بعد صمت دام شهرين كاملين، تحدث الأسد للمرة الثالثة. وكعادته لم يتوجه إلى الشعب حتى لا يشك أحد بأنه قرر الاعتراف بوجوده السياسي وحقه في المراقبة والمحاسبة، ولكن إلى الخاصة من المؤيدين، بعد توسيعها لتتجاوز هذه المرة أعضاء البرلمان أو أعضاء الحكومة وتضم عناصر جديدة من الحزب والدولة. ولم يكن الهدف من الخطاب تخفيف الضغوط الأجنبية المتزايدة بسبب استمرار عمليات القتل والتنكيل بالأبرياء والمتظاهرين السلميين العزل فحسب وإنما، قبل ذلك، إعطاء أمل لقاعدة النظام الاجتماعية، وبعض الشرائح أو الطبقات المهنية التي بدأت تخشى على مستقبلها ومصيرها من استمرار الأزمة، وبشكل خاص للفئة التي لا تزال صامتة وتنتظر جلاء الوضع حتى تتخذ موقفها، والتأكيد على أن النظام لا يزال مسيطرا على الوضع السياسي رغم غيابه عن المشهد، وأن فشل الحل الامني لم يفقد هذا النظام قدرته على الحركة من أجل دفع الأمور نحو عودة الاستقرار المفقود، وأنه قادر على التغيير والتغير، وهاهو يقدم حلا عن طريق الحوار الشامل كما يقول. وكان النظام يراهن من أجل ذلك على قدرة الخطاب المليء بالوعود على أن يثير رضى قطاعات من الرأي العام وأن يؤدي إلى الانقسام والبلبلة، ولو لدرجة قليلة، في أوساط الشعب وحركته الاحتجاجية وحركة المعارضة. أملا بأن يبرهن بذلك للرأي العام على أن هناك أفقا للخروج من الأزمة وأن خطته في قمع الانتفاضة لم تبؤ بالفشل، وأن نظامه قادر على البقاء.
ولا يخفى على أحد، نحن والنظام، أن الجزء السياسي الأهم من الصراع القائم اليوم يدور على كسب هذه الشريحة المهمة من المجتمع التي سيكون موقفها حاسما في الشهر القادم. ويتوقف هذا الموقف على تقديرها للوضع. فإذا شعرت أن النظام لا يزال لديه القدرة على السيطرة على الأوضاع، ستميل إلى مسايرته ثم الالتحاق به، سواء أثبت قدرته هذه عن طريق الانتصار العسكري أو القيام بالاصلاحات التي ترضي قسما كبيرا من الرأي العام. وبالعكس، سوف تلقي بثقلها لصالح الثورة والتغيير إذا أدركت أن النظام هالك لا محالة، ولا فائدة من التمسك به أو المراهنة عليه.
ومن الواضح، وهذا ما أظهرته ردود فعل القوى الاحتجاجية والجمهور السوري عامة، بالإضافة إلى تعليقات الصحافة العربية والعالمية، أن أثر الخطاب كان سلبيا إن لم نقل معاكسا للمطلوب. مما يعني أن الرئيس لم يقنع هذه الفئة الاجتماعية المهمة والصامتة حتى الآن بالانضمام له. وربما خلق عندها شعورا متزايدا بعجزه عن استعادة المبادرة السياسية من خلال ما طرحه من برنامج إصلاح وحوار يفتقدان لأي مضمون مباشر، وعدم قدرته على تجاوز أسلوب الوعود المعروف لكسب الوقت، وتجاهله كليا مسألة الاستخدام المستمر للعنف ضد السكان العزل، ووقف الحرب المعلنة على الشعب، في سبيل الاحتفاظ بطبيعة النظام كما هي، وعدم التطرق إلى وضعه هو كرئيس أبدي، والتلميح على الأقل بأنه لن يستمر في المنصب الذي يحتله إلى الأبد.
كل ذلك عزز الشعور بأن الرئيس لا يملك حلا للأزمة، وإن ما ستشهده البلاد في الأشهر القادمة لن يختلف كثيرا عما شهدته في الأشهر الماضية، حتى لو تخلل ذلك قرارات وإصلاحات شكلية، والتصويت على قوانين جديدة، لا قيمة لها طالما بقيت السلطة الحقيقية مركزة في يد أجهزة الأمن التي تعطل عمل الدستور والقانون منذ عقود، ومادامت سلطة الامن وسلطة الرئيس المطلقة لا تخضع لرقابة او محاسبة لا شعبية ولا برلمانية ولا حتى حزبية.
لامتصاص المفعول السلبي لخطاب الرئيس في الداخل الوطني والخارج الدولي، كلف وزير الخارجية، بوصفه شخصية تقنوقراطية، بعقد المؤتمر الصحفي الذي أريد له أن يشرح بطريقة أكثر إقناعا، خطط النظام الاصلاحية، وأن يطمئن السوريين المترددين في أن المخرج من الأزمة لا يزال في يد النظام، وان السلطة لا تزال تملك المبادرة. وقد حاول وليد المعلم أن يؤكد من جهة على أن النظام لديه القدرة على البقاء، وهو ما دفعه إلى استعراض أسماء الدول والمنظمات التي تدعمه واحدة واحدة، من روسيا إلى الصين إلى الهند إلى البرازيل بعد أن اعلن عن دعم ايران وحزب الله له. ومن جهة ثانية حاول أيضا أن يقنع الرأي العام السوري بأن الاصلاح قادم بالتأكيد، وكاد يقول إن لم يقل بالفعل: جربونا وستجدون أن لدينا ما يسركم، من دون أن يقدم ولو حجة واحدة على جدية التغيير الذي يتحدث عنه النظام والذي يريد له أن يكون تحت سيطرته الكاملة.
لسوء حظ النظام، لم تكن آثار مؤتمر المعلم الصحفي أفضل بكثير من آثار الخطاب الرئاسي. وربما فاقم منها بدل أن يرتيها. فليس من الامور المطمئة لطبقة رجال الأعمال والأوساط الاقتصادية معرفة أن النظام يفكر بمنطق محو الغرب من الخريطة، وهو مثال على التطرف واللاعقلانية وعدم الواقعية، ولا من المتصور أن يردد وزير خارجية دولة تعيش ازمة كبيرة أن القافلة تسير والكلاب تعوي. ووليد المعلم نفسه لم يعود الرأي العام على مثل هذه المبالغات المثيرة التي هي من مصطلحات منطق الحرب. كان من الواضح إذن أن هناك مشكلة، وأن أصحاب النظام بدأوا يفقدون أعصابهم، وأنهم غير مقتنعين هم انفسهم بما يريدون أن يقنعوا به الرأي العام السوري والعالم.
من هنا، بدت مبادرة الرئيس ووزير خارجيته لتخفيف الضغوط الخارجية والداخلية وجذب الطبقة الوسطى أو قسما منها إلى صف النظام وإقناعها بأن هناك مشروع إصلاحي جدي هذه المرة من دون مستقبل. وكان لا بد من دعمها بالمسيرات التأييدية من جهة، وبتشديد القمع للمتظاهرين المعارضين من جهة ثانية. وزاد من طابعها المأساوي رفض قوى الاحتجاج وقوى المعارضة على مختلف فصائلها القبول بمشروع الحوار الوطني الذي عرضه الخطاب، والذي نظروا إليه بوصفه فخا منصوبا لزرع البلبة بين صفوف المعارضن. والواقع أن النظام لم يقدم في مشروعه الحواري من التنازلات ما يغري حتى الأطراف الضعيفة من المعارضة، وبدا كما لو كان امتدادا في مفهومه وأهدافه، وإن على مستوى أكبر، لحوارات الرئيس المستمرة منذ ثلاثة أشهر مع الوجهاء والاعيان المفترضين بهدف تقديم خدمات خاصة لهم تفصلهم عن قضية شعبهم الرئيسية، وهي قبل أي شيء آخر، قضية الحرية، أي الخروج من نظام القهر والقتل والاضطهاد القابع على صدور السوريين منذ خمسة عقود. وهي الكلمة التي تجنب الرئيس لفظها في خطابه كله.
والواقع ان فشل النظام في إقناع الرأي العام بمشروع الانفتاح السياسي الجديد الذي لوح به، بعد وصول حملته القمعية المنظمة إلى طريق مسدود، جاء ليفاقم من أزمة السلطة وضياعها. وعلى صعيد العمل الميداني، سوف ينعكس هذا الإخفاق في إقناع الرأي العام السوري، خاصة الفئة المترددة، بأن لديه مخرجا للأزمة، في تطور متزايد لحركة الاحتجاج. وهو يفتح الطريق لانضواء فئات جديدة سورية تحت لواء التغيير، بعد فقداتها الثقة بمقدرة النظام على معالجة الأزمة، أو ربما برغبته في تقديم التنازلات اللازمة من أجل الخروج منها.
وهذا ما يرتب على قادة الحركة الاحتجاجية وقادة المعارضة الديمقراطية مهام جديدة، تتلخص في ربط الخيوط مع هذه الشرائح السورية التي ستتطلع أكثر فأكثر نحوها بوصفها الوحيدة التي تملك المفتاح لحل الأزمة وحسم الصراع القائم. وتعني هذه المهام أولا بلورة خطاب يتجاوب مع حاجات هذه الشريحة ومصالحها،من ضمن الرؤية الشاملة للتغيير الديمقراطي الشعبي طبعا. كما تعني ارتفاع قادة المعارضة والاحتجاج إلى مستوى المسؤولية في ما يتعلق برسم تصور واضح لهذا المستقبل وتقديم خطة طريق للانتقال نحو الديمقراطية من دون زعزعة أسس الاستقرار الكلي وتدمير النظام العام أو المساس بسلامة الدولة ووحدة الشعب.
المهم أن شرائح الرأي العام السوري التي كانت لا تزال تتردد حتى الآن في الانخراط في الفعاليات الثورية، بالرغم من ايمانها بشرعية التحول الديمقراطي وحتميته، أصبحت الآن مستعدة للتفاعل مع الثورة، وعلينا نحن أن نحول هذا التفاعل إلى مراهنة فعلية على التغيير، وانخراط جدي وعملي في الجهود الرامية إلى عزل النظام ومحاصرته كشرط لتفكيكه والقضاء عليه. ومن أجل النجاح في ذلك ينبغي علينا العمل على محورين: أولا تأكيد الاتساق والانسجام داخل الثورة ووقف التشتت والانقسام وتعدد الأقطاب وتضارب الآراء والاتجاهات، كما بدأنا نشاهد الآن، وثانيا إبراز شخصيات سياسية من الشباب ومن المعارضة الحزبية متناغمة ومستقرة ومطمئنة، وجلعها هي الناطقة الرسمية باسم المعارضة، والتفاهم مع وسائل الإعلام العربية والدولية على ذلك، والحد من التشويش الذي يثيره في ذهن الرأي العام السوري والعربي والدولي ظهور من هب ودب للحديث على وسائل الإعلام باسم الثورة أو باسم المعارضة، وتحميلها مواقف قد تضر بسمعتها واتساق أهدافها، بسبب فقدانهم أي ارتباط بقواها الفاعلة وأي معرفة بخطط عملها وبرامجها واستراتيجياتها وتكتيكاتها. وأنا أتلقى يوميا دعوات لحضور مؤتمرات وتكوين هيئات وحكومات من أناس لم يكن لهم قبل علاقة بالسياسة، وغالبا من منطلق حب المشاركة والحرص على أن لا تضيع فرصة تحرير سورية من نير نظام الرق الذي فرض عليها خلال العقود الماضي.
باختصار، نحن الآن أمام مرحلة جديدة من تطور الثورة، هي مرحلة كسب الرأي العام الصامت، مما يشكل شرطا لحسم الصراع مع النظام. ولا نستطيع أن نحقق ذلك إذا بقينا نسير على النهج الذي اتبعناه حتى الآن، والذي تفتقر فيه المعارضة وحركة الاحتجاج الشبابي إلى رموز واضحة، ويحق فيه لأي فرد مهما كانت ارتباطاته ضعيفة بالقوى الفاعلة على الأرض وأفكاره بعيدة عن أفكار الحراك السياسي الواسع، وأحيانا مناقضة لها، بأن يعبر عن الثورة والمعارضة، كما لو كان زعيما من زعمائها أو ممثلا لها. وإذا لم نستطع أن نتفق منذ الآن على تكوين جبهة معارضة موحدة، فلا مانع من أن تعين قوى المعارضة المنظمة المختلفة ناطقا رسميا لكل منها، ينطق باسمها، فيكون للتنسيقيات ناطق رسمي أو أكثر، ولإعلان دمشق ناطق رسمي، وللتجمع الوطني الديمقراطي ناطق رسمي، وللمعارضة الكردية ناطق رسمي أيضا إذا أرادت أن تحتفظ بتميزها داخل إعلان دمشق. وأن يشكل الناطقون الرسميون للحركة الشبابية الشعبية وللمعارضة لجنة تشاورية ينسقون في ما بينهم بشأن الخطاب والشعارات والمهام الإعلامية المطلوبة لدعم الثورة. على أن تكون مسؤولية الحركة الديمقراطية مرتبطة فقط بما يصرح به هؤلاء وليس غيرهم.
هذا هو الحد الأدنى من التنظيم والتنسيق المطلوبين اليوم في غياب إمكانية الإعلان الرسمي عن ولادة جبهة معارضة سورية شاملة. وبهذا يتبلور للمعارضة الديمقراطية خطاب واحد لدى الرأي العام، ويطمئن كل فرد وكل جماعة على اهداف الثورة وقيمها وغاياتها، ولا تختلط تصريحات هولاء باولئك. فمن المعروف ان للنظام، كل نظام أعداء وخصوم مختلفين، على يساره ويمينه وفوقه وتحته. ومن المفروض أن يكون للمعارضة صوت واحد معروف ومسؤول لا يختلط بتصريحات قوى أخرى تكن العداء، لغايات مختلفة تماما، للنظام. وليس كل معاد للنظام بالضرورة شريك في المعارضة، خاصة وأن النظام السوري كون لنفسه عداوات في كل مكان وفي كل الجهات. فالنقمة الطائفية ليست معارضة ديمقراطية، وخطابها العدواني حتى لو عادى النظام فهو يسيء للمعارضة بمقدار ما يساهم في خلق شرخ داخل المجتمع والرأي العام يعطل الحركة الديمقراطية القائمة على تعميم مفهوم المواطنية. وعداء بعض القوى الغربية للنظام من ضمن طموحها لتوسيع نفوذها وسيطرتها على المنطقة أو دعم بعضها لاسرائيل لا علاقة له، ولا ينبغي بأي حال أن يختلط مع صراع المعارضة من أجل سورية ديمقراطية، لأن أساس هذه الديمقراطية هو سيادة الشعب ومن ورائها سيادة الدولة واستقلالها أو استقلال قرارها الوطني. ولذلك من يطالب بتدخل عسكري أجنبي مستفيدا من هذا العداء، يقوض الأسس التي تقوم عليها ثورة الشعب الديمقراطية، أعني السيادة الشعبية.
من دون العمل على تعيين ناطقين مسؤولين أمام الرأي العام عن أقوالهم، يمثلون بالفعل قوى المعارضة المنظمة، الاحتجاجية والحزبية، ويعبرون عن أهداف الشعب ومصالحه لا عن مصالح وعداوات خاصة او أجنبية، ستجد الثورة نفسها في حالة من الفوضى الفكرية والسياسية، لا يعرف أحد ماهي قواها الحقيقية وما هي غاياتها ولا إلى ماذا ستؤول إليه بعد سقوط النظام. وبالتاكيد لا يمكن لهذا أن يطمئن أحد أو أن يكسب من لا يزال مترددا من الجمهور السوري. وإذا ستمر من دون معالجة سنجد أنفسنا أمام وضعية اهتراء لا تغيير، تتلخص في أن النظام يتهالك ويفقد رصيده ويضعف لكن مع غياب أي قوة أخرى تستثمر هذا الضعف وتجيره لصالح بناء سورية الجديدة. ومن المؤكد أن استمرار مثل هذا الوضع الذي يجمع بين ضعف النظام وضعف المعارضة لن يطمئن أحدا وسوف يزيد من القلق وعدم الثقة لدى الرأي العام السوري والدولي، وبالتالي لن يساعد على التقدم إلى الأمام، وإنما سيخلق حالة من الإحباط والاستنقاع والمراوحة في المكان إلى أن تظهر عوامل داخلية او خارجية جديدة تدفع بالاوضاع إلى مسارات لا أحد يريدها او يسيطر عليها.
1 commentaire:
فانا لست الوحدي الذي يرى الضعف في كثير من يتحدثون باسم المعارضة.
خاصة بعد مؤتمر انطاكية، كانو عم يتبارو بالحكي وكأنن عم يقولو .. والله شوف انا فيني احكي عن النظام السوري اكتر. المشكلة انو كل العالم بيعرف انو النظام هو القاتل والمجرم وما في داعى ليقضو المؤتمر وهني كل شي عم يحاولو يعملوه هوي الحكي .
وبالآخر بتطلع نتيجة المؤتمر "على بشار الاسد التنحي فورا"
انو على اساس اذا قالولو تنحى رح يتنحى فوراً
المشكلة انو نظامنا لايسقط بالطريقة التي سقط بها نظام المصري او التونسي ..
اي تجمع مهما كان واي اعتصام سيفض خلال ثواني باطلاق النار!!
نظامنا ما عندو مشكلة بقتلنا وحتى ما عندو مشكلة اذا قتل ايا حدا المتظاهرين
دم المتظاهر هو متل المي بالنسبة الو .. ما عندو ايا مشكلة ابدا
نحن بحاجة لابتكار طرق جديدة غير الطرق التقليدية
نحن بحاجة للكثير من الدهاء لاسقاط هذا النظام
Enregistrer un commentaire