الاتحاد 10 ايلول سبتمبر 08
أثارت بعض الاجراءات التي اتخذتها الحكومات العربية في مطالع الألفية الثالثة، في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي، انتعاشا كبيرا للآمال في منطقة بقيت، خلال ربع القرن الماضي، من أقل المناطق الاقليمية في العالم تأثرا برياح التغيير القوية التي هزت المعسكر السوفييتي والاشتراكي سابقا. وتفاءل الكثير من المراقبين بقدوم ما أسموه في ذلك الوقت بالربيع العربي، واعتقدوا أن وقت الديمقراطية العربية قد حان. فربط الأمريكيون مشروع تعزيز سيطرتهم على ا لشرق الأوسط ومنابع النفط فيه بالضغط على الأنظمة العربية وتأكيد أولوية التحولات الديمقراطية. بيد أن السنوات التي تلت ذلك بينت أن ما حاوله بعض الحكام العرب من انفتاح، تجلى عبر السماح بانتخابات تشريعية أو تكوين مجالس شورى لم تكن موجودة من قبل، لم يكن إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، وأن خروج الدول العربية من نموذج نظم الغلبة السياسية، أي التي تقوم على قهر إرادة المحكومين بكل الوسائل، لا على التشاور والحوار والتفاهم معهم، لا يزال إشكاليا بالمعنى الحرفي للكلمة. فلا تزال السلطة فيها، بالرغم من المظاهر السطحية، حكرا على فئات محددة من السكان والطبقات، كما لا يزال استبطانها لمفهوم المواطن ضعيفا لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتعرفوا على حقوقهم المدنية والسياسية، فما بالك بالدفاع عنها أو تكوين قوى سياسية منظمة لوضعها موضع التطبيق ·
وإذا كانت بعض الأوهام قد ساورت القليل من النظم العربية ودفعتها إلى الاعتقاد أن بإمكانها استخدام هذه الاجراءات لامتصاص الضغوط التي كانت موجهة إليها من قبل الدول الكبرى أولا، ثم من قبل قطاعات الرأي العام من المثقفين والطبقة الوسطى ثانيا، فسرعان ما أدركت أن الانفتاح المطالب به يحمل لها من المخاطر أكثر مما يجلب من الفوائد. وبدل أن يساعد على التخفيف من الاحتقان السياسي ويساهم في تحسين صورتها في أوساط الرأي العام الدولية، الرسمية والأهلية، من الممكن، بالعكس، أن يكشف عن هشاشة نظام الغلبة السياسي الذي لا يضمن بقاؤه سوى العنف والتلويح الدائم بانهيار الأمن وتعريض المجتمع بأكمله لعدم الاستقرار. وهكذا عادت المياه إلى مجاريها، واستعاد النظام أدوات عمله الطبيعية، وتشبث رجال السلطة بالحكم واحتكروا القرار والخطاب أكثر مما كانوا يفعلون في أي فترة سابقة، مع التأييد الصريح للدول الغربية التي أدركت هي أيضا خطل اللعب بنار التغيير السياسي، أو التحولات الديمقراطية، في منطقة لم يبق لها فيها، بسبب سياساتها شبه الاستعمارية بل الاستعمارية، صديق سوى أهل الحكم وأصحاب المصالح المكرسة.
لم يتحقق التغيير ولا حتى توسعت دائرة المشاركة الشعبية، كما كانت تطالب عواصم التحالف الغربي في تبريرها لحرب العراق أو تسويقها لها، وإنما تكرست أكثر صيغة النظم التسلطية الوراثية. ولم تساهم الضغوط الأجنبية التي مارستها هذه العواصم بقوة في السنوات القليلة الماضية في تحسين وضع الحريات ولا تعزيز قضية حقوق الانسان. بل من الصحيح القول إنها فاقمت من سوء الأوضاع السياسية والقانونية، وعرضت العديد من الناشطين الحقوقيين والسياسيين لانتقام السلطات، التي استغلت ادعاء واشنطن تبني مسألة الديمقراطية لتشويه سمعتهم لدى الرأي العام، وتوجيه التهم الباطلة لهم بالعمل لصالح الدول الأجنبية. وكم كان من الوهم تصور إمكانية قبول الأنظمة الأمنية بالانفتاح على شعوب لا ترى فيها إلا عالة عليها وبطونا استهلاكية، أو بالتنازل عن جزء من صلاحياتها أو احتكارها للسلطة، حتى لو كان ذلك لصالح الطبقة التكنوقراطية المسؤولة عن تسيير المؤسسات الإدارية والاقتصادية، فما بالك بإلزامها بالاعتراف بمبدأ تداول السلطة، أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة، أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بأهليته السياسية؟
لكن إذا لم تنجح الضغوط الخارجية في تحقيق التحولات السياسية المطلوبة، هل يساعد تعويم الأنظمة التسلطية وإعادة تأهيلها وضمان استقرارها، بشكل أفضل، على حثها على الانفتاح وتوسيع دائرة المشاركة السياسية؟
هذا هو السؤال الذي تطرحه اليوم زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي لدمشق، في إطار سياسة انفتاح وتقريب لسورية من التحالف الغربي، بعد أن أخفقت سياسة العزل والحصار التي فرضتها عليها واشنطن، وخضع لها الاتحاد الأوروبي. وهو السؤال الذي يطرحه على أنفسهم أيضا العديد من النشطاء السياسيين والقانونيين الذي يتعرضون لأقسى أنواع التنكيل بسبب تمسكهم بحقهم في المشاركة السياسية ورفضهم الإذعان لسياسة الأمر الواقع والغلبة العسكرية.
والجواب في نظري نعم، لكن فقط إذا كانت الدول الضاغطة راغبة في ذلك، أي مؤمنة حقا بالديمقراطية للعالم العربي، وحريصة على تحسين علاقاتها بشعوبه ورأيه العام. لكن المشكلة أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل أو مؤشر على أن هذا هو الواقع. وتجربة السنوات الخمس الماضية تثبت بالعكس أن الديمقراطية وحقوق الانسان قد استغلت من قبل العواصم الغربية، وواشنطن على رأسها، لتحقيق أجندة معادية في جوهرها وتفاصيلها لمصالح الشعوب العربية وأهدافها. فلو كانت قضية تعميم الديمقراطية هي بالفعل أحد أغراضها لكانت بدأت بترييح هذه ا لشعوب على جبهات التوتر التي هي شريكة أساسية فيها، وفي مقدمها جبهة الاحتلال والنزاع الفلسطيني الاسرائيلي.
يبدو لي اليوم أن العواصم الغربية لم تكن أبعد في أي فترة سابقة عن تبني الديمقراطية أو تمنيها للشعوب العربية مما هي عليه الآن. فالنكسة الكبيرة التي تعرضت لها سياستها الإقليمية، في السنوات القليلة الماضية، قوضت مواقعها أكثر من قبل، وجعلتها أكثر اعتمادا في الحفاظ على مصالحها على النظم القائمة من أي شيء آخر. وهي تعتقد اليوم، ربما أكثر من الأنظمة العربية التي تعرضت لأقسى انتقاداتها أمس فقط، بأن ضمان الأمن والاستقرار، وبالتالي التدفق الطبيعي لصادرات النفط، وتوقيع ا لصفقات الاقتصادية والتوسع في النفوذ، يتوقف في هذه المنطقة على تعميق التحالف مع الاستبداد والتعاون معه من دون حدود ولا شروط. وأن البديل الوحيد لسقوط شعار تطويع الأنظمة هو العمل معها يدا بيد لتطويع الشعوب وإخضاع المجتمعات. وفي هذا السياق، لا ينبغي أن ننتظر كثيرا حتى نرى اختصاصيي المشرق والعالم العربي يعيدون إلى الحياة نظرية الاستثناء العربي، التي كانوا قد دفنوها في نشوة النصر والتفاؤل تحت تراب نظرية الربيع العربي التي لم تعمر حتى بضع سنوات، ويتداولوا في سياقها الأطروحات السوقية حول الثقافات الجماعوية القرسطوية المغلقة، التي لا تعرف التمييز بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وترفض الانفتاح على غيرها أو التواصل والتفاعل معه، وتنتشي بكل ما هو تعصب قومي وديني.
وإذا كانت بعض الأوهام قد ساورت القليل من النظم العربية ودفعتها إلى الاعتقاد أن بإمكانها استخدام هذه الاجراءات لامتصاص الضغوط التي كانت موجهة إليها من قبل الدول الكبرى أولا، ثم من قبل قطاعات الرأي العام من المثقفين والطبقة الوسطى ثانيا، فسرعان ما أدركت أن الانفتاح المطالب به يحمل لها من المخاطر أكثر مما يجلب من الفوائد. وبدل أن يساعد على التخفيف من الاحتقان السياسي ويساهم في تحسين صورتها في أوساط الرأي العام الدولية، الرسمية والأهلية، من الممكن، بالعكس، أن يكشف عن هشاشة نظام الغلبة السياسي الذي لا يضمن بقاؤه سوى العنف والتلويح الدائم بانهيار الأمن وتعريض المجتمع بأكمله لعدم الاستقرار. وهكذا عادت المياه إلى مجاريها، واستعاد النظام أدوات عمله الطبيعية، وتشبث رجال السلطة بالحكم واحتكروا القرار والخطاب أكثر مما كانوا يفعلون في أي فترة سابقة، مع التأييد الصريح للدول الغربية التي أدركت هي أيضا خطل اللعب بنار التغيير السياسي، أو التحولات الديمقراطية، في منطقة لم يبق لها فيها، بسبب سياساتها شبه الاستعمارية بل الاستعمارية، صديق سوى أهل الحكم وأصحاب المصالح المكرسة.
لم يتحقق التغيير ولا حتى توسعت دائرة المشاركة الشعبية، كما كانت تطالب عواصم التحالف الغربي في تبريرها لحرب العراق أو تسويقها لها، وإنما تكرست أكثر صيغة النظم التسلطية الوراثية. ولم تساهم الضغوط الأجنبية التي مارستها هذه العواصم بقوة في السنوات القليلة الماضية في تحسين وضع الحريات ولا تعزيز قضية حقوق الانسان. بل من الصحيح القول إنها فاقمت من سوء الأوضاع السياسية والقانونية، وعرضت العديد من الناشطين الحقوقيين والسياسيين لانتقام السلطات، التي استغلت ادعاء واشنطن تبني مسألة الديمقراطية لتشويه سمعتهم لدى الرأي العام، وتوجيه التهم الباطلة لهم بالعمل لصالح الدول الأجنبية. وكم كان من الوهم تصور إمكانية قبول الأنظمة الأمنية بالانفتاح على شعوب لا ترى فيها إلا عالة عليها وبطونا استهلاكية، أو بالتنازل عن جزء من صلاحياتها أو احتكارها للسلطة، حتى لو كان ذلك لصالح الطبقة التكنوقراطية المسؤولة عن تسيير المؤسسات الإدارية والاقتصادية، فما بالك بإلزامها بالاعتراف بمبدأ تداول السلطة، أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة، أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بأهليته السياسية؟
لكن إذا لم تنجح الضغوط الخارجية في تحقيق التحولات السياسية المطلوبة، هل يساعد تعويم الأنظمة التسلطية وإعادة تأهيلها وضمان استقرارها، بشكل أفضل، على حثها على الانفتاح وتوسيع دائرة المشاركة السياسية؟
هذا هو السؤال الذي تطرحه اليوم زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي لدمشق، في إطار سياسة انفتاح وتقريب لسورية من التحالف الغربي، بعد أن أخفقت سياسة العزل والحصار التي فرضتها عليها واشنطن، وخضع لها الاتحاد الأوروبي. وهو السؤال الذي يطرحه على أنفسهم أيضا العديد من النشطاء السياسيين والقانونيين الذي يتعرضون لأقسى أنواع التنكيل بسبب تمسكهم بحقهم في المشاركة السياسية ورفضهم الإذعان لسياسة الأمر الواقع والغلبة العسكرية.
والجواب في نظري نعم، لكن فقط إذا كانت الدول الضاغطة راغبة في ذلك، أي مؤمنة حقا بالديمقراطية للعالم العربي، وحريصة على تحسين علاقاتها بشعوبه ورأيه العام. لكن المشكلة أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل أو مؤشر على أن هذا هو الواقع. وتجربة السنوات الخمس الماضية تثبت بالعكس أن الديمقراطية وحقوق الانسان قد استغلت من قبل العواصم الغربية، وواشنطن على رأسها، لتحقيق أجندة معادية في جوهرها وتفاصيلها لمصالح الشعوب العربية وأهدافها. فلو كانت قضية تعميم الديمقراطية هي بالفعل أحد أغراضها لكانت بدأت بترييح هذه ا لشعوب على جبهات التوتر التي هي شريكة أساسية فيها، وفي مقدمها جبهة الاحتلال والنزاع الفلسطيني الاسرائيلي.
يبدو لي اليوم أن العواصم الغربية لم تكن أبعد في أي فترة سابقة عن تبني الديمقراطية أو تمنيها للشعوب العربية مما هي عليه الآن. فالنكسة الكبيرة التي تعرضت لها سياستها الإقليمية، في السنوات القليلة الماضية، قوضت مواقعها أكثر من قبل، وجعلتها أكثر اعتمادا في الحفاظ على مصالحها على النظم القائمة من أي شيء آخر. وهي تعتقد اليوم، ربما أكثر من الأنظمة العربية التي تعرضت لأقسى انتقاداتها أمس فقط، بأن ضمان الأمن والاستقرار، وبالتالي التدفق الطبيعي لصادرات النفط، وتوقيع ا لصفقات الاقتصادية والتوسع في النفوذ، يتوقف في هذه المنطقة على تعميق التحالف مع الاستبداد والتعاون معه من دون حدود ولا شروط. وأن البديل الوحيد لسقوط شعار تطويع الأنظمة هو العمل معها يدا بيد لتطويع الشعوب وإخضاع المجتمعات. وفي هذا السياق، لا ينبغي أن ننتظر كثيرا حتى نرى اختصاصيي المشرق والعالم العربي يعيدون إلى الحياة نظرية الاستثناء العربي، التي كانوا قد دفنوها في نشوة النصر والتفاؤل تحت تراب نظرية الربيع العربي التي لم تعمر حتى بضع سنوات، ويتداولوا في سياقها الأطروحات السوقية حول الثقافات الجماعوية القرسطوية المغلقة، التي لا تعرف التمييز بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وترفض الانفتاح على غيرها أو التواصل والتفاعل معه، وتنتشي بكل ما هو تعصب قومي وديني.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire