الاتحاد 11 مارس آذار 09
باستثناء الأطراف السياسية المناوئة للحكومة المركزية في دارفور وغيرها من مناطق السودان، يكاد الرأي العام العربي وحكوماته يجمعون كافة على أن مذكرة التوقيف التي وجهتها محكمة الجناية الدولية في 5 مارس آذار 2009 ضد الرئيس السوادني عمر البشير تشكل استمرارا للاستراتيجية الغربية ذاتها التي تهدف إلى حصار العالم العربي وتركيعه، والتي كان العراق أحد ضحاياها الأكثر نموذجية. وبالرغم من أن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي لم تعد تشك في ما حدث في دارفور من مجازر، ولا تمانع في أن تعترف بقسط من المسؤولية في حصولها، أو على الأقل في عدم الحؤول بسرعة وفعالية دون استمرارها، على حكومة الخرطوم، إلا أنهم يعتقدون أن هناك مبالغة في تصوير حجم الجريمة، كما يستبعدون أن يكون الدفاع عن الضحايا هو الهدف الحقيقي للمحكمة. والدليل على ذلك أن ما طبق على السودان لا يطبق بالمثل على بلدان أخرى غير عربية، وبشكل خاص لا يطبق على مجرمي الحرب الاسرائيليين الذين لا تزال أياديهم ملطخة بدم الأبرياء والمدنيين العرب في لبنان وغزة وعموم فلسطين. وأي تشكيك في صدقية القضاء الدولي وشفافيته يمكن أن يكون أقوى من اتهامه بازدواج المعايير وبالخضوع لإرادة القوى الكبرى وممالأتها أو العمل على هامش مبادرتها وتبعا لأجندتها السياسية؟
لا ينبع هذا الرفض لقرار المحكمة الدولية إذن من الاعتقاد ببراءة البشير من المسؤولية في الجرائم الخطيرة التي حصلت في دارفور، ولكن من الشك في أن يكون الانتقام للضحايا هو دافع القوى الراعية للمحكمة الدولية. فالمسؤولية قد تكون واقعة، لكن البشير لا يستهدف من اجلها ولكن كحلقة من حلقات الممانعة العربية، ولرفضه التسليم للغرب، وتطبيقه مباديء الشريعة الاسلامية، وسعيه إلى الحفاظ على وحدة السودان وهويته العربية. فقد نجح البشير بعد استلامه الحكم عام 1989 في أن يحرر السودان من الحرب التي دامت أكثر من عشرين عاما في الجنوب، ويؤمن شروط استغلال الثروة النفطية، ويؤسس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن ما تسعى إليه الولايات المتحدة والغرب عموما، وإسرائيل خاصة، هو إثارة القلاقل والفوضى في السودان من اجل زعزعة حكم البشير ونظامه، ودفع السودان إلى الانقسام وشق أجزاء كبيرة منه عن الكتلة العربية. ومن اجل ذلك لم تكف القوى الغربية خلال العقدين الماضيين عن شحن الأجواء وتغذية التناقضات واستغلال المصاعب والمشاكل الداخلية للسودان وتضخيمها.
قد لا يكون هذا التحليل الذي يركز على الطابع السياسي للمحكمة أو بالأحرى للمحاكمة خاطئا كليا. فليس هناك في نظري حكم قانوني خال من المحتوى السياسي، والقانون جزء من السياسة ونظامها. وليس من قبيل الصدفة أن تكون المحكمة الدولية محكمة غربية. كما انه ليس من قبيل الصدفة أيضا أن لا تكون هناك، لا في السودان ولا في أكثر الدول النامية، وفي مقدمها الدول العربية، محكمة أصلا، لا دولية ولا وطنية. وأن تكون المحاكمة تقليدا ضعيفا في هذه الدول لدرجة لم يشعر البشير ولا غيره من الحاكمين في السودان أن ما جرى من جرائم في دارفور يستحق تحقيقا قانونيا وإقامة محكمة ورد الحقوق إلى أصحابها. ولا أن مثل هذا العمل، أي تطبيق القانون، هو المسؤولية الأولى للحكومة والدولة. حتى يحصل مثل ذلك ينبغي أن تنغرس فكرة القانون أولا في أذهان المسؤولين والرأي العام معا، وأن يتطور الشعور بأن العنف غير المشروع، أي المنفصل عن القانون، ليس الطريق الأقصر لتحقيق المآرب السياسية. ولا يولد معنى القانون، وليس رسمه وشكله، ما لم يترسخ في وعي النخب السائدة والحاكمة أن الإنسان هو غاية السياسة والاجتماع معا، وان العمل على تحسين شروط معيشته والارتقاء بشروط تكوينه وتأهيله وتربيته، والحفاظ على حياته، هو مبدأ أي عمل عمومي ومبرره وأصل مشروعية الدولة والسياسة ذاتها.
فالدول والشعوب التي تدرك معنى القانون وخطورته هي وحدها التي تستطيع أن تستفيد منه وأن توظف تقدمها القانوني هذا في سياساتها, أي أن تجير القانون عندما تستطيع ذلك لأهدافها السياسية. أما الدول والشعوب التي لا تعرف معنى القانون، فهي تعتقد بأن القوة المجردة عن القانون والمباديء هي وحدها القادرة على الفعل والإنجاز، فتجد نفسها ضحية سياسة القوة والعنف التي خبرتها. والقصد أن أصل استخدام المحاكم الدولية اليوم وسيلة للضغط على الدول هو تجاهل هذه الدول الاخيرة للقانون، بل استهتارها به وخروجها عليه، وتركها ساحته فارغة للقوى الكبرى التي تطرح نفسها عندئذ، كما هو واضح في زمننا، راعية للقانون وحامية للحقوق والحريات، الخاصة بالأقليات أو حتى الشعوب، والذي تنكره وتدوس عليه الدول التي أصبحت تسميها بالمارقة أو الفاشلة أو الساقطة.
وفي العقود الأربع الأخيرة، عملت ظروف متضافرة، خارجية وداخلية، زعزعت استقرار المجتمعات على تحطيم التقاليد والأصول المرعية في كل مكان، وتشويه المرجعيات السياسية والأخلاقية والدينية لدرجة لم تعد فيها للحياة الإنسانية في بلادنا العربية، على امتدادها، معنى. وصار القتل والسجن الطويل والتعذيب والاعتقال والتمثيل بالجسد والنفس معا، أمرا شائعا وطبيعيا، لا يثير أي قلق أو تأنيب ضمير ولا يدفع إلى أي مراجعة فكرية أو أخلاقية. وشيئا فشيئا صار العنف هو العملة الوحيدة الاجتماعية القابلة للصرف. واستسلمنا جميعا للاعتقاد بأن النجاح والتفوق والاكتمال وتحقيق الذات مرتبط بإظهار الاستعداد الأقصى لاستخدام العنف من دون رادع سياسي أو أخلاقي. وطبقنا بنجاح مبدأ الغاية تبرر الواسطة، ففقدنا معنى القوة الأخلاقية ونبالة الدفاع عن القيم الإنسانية.
خطأ البشير لا يكمن في أن العمليات التي خاضها جيشه قد تسببت في مقتل عشرات الألوف من البشر الأبرياء وتعذيب الكثير منهم واغتصاب نسائهم أو بناتهم وتهجير ملايين البشر من منازلهم وتحويلهم إلى لاجئين، يعتاشون مما تتصدق عليهم به الجمعيات الخيرية الدولية. هذا ما يحصل في كثير من عمليات التمرد أو الثورة أو الاحتجاج في العديد من بقاع الأرض. خطؤه أنه لم يكترث لما حصل، ولم يشعر أن ما حصل كان من الخطورة بحيث يستدعي التأمل والتفكير والتحقيق وشيئا من العدالة، حتى لو جاء ذلك لأهداف سياسية. وبذلك قدم نفسه ونظامه وبلده لفصيل الضواري الذين يتصيدون في الماء العكر بالفعل، وإذا لم يكن كذلك فهم يعكرونه بأنفسهم، ضحية على طبق من ذهب. وما كان في حاجة، لو تمثل هو نفسه شيئا من فكرة العدالة والإنسانية والحق وقدسية الحياة البشرية، وأنشأ محكمة سودانية لمعاقبة الجناة وتعويض الضحايا، إلى التمرد على "الشرعية الدولية" والذهاب إلى دارفور لإعلان المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام نفسه تحت حذائه، كما قال.
لا ينبع هذا الرفض لقرار المحكمة الدولية إذن من الاعتقاد ببراءة البشير من المسؤولية في الجرائم الخطيرة التي حصلت في دارفور، ولكن من الشك في أن يكون الانتقام للضحايا هو دافع القوى الراعية للمحكمة الدولية. فالمسؤولية قد تكون واقعة، لكن البشير لا يستهدف من اجلها ولكن كحلقة من حلقات الممانعة العربية، ولرفضه التسليم للغرب، وتطبيقه مباديء الشريعة الاسلامية، وسعيه إلى الحفاظ على وحدة السودان وهويته العربية. فقد نجح البشير بعد استلامه الحكم عام 1989 في أن يحرر السودان من الحرب التي دامت أكثر من عشرين عاما في الجنوب، ويؤمن شروط استغلال الثروة النفطية، ويؤسس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن ما تسعى إليه الولايات المتحدة والغرب عموما، وإسرائيل خاصة، هو إثارة القلاقل والفوضى في السودان من اجل زعزعة حكم البشير ونظامه، ودفع السودان إلى الانقسام وشق أجزاء كبيرة منه عن الكتلة العربية. ومن اجل ذلك لم تكف القوى الغربية خلال العقدين الماضيين عن شحن الأجواء وتغذية التناقضات واستغلال المصاعب والمشاكل الداخلية للسودان وتضخيمها.
قد لا يكون هذا التحليل الذي يركز على الطابع السياسي للمحكمة أو بالأحرى للمحاكمة خاطئا كليا. فليس هناك في نظري حكم قانوني خال من المحتوى السياسي، والقانون جزء من السياسة ونظامها. وليس من قبيل الصدفة أن تكون المحكمة الدولية محكمة غربية. كما انه ليس من قبيل الصدفة أيضا أن لا تكون هناك، لا في السودان ولا في أكثر الدول النامية، وفي مقدمها الدول العربية، محكمة أصلا، لا دولية ولا وطنية. وأن تكون المحاكمة تقليدا ضعيفا في هذه الدول لدرجة لم يشعر البشير ولا غيره من الحاكمين في السودان أن ما جرى من جرائم في دارفور يستحق تحقيقا قانونيا وإقامة محكمة ورد الحقوق إلى أصحابها. ولا أن مثل هذا العمل، أي تطبيق القانون، هو المسؤولية الأولى للحكومة والدولة. حتى يحصل مثل ذلك ينبغي أن تنغرس فكرة القانون أولا في أذهان المسؤولين والرأي العام معا، وأن يتطور الشعور بأن العنف غير المشروع، أي المنفصل عن القانون، ليس الطريق الأقصر لتحقيق المآرب السياسية. ولا يولد معنى القانون، وليس رسمه وشكله، ما لم يترسخ في وعي النخب السائدة والحاكمة أن الإنسان هو غاية السياسة والاجتماع معا، وان العمل على تحسين شروط معيشته والارتقاء بشروط تكوينه وتأهيله وتربيته، والحفاظ على حياته، هو مبدأ أي عمل عمومي ومبرره وأصل مشروعية الدولة والسياسة ذاتها.
فالدول والشعوب التي تدرك معنى القانون وخطورته هي وحدها التي تستطيع أن تستفيد منه وأن توظف تقدمها القانوني هذا في سياساتها, أي أن تجير القانون عندما تستطيع ذلك لأهدافها السياسية. أما الدول والشعوب التي لا تعرف معنى القانون، فهي تعتقد بأن القوة المجردة عن القانون والمباديء هي وحدها القادرة على الفعل والإنجاز، فتجد نفسها ضحية سياسة القوة والعنف التي خبرتها. والقصد أن أصل استخدام المحاكم الدولية اليوم وسيلة للضغط على الدول هو تجاهل هذه الدول الاخيرة للقانون، بل استهتارها به وخروجها عليه، وتركها ساحته فارغة للقوى الكبرى التي تطرح نفسها عندئذ، كما هو واضح في زمننا، راعية للقانون وحامية للحقوق والحريات، الخاصة بالأقليات أو حتى الشعوب، والذي تنكره وتدوس عليه الدول التي أصبحت تسميها بالمارقة أو الفاشلة أو الساقطة.
وفي العقود الأربع الأخيرة، عملت ظروف متضافرة، خارجية وداخلية، زعزعت استقرار المجتمعات على تحطيم التقاليد والأصول المرعية في كل مكان، وتشويه المرجعيات السياسية والأخلاقية والدينية لدرجة لم تعد فيها للحياة الإنسانية في بلادنا العربية، على امتدادها، معنى. وصار القتل والسجن الطويل والتعذيب والاعتقال والتمثيل بالجسد والنفس معا، أمرا شائعا وطبيعيا، لا يثير أي قلق أو تأنيب ضمير ولا يدفع إلى أي مراجعة فكرية أو أخلاقية. وشيئا فشيئا صار العنف هو العملة الوحيدة الاجتماعية القابلة للصرف. واستسلمنا جميعا للاعتقاد بأن النجاح والتفوق والاكتمال وتحقيق الذات مرتبط بإظهار الاستعداد الأقصى لاستخدام العنف من دون رادع سياسي أو أخلاقي. وطبقنا بنجاح مبدأ الغاية تبرر الواسطة، ففقدنا معنى القوة الأخلاقية ونبالة الدفاع عن القيم الإنسانية.
خطأ البشير لا يكمن في أن العمليات التي خاضها جيشه قد تسببت في مقتل عشرات الألوف من البشر الأبرياء وتعذيب الكثير منهم واغتصاب نسائهم أو بناتهم وتهجير ملايين البشر من منازلهم وتحويلهم إلى لاجئين، يعتاشون مما تتصدق عليهم به الجمعيات الخيرية الدولية. هذا ما يحصل في كثير من عمليات التمرد أو الثورة أو الاحتجاج في العديد من بقاع الأرض. خطؤه أنه لم يكترث لما حصل، ولم يشعر أن ما حصل كان من الخطورة بحيث يستدعي التأمل والتفكير والتحقيق وشيئا من العدالة، حتى لو جاء ذلك لأهداف سياسية. وبذلك قدم نفسه ونظامه وبلده لفصيل الضواري الذين يتصيدون في الماء العكر بالفعل، وإذا لم يكن كذلك فهم يعكرونه بأنفسهم، ضحية على طبق من ذهب. وما كان في حاجة، لو تمثل هو نفسه شيئا من فكرة العدالة والإنسانية والحق وقدسية الحياة البشرية، وأنشأ محكمة سودانية لمعاقبة الجناة وتعويض الضحايا، إلى التمرد على "الشرعية الدولية" والذهاب إلى دارفور لإعلان المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام نفسه تحت حذائه، كما قال.
ما لم نستبطن روح الإنسانية، ونفهم معنى الحق والقانون، ونطبقهما بالفعل، سنبقى لا محالة ضحايا قانون الآخرين، أي الاستخدام الشكلي والسياسي للقانون. لكن عندما نقول ذلك لا نحل للأسف أي مشكلة. فالمفارقة كامنة في جوهر الوضعية السياسية المسيطرة في البلاد العربية، إذ كيف يمكن لنظم قائمة على تعليق القانون، بل هدر القانون، أن تكون مصدر حماية قانونية؟
2 commentaires:
Suspending constitution for extended period of time, killing 300,000 and kicking 2 million outside the country in addition to famine to large segment of populations is not just a crime when done on the hand of the same state who supposes to protect, feed and take care of those people. If they want to fight their people, let them fight in honor, not get rid of them and send them to another state. It is a good thing that an international court is tackling this problem caused by despots around the globe.
Professeur ce n’est pas normal que quelque un comme vous se base sur blogspot pour publier ses articles !!!
Essayez d'avoir votre portail et rester comme une toile brillante, qui vise la vérité
Enregistrer un commentaire