الاتحاد 2 أغسطس 08
بعد حقبة طويلة ماضية سيطر على المجتمعات العربية فيها هوس تأكيد الهوية الثقافية والدينية، يسود اليوم بشكل متزايد، لدى المثقفين وبعض المسؤولين العرب شعور عميق بأن فجوة المعرفة قد اتسعت بين العرب والعالم الصناعي، إلى درجة أصبحت تشكل فيه خطورة على مستقبل العالم العربي وصلاح علومه ومعارفه وتكوين أبنائه واجياله الجديدة. ومن هنا بدأ الاهتمام بالتواصل مع المجتمعات الحديثة والاقتداء بها والتعلم منها يطغى في السنوات الأخيرة، بالرغم من مظاهر التعصب القومي والتزمت الديني، على خطاب التأكيد على العصبية والهوية الدينية أو القومية. فمنطق الهوية بالضرورة خصوصي، يسعى إلى تأكيد التمايز والمغايرة مع الآخر كمرتكز لوعي مستقل بالذات، فاقمت من خطورته عندنا ذكرى الاستعمار والاحتلال السابق والقائم الذي غذى ولا يزال الشعور الأليم بالدونية وضعف الذاتية. وبالمقابل لا يمكن لمنطق المعرفة أن يكون إلا منطقا كونيا، أي يخترق الهويات والاختلافات، مؤكدا وحدة العقل الإنساني وامتداده عبر الزمن، أي تراكميته، وتفاعله عبر المكان، وتواصل الباحثين والعلماء المعاصرين بعضهم مع البعض الآخر وتحاورهم. فوحدة العقل المفترضة هذه هي الفرضية الأساسية في وجود العلم بالمعنى الحديث للكلمة، أي من حيث هو مشروع لبناء معرفة موضوعية، ترتفع على شروط إنتاجها العقائدية والثقافية والاجتماعية، وتؤسس نجاعتها ومشروعيتها معا على مناهج تحصيلها وتقنيات مراجعتها لنفسها وتحقيقها في الواقع وفي التجربة. فإذا كانت الذرة لا تنشطر في الظروف ذاتها، أو إذا كانت تخضع في انشطارها لاعتقادات المجتمعات وثقافة الباحثين وذاتياتهم، لن يكون هناك علم. فالعلم واحد بينما الثقافة متعددة.
وبمقدار ما يدفع الشعور بهذه الفجوة المعرفية الأجيال الجديدة من العرب إلى التخلي عن ثقافتهم العربية وهجرها باعتبارها ثقافة فقيرة ومفوتة لا تصلح للعصر، ولا تنفع في فهم إشكالياته الكبرى، وهو ما يعبر عنه الاندفاع نحو التعليم الخاص وباللغات الأجنبية أيضا، يطرح على المجتمعات العربية مسألة إعادة التواصل مع بحر المعرفة الإنسانية وتجديد أسس الثقافة العربية ومحتواها. وهذا ما يعكسه الاهتمام المتزايد عند بعض الحكومات والناشطين الاجتماعيين بمسألة الإبداع العلمي والأدبي، وبشكل أكبر بمسألة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية. فهناك اليوم أكثر من مشروع لتكريم المبدعين والباحثين الجادين، وأكثر من مركز أيضا لرعاية الترجمة وتشجيع المترجمين على نقل ما حصل تجاهله من كتب ومراجع علمية في جميع الميادين في الحقبة السابقة. ومن بين هذه المشاريع جائزة الشيخ زايد للكتاب عموما وللكتاب المترجم خصوصا، التي أقامت في معهد العالم العربي في السابع من تموز (2008) أول ندواتها لتكريم الحائزين على جائزة الترجمة، بعنوان الترجمة كوسيلة للتواصل مع الآخر.
وليس هناك أدنى شك، كما أكد على ذلك جميع الباحثين المترجمين الذي قدموا آراءهم في الموضوع، في أن الترجمة تشكل أكبر وسيلة لتجاوز التمحور حول الذات النابع من التاكيد على الهوية، وهي وظيفة لا يمكن لمجتمع أن يتجاهلها أو يتنكر لها، وهي بالتالي أهم مجال لتعريف المجتمعات بعضها على إبداعات بعضها الآخر وثقافته وأنماط تفكيره وتجربته الخاصة. لكن الأمر كما ذكرت في مداخلتي ليس مطلقا وحتميا. إنه يتوقف على نوعية الترجمة. فالترجمة الفاسدة قد تفضي إلى نتائج معاكسة تماما للمطلوب، فلا تعجز عن مد جسور التواصل مع الآخرين وإنما تحرم العرب أنفسهم من التواصل في ما بينهم بمقدار ما تؤدي إلى نزع الاتساق عن لغتهم وزرع الاضطراب والفوضى في عبارتهم، وتشويش فكر وعقل ناشئتهم وقارئهم. وهذا ما نعيشه اليوم حقيقة في العالم العربي. فبسبب غياب سياسة متسقة وجدية تستحق هذا الاسم للترجمة، وتركها سائبة تتحكم بها رغبات دور نشر فقيرة وصغيرة ومزاج المترجمين الشخصيين الذي لا يهمهم سوى تلبية طلب السوق، وفي الغالب الرد على فضول جمهور محدود من القراء، وسعيهم وراء الكتب الذائعة الصيت أو الأكثر مبيعا، وهي غالبا لا علاقة لها بالعلم، تحولت الترجمة إلى أكبر وسيلة لتفكيك اللغة العربية وتشويش عبارتها وبث الاضطراب والفوضى في تفكير أبنائها وأجيالها الجديدة وقرائها. هكذا تملأ المكتبات العربية ترجمات سلبية من حيث الأسلوب والمحتوى معا. وبسبب تعدد المفردات المستخدمة لمصطلح واحد، نتيجة تعدد البلدان والمرجعيات اللغوية الخارجية وغياب العمل القاموسي الجامع، تكاد اللغة العربية تفقد اتساقها ووضوحها.
حتى تكون الترجمة وسيلة فعالة للتواصل بين الثقافات والمجتمعات التي تحملها، ينبغي في اعتقادي أن تقوم على أساس متين، وتتحول إلى مشروع يخدم الإنتاج العلمي المبدع، ويصب في عملية تجديد الثقافة العربية وتنشيط ديناميكاتها الذاتية. وهذا ما يتطلب مشروعا متكاملا للترجمة يتكون في نظري من ثلاث حلقات. الأولى برنامج طويل المدى، متسق ومنهجي، يهدف إلى ترجمة المراجع الأساسية في جميع الميادين العلمية إلى العربية خلال السنوات العشر القادمة، بحيث يستطيع أي طالب علم، في أي ميدان علمي، أن يجد باللغة العربية مادة أساسية ومتكاملة في المجال الذي يريد أن يتخصص فيه. وهو ما يحتاج إلى مجلس أعلى للترجمة يبلور التصور والسياسة العامة، ويعد قوائم الكتب المختارة، وينسق بين جميع النشاطات العربية في هذا الميدان بحيث يتكامل جهد جميع المراكز والمتخصصين معا على مستوى العالم العربي. والثانية حلقة تأهيل المترجمين وذلك من خلال إنشاء مدرسة عليا للترجمة على مستوى العالم العربي، تؤهل المترجمين وتعمل على تطوير أساليب عملهم، وتوحيد أسلوبهم ولغتهم، وتحويل الترجمة ذاتها إلى ميدان من ميادين البحث العلمي. فلا يكفي أن يكون المترجم عالما في ميدانه وإنما لا بد أن يكون ملما أيضا بأصول الترجمة ومصطلحاتها حسب الميدان الذي يترجم فيه. والحلقة الثالثة تتعلق بنشر ما ترجم وتوزيعه وبناء التواصل مع الجامعات والمعاهد العلمية والتعاون معها.
وفي اعتقادي لا يمكن أن توجد اليوم في العالم العربي سياسة ثقافية من دون سياسة للترجمة. إذ تكاد الترجمة تشكل اليوم الجزء الأكبر من ثقافتنا الحديثة، بل جميعها، بما في ذلك تصورنا لأنفسنا وتمثلنا لما نعتقد أنه قيمنا وآدابنا وعقائدنا. فقد تكونا جميعا، بما فيه جيلنا، على قراءة الآداب والعلوم الحديثة عبر الترجمة، وتمثلنا صورتنا عن تاريخنا وثقافتنا وخصائصنا، من كتابات الآخرين المترجمة عنا. وطالما بقينا بعيدين عن مرحلة البحث والانتاج العلمي الأصيل أو الأساسي، ستبقى تآليفنا في المعارف الأساسية والعلوم التطبيقية، باستثناء محاولاتنا النقدية، تلاخيص لأبحاث تجري في العالم وشروحا على معارفها وعلومها.
ولذلك يتوقف صلاح ثقاتنا العلمية والنظرية على صلاح ترجماتنا. وعلى هذه الأخيرة يتوقف أيضا حظنا من الانخراط في المغامرة العلمية والنهضة الفكرية والمعرفية العالمية، وبالتالي بالنهضة عموما. فإذا استمرت الترجمة في جزئها الاكبر من إنتاج إرادات فردية ضعيفة وفقيرة بالتأهيل والموارد وإمكانات التوزيع والنشر، سوف نجد أنفسنا بعد فترة أمام لغة عربية غير صالحة للاستعمال العلمي، ولا تفيد القراءة فيها شيئا، تؤسس لسوء التفاهم بين الأفراد وتغذي بالتالي التوتر وأسباب النزاع، أكثر مما تقود إلى التفاهم والتواصل، ومن باب أولى إلى الإبداع. وربما كان هذا هو ما يدعونا إلى تقديم الشكر والاعتراف بالجميل لجميع أولئك الذين قبلوا من العلماء والباحثين العمل في ميدانها وجميع أؤلئك الذين سعوا إلى تكريمهم وتسليط الضوء على عملهم الإبداعي والتنويري بالمعنى الحقيقي للكلمة.
وبمقدار ما يدفع الشعور بهذه الفجوة المعرفية الأجيال الجديدة من العرب إلى التخلي عن ثقافتهم العربية وهجرها باعتبارها ثقافة فقيرة ومفوتة لا تصلح للعصر، ولا تنفع في فهم إشكالياته الكبرى، وهو ما يعبر عنه الاندفاع نحو التعليم الخاص وباللغات الأجنبية أيضا، يطرح على المجتمعات العربية مسألة إعادة التواصل مع بحر المعرفة الإنسانية وتجديد أسس الثقافة العربية ومحتواها. وهذا ما يعكسه الاهتمام المتزايد عند بعض الحكومات والناشطين الاجتماعيين بمسألة الإبداع العلمي والأدبي، وبشكل أكبر بمسألة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية. فهناك اليوم أكثر من مشروع لتكريم المبدعين والباحثين الجادين، وأكثر من مركز أيضا لرعاية الترجمة وتشجيع المترجمين على نقل ما حصل تجاهله من كتب ومراجع علمية في جميع الميادين في الحقبة السابقة. ومن بين هذه المشاريع جائزة الشيخ زايد للكتاب عموما وللكتاب المترجم خصوصا، التي أقامت في معهد العالم العربي في السابع من تموز (2008) أول ندواتها لتكريم الحائزين على جائزة الترجمة، بعنوان الترجمة كوسيلة للتواصل مع الآخر.
وليس هناك أدنى شك، كما أكد على ذلك جميع الباحثين المترجمين الذي قدموا آراءهم في الموضوع، في أن الترجمة تشكل أكبر وسيلة لتجاوز التمحور حول الذات النابع من التاكيد على الهوية، وهي وظيفة لا يمكن لمجتمع أن يتجاهلها أو يتنكر لها، وهي بالتالي أهم مجال لتعريف المجتمعات بعضها على إبداعات بعضها الآخر وثقافته وأنماط تفكيره وتجربته الخاصة. لكن الأمر كما ذكرت في مداخلتي ليس مطلقا وحتميا. إنه يتوقف على نوعية الترجمة. فالترجمة الفاسدة قد تفضي إلى نتائج معاكسة تماما للمطلوب، فلا تعجز عن مد جسور التواصل مع الآخرين وإنما تحرم العرب أنفسهم من التواصل في ما بينهم بمقدار ما تؤدي إلى نزع الاتساق عن لغتهم وزرع الاضطراب والفوضى في عبارتهم، وتشويش فكر وعقل ناشئتهم وقارئهم. وهذا ما نعيشه اليوم حقيقة في العالم العربي. فبسبب غياب سياسة متسقة وجدية تستحق هذا الاسم للترجمة، وتركها سائبة تتحكم بها رغبات دور نشر فقيرة وصغيرة ومزاج المترجمين الشخصيين الذي لا يهمهم سوى تلبية طلب السوق، وفي الغالب الرد على فضول جمهور محدود من القراء، وسعيهم وراء الكتب الذائعة الصيت أو الأكثر مبيعا، وهي غالبا لا علاقة لها بالعلم، تحولت الترجمة إلى أكبر وسيلة لتفكيك اللغة العربية وتشويش عبارتها وبث الاضطراب والفوضى في تفكير أبنائها وأجيالها الجديدة وقرائها. هكذا تملأ المكتبات العربية ترجمات سلبية من حيث الأسلوب والمحتوى معا. وبسبب تعدد المفردات المستخدمة لمصطلح واحد، نتيجة تعدد البلدان والمرجعيات اللغوية الخارجية وغياب العمل القاموسي الجامع، تكاد اللغة العربية تفقد اتساقها ووضوحها.
حتى تكون الترجمة وسيلة فعالة للتواصل بين الثقافات والمجتمعات التي تحملها، ينبغي في اعتقادي أن تقوم على أساس متين، وتتحول إلى مشروع يخدم الإنتاج العلمي المبدع، ويصب في عملية تجديد الثقافة العربية وتنشيط ديناميكاتها الذاتية. وهذا ما يتطلب مشروعا متكاملا للترجمة يتكون في نظري من ثلاث حلقات. الأولى برنامج طويل المدى، متسق ومنهجي، يهدف إلى ترجمة المراجع الأساسية في جميع الميادين العلمية إلى العربية خلال السنوات العشر القادمة، بحيث يستطيع أي طالب علم، في أي ميدان علمي، أن يجد باللغة العربية مادة أساسية ومتكاملة في المجال الذي يريد أن يتخصص فيه. وهو ما يحتاج إلى مجلس أعلى للترجمة يبلور التصور والسياسة العامة، ويعد قوائم الكتب المختارة، وينسق بين جميع النشاطات العربية في هذا الميدان بحيث يتكامل جهد جميع المراكز والمتخصصين معا على مستوى العالم العربي. والثانية حلقة تأهيل المترجمين وذلك من خلال إنشاء مدرسة عليا للترجمة على مستوى العالم العربي، تؤهل المترجمين وتعمل على تطوير أساليب عملهم، وتوحيد أسلوبهم ولغتهم، وتحويل الترجمة ذاتها إلى ميدان من ميادين البحث العلمي. فلا يكفي أن يكون المترجم عالما في ميدانه وإنما لا بد أن يكون ملما أيضا بأصول الترجمة ومصطلحاتها حسب الميدان الذي يترجم فيه. والحلقة الثالثة تتعلق بنشر ما ترجم وتوزيعه وبناء التواصل مع الجامعات والمعاهد العلمية والتعاون معها.
وفي اعتقادي لا يمكن أن توجد اليوم في العالم العربي سياسة ثقافية من دون سياسة للترجمة. إذ تكاد الترجمة تشكل اليوم الجزء الأكبر من ثقافتنا الحديثة، بل جميعها، بما في ذلك تصورنا لأنفسنا وتمثلنا لما نعتقد أنه قيمنا وآدابنا وعقائدنا. فقد تكونا جميعا، بما فيه جيلنا، على قراءة الآداب والعلوم الحديثة عبر الترجمة، وتمثلنا صورتنا عن تاريخنا وثقافتنا وخصائصنا، من كتابات الآخرين المترجمة عنا. وطالما بقينا بعيدين عن مرحلة البحث والانتاج العلمي الأصيل أو الأساسي، ستبقى تآليفنا في المعارف الأساسية والعلوم التطبيقية، باستثناء محاولاتنا النقدية، تلاخيص لأبحاث تجري في العالم وشروحا على معارفها وعلومها.
ولذلك يتوقف صلاح ثقاتنا العلمية والنظرية على صلاح ترجماتنا. وعلى هذه الأخيرة يتوقف أيضا حظنا من الانخراط في المغامرة العلمية والنهضة الفكرية والمعرفية العالمية، وبالتالي بالنهضة عموما. فإذا استمرت الترجمة في جزئها الاكبر من إنتاج إرادات فردية ضعيفة وفقيرة بالتأهيل والموارد وإمكانات التوزيع والنشر، سوف نجد أنفسنا بعد فترة أمام لغة عربية غير صالحة للاستعمال العلمي، ولا تفيد القراءة فيها شيئا، تؤسس لسوء التفاهم بين الأفراد وتغذي بالتالي التوتر وأسباب النزاع، أكثر مما تقود إلى التفاهم والتواصل، ومن باب أولى إلى الإبداع. وربما كان هذا هو ما يدعونا إلى تقديم الشكر والاعتراف بالجميل لجميع أولئك الذين قبلوا من العلماء والباحثين العمل في ميدانها وجميع أؤلئك الذين سعوا إلى تكريمهم وتسليط الضوء على عملهم الإبداعي والتنويري بالمعنى الحقيقي للكلمة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire