من الحداثة إلى الإسلاموية: على رغم قول غليون «ليس معنى هذا أن التحديث خاطئ بحد ذاته» فإن سلسلة استدلالاته تذهب أحياناً بهذا الاتجاه، فهو يحمل على فاعليات التحديث ذاتها ومظاهرها التقنية والأيديولوجية برمتها، محملاً إياها مسؤولية بروز الإسلام السياسي حركياً وفكرياً. فهو يعتبر أن التحديث قسّم المجتمعات العربية إلى مجتمعين وثقافتين متنافرين، وهما على تنافرهما ذاك، توحدهما هيمنة روح العصبوية على سلوكهما، «فإن الثقافتين العصرية والتقليدية تلتقيان على تقديس القيم ذاتها على رغم اختلاف أشكالها: التعصب والقطيعة والترداد الطقوسي للأفكار والأقوال، والانغلاق، وفقدان روح الإبداع لحلول جديدة وروح الحوار... ورفض حرية التعبير والتفكير، والميل الدائم للقمع، والأمل بمحاربة الديكتاتورية والتسلط بديكتاتورية وتسلط جديدين»، وبالتالي إن الحقيقة التي تكمن وراء بروز الحركة الإسلامية وشعاراتها ومفاهيمها هو الصراع السياسي على السلطة، فالناس لا يتنازعون في هذا السياق على تعيين حقيقة الإسلام، بل إن هذه النخبة تعلقت بالإسلام لتستخدمه سلاحاً يعينها في صراعها على السلطة مع النخبة الحاكمة المستبدة المبرقعة بأيديولوجية حداثية وعلمانية، وان هذا لا يعفيها إن وصلت إلى السلطة من الرضوخ لمفاهيم الحكم المعاصرة، وإلّا أدخلت البلاد في دورة جديدة من الاستبداد، إذ ليس للإسلاميين أو غيرهم من مهرب من التفكير في النظام السياسي اليوم انطلاقاً من مفاهيم العصر، وإن لم يفعلوا ذلك تحولوا، كما هو حاصل مع طالبان أفغانستان، إلى أناس خارجين عن العصر».
نقد فكرة (الدولة الإسلامية) ودولة تطبيق الشريعة
من هنا فإن غليون لا يعتبر شعار (الدولة الإسلامية - وتطبيق الشريعة) سوى تفسير حديث تغذيه مشكلات الإسلاميين الراهنة، فعلى رأي غليون «لم يفكر الإسلام... بالدولة، ولا كانت قضية إقامة الدولة من مشاغله، لكن الدولة كانت، من دون شك، أحد منتجاته الجانبية الحتمية... وليس من قبيل الصدفة تجاهل القرآن لها، وكلمة الدولة الإسلامية نفسها كلمة مبتدعة حديثة تعبر عن تأثير الفكر الإسلامي المعاصر الشديد بالفكر الحديث السائد.
كما ان طرح الإسلاميين لمفهوم (الدولة الإسلامية) لا يتسق مع تاريخ التجربة السياسية العربية الإسلامية، فالدولة السلطانية التي سادت بعد الفترة القصيرة للخلافة النبوية، لم تتعامل مع (الشريعة) أو القواعد الفقهية إلّا بما يتسق ومصالحها، وشهدت طوال تاريخها هيمنة السلطة السياسية على الهيئة الدينية، ولم يدّعِ أحد من الحكام طوال هذا التاريخ صلته بالوحي أو عصمته، أما في العصر الحديث، فلا يمكن بناء دولة حديثة على أساس الانتماء الديني ومجرد الشراكة في الإيمان، إذ إن منطق الإيمان القائم على أسبقية الولاء للجماعة وتطبيق شريعتها وتقاليدها وعرفها، لا يمكن إلّا أن يُفسد منطق الانتماء إلى الدولة أو للرابطة السياسية القائمة على أسبقية التعاقد بين أفراد أحرار ومتساوين، يجمع بينهم العقد الذي تواضعوا عليه وبالتالي الولاء للقانون...».
دولة الشريعة أم دولة القانون؟
وترتبط رهانات شعار الدولة الإسلامية بشكل رئيس بإقامة السلطة الإسلامية، أي سيطرة الحزب الإسلامي، وتطبيق الشريعة، وينطوي هذا الشعار على اعتقاد الإسلاميين الجازم «بأن أحكام الشريعة واضحة وصريحة، ولا تحتاج سوى للإرادة السياسية لتطبيقها»، بينما الممارسة - بنظر غليون - تبيِّن أن السلاطين لا تعنِي لهم الشريعة «أكثر من الاسترشاد بآراء الفقهاء ولم يكن هذا يمنعهم من تطبيق إجراءات وقوانين غير مستقاة مباشرة من الكتاب والسنة»، على رغم أن تطبيق الشريعة لم يكن موضعاً للاعتراض كحاله اليوم. كما أن الدولة الإسلامية السلطانية التقليدية، وعلى رغم تطبيقها أحكام الشريعة، فإن هذا التطبيق لم يمنعها «من أن تكون دولة تعسفية». أما في التجربة المعاصرة فإن شعار تطبيق الشريعة يضفي على الشريعة طابعاً مقدساً، كما يؤدي إلى وضع اجتهاد الفقهاء على مستوى الأحكام الدينية النصّية المقدسة، مع العلم أن أحكام الشريعة، هي بالأساس القواعد القانونية والتشريعية التي استنبطها الفقهاء، وهم بشر غير مقدسين.
ويعتقد غليون، أن ما يطلبه الفكر الإسلامي اليوم، لا يختلف عما طرحه الفقهاء قديماً من ضرورة إلزام الإمام بالشريعة، اعتقاداً منهم أن في هذا الإلزام بناء للدولة الإسلامية. والحال أن هذا لا يحل مشكلة الدولة التي لا تتعلق بنوعية القوانين والشرائع التي تلتزم بها السلطة، بقدر ما يتعلق بتحديد وسائل ممارسة السلطة التي تملك القوة الضاربة. فنظرية السلطة ليست نظرية في الأخلاق ومنظومة القيم الدينية وغير الدينية، ولكنها نظرية في قواعد استخدام القوة، وفي آليات استخدامها. أما في ما يتعلق بالحساب النهائي فهو من شأن الله، ومتروك له، ولا يمكن سلطة مدنية يمارسها بشر أن تخلط نفسها بسلطة الله، أو تدعي تطبيق حسابه.
فعند غليون، أن الدولة ليست ملك أي دين، إنها ملك مواطنيها، أي الناس الذين يشتركون في بنائها والقادرين على بنائها كدولة مواطنيها، أي كدولة للحرية والمشاركة والمساواة والعدالة، وأن الدولة لم تعد في أي بقعة من العالم دولة المسلمين أو المسيحيين أو البوذيين، ولو أن سمة الثقافة الإسلامية أو المسيحية أو البوذية لا بد من أن تظهر عليها، وتنعكس على قوانينها. فالدولة إما أن تكون في العصر الحديث دولة مواطنيها على مختلف اعتقاداتهم وأصولهم وتأويلاتهم الدينية وغير الدينية، أو لا تكون دولة على الإطلاق، وتتحول بسرعة إلى عصبة منظمة تتحكم بمواطنيها، وبالتالي لن ننجح في أن نجعل الدولة دولتنا فعلاً، كمواطنين أحرار، ما لم نقبل جميعاً بمبدأ الحرية كقاعدة لبناء حياتنا السياسية المشتركة، وتكون دولة مواطنيها جميعاً، وأن بداية الطريق لذلك «هي تجاوز إشكالية بناء الدولة الإسلامية التي سيطرت على عقل المسلمين خلال القرن الماضي بأكمله».
* كاتب سوري
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire