراثه التاريخي الثقافي والديني
والاجتماعي، الموسوم بالتقليد والمحافطة.
وكان المقصود
به الاشارة إلى الاسلام وما سمي في ذلك
الوقت بالصحوة الاسلامية.
وبينت في ذاك
الكتاب أن سبب المحنة العربية، بالرغم
من جميع العيوب التي تنخر في جسم المجتمعات
العربية وثقافتها القديمة والراهنة،
ومرجعياتها الفكرية، هي الدولة نفسها
وليس المجتمع. وحاولت
أن أبين في هذا الكتاب أن الخروج على
الدولة والردة عليها، كما تجسده العديد
من الحركات والتيارات الاسلاموية وغير
الاسلاموية، ليس خروجا على دولة تمثلل
إرادة الأمة وتعمل على تحقيق غاياتها
وأهدافها، أي ليس ضد ما تمثله من قيم
الحداثة، وإنما هي ثورات ضد دولة انقلبت
على الأمة، فصارد دولة ضد الامة، وسلطنة
لا تعيش ولا تستمر إلا بتفكيك المجتمع
وإخضاعه ونزع الوعي الوطني والإرادة عنه،
وحرمانه من أي فرصة للتكون كشعب متفاهم،
ومن باب أولى كأمة حرة تستمد مشروعية
وجودها ومبرره الأخلاقي من تحقيق الحرية
والكرامة للفرد ومن وراء ذلك للجماعة
الوطنية كلها.
جاءت
ثورات الربيع العربي في منتصف عام ٢٠١١
لتقدم برهانا ساطعا على صحة هذه الأفكار
وتزيد من دائرة انتشارها، مؤكدة أن الشعوب
العربية موجودة، ولكنها في الأسر وتحت
الحصار، وأن تطلعها إلى التحرر والانعتاق
لا يقل عن تطلع غيرها من الشعوب.
وقد تراجعت
النظريات التي انتقدتها في كتاب المحنة
العربية تراجعا كاملا، على الأقل خلال
السنة الاولى لثورات الربيع العربي، وكتب
العديد من العرب مقالات لدحض نظرية
الاستثناء العربي، التي تستبطن روحا
عنصرية لم يتخل عنها معظم الباحثين
الغربيين في الشؤون العربية والاسلامية.
فقد أظهرت هذه
الثورات أن العرب مسكونين أيضا، مثل كل
الشعوب الأخرى، بهم الحرية ومستبطنين
لأخلاقياتها، وأنهم مستعدون لتقديم
تضحيات لا حدود لها في سبيل نيلها وتأكيد
كرامة الانسان العربي التي لا تنفصل عنها،
وحقهم أخيرا في الدخول في عصرهم ومعانقة
القيم الانسانية الكونية التي هم جزء
منها.
لكن
سرعان ما بدأت هذه الأفكار في الانحسار
على ضوء النكسات التي بدأت تشهدها هذه
الثورات . وام
يمض وقت طويل حتى استعادت النظريات القدمية
مكانها، وربما بشكل أقوى في موازاة موجات
الانتقاد العميق لهذه الثورات ومساواتها
بالفوضى والارهاب.
ويكاد يكون
هناك اتفاق كامل بين نخب النظم العربية
الجديدة النازعة إلى استعادة زمام المبادرة
وأغلب المثقفين "العلمانيين"
على تحميل
الاسلاميين عموما، بتنظيماتهم المختلفة،
المسؤولية الرئيسية عن تخريب عمل الدولة
ومحاولات السيطرة على ثورات الربيع العربي
وحرفها عن أهدافها ومحتواها، ربما بما
يمثلونه من ثقافة ارتجاعية تمنعهم من
تمثل قيم الحداثة، وفي مقدمها الفكرة
العلمانية التي تحدد حيز عمل الدين وحيز
عمل السياسة، وتمنع من الخلط بين سلطة
اصحاب السيادة في كليهما.
يضاف إلى ذلك،
ما تشهده المجتمعات العربية المتفجرة
اليوم في مخاض حروب الثورة والثورة المضادة
من ضغوط في اتجاه احياء العصبيات القبلية
والطائفية والعائلية وتنامي النزعات
اللامركزية والانفصالية.
لا
يمكن لهذه النظريات في رأيي أن تفسر شيئا.
فمن جهة لا
يظهر التاريخ أي عداء لدخول الدولة الحديثة
من قبل المجتمعات الأهلية، بل ربما كان
العكس هو الصحيح، وهذا على عكس ما كانت
تظهره هذه المجتمعات نفسها للدولة
الامبرطورية والسلطنة في أحيان كثيرة.
ثم إن الارتداد
على الدولة والاحتجاج عليها، مما عبرت
عنه ثورات الربيع العربي، لم ينبعا من
العداء لفكرتها أو من رفض البرامج الوطنية
التي ارتبطت باسمها من تطبيق حكم القانون
وتحقيق أمنها الوطني والدفاع عن هويتها
وتأمين فرص التقدم الاقتصادي وتوفير فرص
العمل ومؤسسات التعليم والتدريب والصحة
والمرافق العامة والتأهيل لأجيالها
الجديدة، ولكن بالعكس تماما من عجز الدولة
عن تحقيق فكرتها الوطنية، وانزلاقها
مزالق طائفية او مافيوية وقصورها عن تطبيق
البرامج التي وعدت بها واكتسبت بسببها
التأييد والولاء والشرعية.
وليس
هناك شك في أن تفكك الدولة/السلطنة
العثمانية وحلول نموذج الدولة الحديثة
في أعقابها قد شكلا انقلابا عميقا في بنية
المجتمعات العربية وطريقة تفكير الأفراد
وسلوكهم الاجتماعي والسياسي.
ففي مكان
الدولة التقليدية التي تقوم وظيفتها
الرئيسية على تأمين السلام والأمان
للجماعات المنضوية تحت لوائها، مقابل ما
تتلقاه من ضرائب وخدمات عينية بما فيها
أعمال السخرة، تاركة للمجتمع الأهلي،
بملله وطوائفه ونقاباته، مواجهة تحديات
ومهام الحياة الفردية والجمعية الاخرى،
حلت دولة من نمط جديد تبني شرعيتها وصدقيتها
على ما تقوم به لصالح المجتمع من أعمال
وما تنفذه من مهام تصب في النهاية في عملية
كبيرة واحدة هي إعادة تشكيل شروط حياة
المجتمعات الاقتصادية والسياسية والتربوية
والثقافية بشكل لا سابق له وعلى هدى قيم
المواطنة والحياة القانونية والمشاركة
السياسية والتضامن الوطني والاجتماعي،
التي تشكل شرط الحرية.
فأصبحت هذه
الدولة محور حياة هذه المجتمعات.
وبينما افتقدت
التنظيمات الأهلية، القبيلة والعشيرة
والطائفة، الموارد والامكانيات، برزت
الدولة بوصفها الأداة الأمضى والأكثر
فعالية وقدرة على إخراج المجتمعات من
حالة التأخر الذي كانت تعيش فيه، بالمقارنة
مع معايير العصر، وتأهيلها للدخول في عصر
الثورة الصناعية والسياسية والعلمية.
فصارت الدولة
بسرعة المحرك الرئيسي إن لم يكن الوحيد
لكل النوابض الاجتماعية :
القوة الأولى
لتحقيق السلام الاهلي والأمن، وخلق فرص
العمل، وضمان العاطلين، وتعليم الاجيال
وفتح المستشفيات وتوفير الكهرباء والماء
والخدمات العامة التي أصبح وجودها مرتبطا
بها. لم
توجد في مجتمعاتنا أي قوة منظمة، عصبية
قبلية أو روابط أهلية، قادرة على منافسة
الدولة، أو الوقوف أمامها أو الحد من
نفوذها أو حتى البقاء ضد إرادتها.
أصبحت الدولة
هي محور حياة المجتمعات ومعقد أمل الجماعات
الأهلية والمدنية، من دون مثيل ولا شريك.
والواقع
أن الولاء للدولة والتعلق بها جاء مواكبا
لطموح المجتمعات إلى الاندماج في حضارة
عصرها والتخلص مما أطلق عليه مفكروها
عصور التأخر والظلام والانحطاط.
ولهذا السبب
ملكت الدولة الحديثة في البداية، ثم
الدولة القومية في مرحلة ثانية واليوم
الدولة الوطنية عقول العرب وقلوبهم مثلهم
مثل جميع الشعوب التي قاتلت وضحت بالآلاف
من أبنائها من أجل الوصول إلى دول مستقلة
تعنى بأعضائها وتحميهم وتؤهلهم وتدربهم
وتساعدهم على تحقيق آمالهم وتطلعاتهم
للعيش في مدنية عصرهم والدخول في الحضارة
والتاريخ. وآخر
الأمثلة وأشدها نضال الشعب الفلسطيني
العنيد والمرير والدامي لانتزاع ولو ٢٢
بالمئة من فلسطين ليبني عليها الدولة
الوطنية التي يريد أن تحميه وتضمن حقوقه
الأساسية التي يهدرها الاستعمار والاستيطان
ويضيعها تقادم الزمن والنسيان.
بعكس
ما حصل في أوروبة التي شهدت تبلور نموذج
هذه الدولة الأول، لم تواجه الدولة الحديثة
في العالم العربي والعديد من بلدان العالم،
منافسا يذكر.
كان
يمكن للعشيرة أو الطائفة أن تكون مركز
مقاومة لتمدد نفوذ الدولة واستحواذها
على ولاءات الناس وانتمائهم، لكن حالة
التردي الاقتصادي والانساني التي كانت
قد وصلت إليها هذه المناطق خلال قرن من
انحسار عهد السلطنة العثمانية وتفكك
الإدارة وانتشار الفوضى والخراب، كانت
قد هيأت الجماعات، بالعكس، للانفكاك عنها
أو على الأقل، علمتهم عدم المراهنة عليها.
وعلى
جميع الاحول لم يكن لديها من الموارد
المادية والمعنوية ما يمكن أن يجعل منها
شريكا للدولة أو منافسا لها في تحقيق
مشاريع الخدمة العامة وفتح الطرق ومد
خطوط الكهرباء ومياه الشرب وبناء الجسور
والسدود والاستثمار في الزراعة والصناعة
والصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية.
هكذا
صارت الدولة، عند العرب وكل الشعوب الأخرى
الخارجة من قواقعها الامبرطورية المفقرة،
موضوع رهان
شامل، وتقريبا وحيد، لا شريك ولا منافس
لها، في تنفيذ برامج الاصلاح، وهي الأمل
الوحيد أيضا لدى المجتمعات لتلبية نداء
الانفتاح على العالم والاندماج في حضارة
العصر.
من
هذا الرهان المتزايد على الدولة وغياب
المنافس بل الشريك المجتمعي القادر على
موازنة القوة، سوف يولد نوعان من الاستلاب
أديا إلى الانفصال الكامل للدولة عن
المجتمع وسيطرتها الشاملة :
الأول
استلاب الفرد للدولة وتسليمه لها، بكل
ما يتعلق بأمور الحياة، ومن ضمن هذا
الاستلاب ينبغي أيضا تفسير الرغبة في
أسلمتها، وتعظيم الرهان الشامل عليها
وتوسيعه، والانجراف وراءها قلبا وقالبا،
لتصبح في الوقت نفسه مالكة الدنيا والدين،
والثاني النزوع المتزايد عند الدولة،
وعند النخب المسيطرة عليها، الى التغول
على المجتمع والاستهانة بارادته ووجوده،
قبل الانقلاب عليه واستغلال تفتته وانعدام
عصب تماسكه، لبناء نظام تسلطي يستخدم
الدولة وسيلة للسيطرة، بأسلوب خجول في
البداية، تحت راية الطلائعية والتقدم،
التي ترفعها نخبة استبدادية عقائدية، ثم
بأكثر الاساليب فجاجة، فيما بعد، باسم
استقلال الدولة نفسها وسيادتها والدفاع
عنها، وحفظ الامن، وفي حماية نخبة تحتكر
لوحدها من دون رقيب ولا شريك سلطة المال
والسياسة والسلاح والإدارة والاعلام،
وتجعل من الدولة ملكيتها الخاصة ووسيلة
عملها، ومن التحكم بالمجتمع، وتأمين
إخضاعه وتجريده من أي قدرة على المقاومة
أو المعارضة أو الاحتجاج، البرنامج
السياسي الوحيد لها.
في
هذا التسليم الكامل للدولة والانسحاق
أمامها، بسبب ما مثلته من وعود وبرامج
ومشاريع سلبت الوعي والارادة معا، ثم ما
ملكته من قدرات للقهر والاستتباع، لم
يختف المجتمع والفرد والانسان كليا ويغيب
أي تفكير في المساءلة والمحاسبة فحسب،
ولكن الدولة ستتحول، بموازاة تبلور الطبقة
المتماهية معها، طبقة الدولة أو طائفتها،
إلى أكبر آلة سلب واستلاب وعنف ونهب عرفتها
المجتمعات العربية في تاريخها، وستتحول
السياسة بموازاة ذلك الى عبادة للدولة
والتسبيح بحمد القائمين عليها وتبجيلهم
والركوع أمامهم واستجداء عطفهم ورضاهم.
هكذا
صارت الدولة الحديثة التي نشأت لتحرير
المجتمع أداة استلابه الرئيسية، وصار
رهينة لها بمقدار ما وضع رهاناته المصيرية
فيها..
هذا
هو السياق الذي ولدت فيه العبودية الجديدة
في البلاد العربية، وصار فيه قتل الافراد
بالمئات والآلاف بمثابة الاضاحي واكباش
الفداء المطلوبة للدولة.
ومن
هنا ستولد في سورية التي تقدم المثال
الأقصى لدولة العبودية هذه شعارات :
طلبنا
المدد فارسل لنا حافظ الاسد، والاسد الى
الابد، ودولة الاسد، وسيد الوطن، وبالروح
بالدم، وأخيرا :
الأسد
أو نحرق البلد، وكلها، وغيرها كثير، طقوس
الدين الجديد، ووسائل التعبير عن العبودية
للاله الجديد الذي هو الدولة ومن يمثلها،
عبودية نصف مختارة ونصف مفروضة بالقوة
والرهبة.
لقد
جرفت الدولة هوية الأفراد وفكرهم وضميرهم،
بمقدار ما استعبدت أجسادهم، وطوعتها في
أقبية مخابراتها وبسكاكين جلاديها وأدوات
تعذيبهم، وصارت تمثل للفرد،
القادم من تيه السلطنة المتهاوية ونهاية
التاريخ، من دون تراث ولا ثقافة ولا هوية
ولا تقاليد، مصدر الحياة والموت، الثراء
والفقر، العطاء والقبض، الذل والكرامة.
وصار
المجتمع أمامها، بكل أفراده وجماعاته،
لا شيء، مجرد مادة خام تشكلها اجهزة الدولة
على حسب مشيئة أعوانها، لا ينتظر منه رد
فعل ولا يحسب لردوده إذا حصلت أي حساب
على سؤال: من المسؤول عن إجهاض الدولة الوطنية، الجواب نحن جميعا، بتعظيمنا لها، وتوسيع دورها، واستسلامنا لسلطتها، وازدرائنا بقوتنا، وافتقار مجتمعاتنا لأي تنظيم داخلي يحميها من تغول الدولة ويوازن سلطتها ويقطع الطريق على مصادرتها من قبل النخب الحاكمة وتحويلها إلى أداة للسيطرة الخاصة وبناء ملكيات جديدة وإقطاعيات وتحويل الأفراد إلى أقنان .
لكن
يبقى السؤال :
كيف
نجحت هذه النخبة في اختطاف الدولة وتحويلها
من دولة الحرية والمواطنة والشعب إلى
دولة غول، تريد أن تبتلع الشعب وتمحوه من
الوجود.
هذا
موضوع المقال القادم.