الاتحاد 9 أبريل 08
ينزع قطاع كبير من المثقفين العرب اليوم، على طريق العديد من الباحثين في الشؤون العربية والاسلامية في الولايات المتحدة واوروبة، إلى الاعتقاد بأن الاستبداد قيمة من قيم الثقافة الاسلامية، أو هو كامن في بنية الدين الذي يطمح إلى أن يكون دينا كليا، لا يقبل التفريق بين مجال العقل ومجال الوحي، يدمج الحياة الفردية بالحياة الجمعية، ويرى حلول المشاكل الاجتماعية جميعا قائما في الدين بصورة مسبقة، ويجهل التمييز بين المجتمع المدني والدولة. وتبدو أنظمة الحكم القائمة في العالم العربي، مثلها مثل حركات المعارضة الاسلامية التي تواجهها متساوية في انكارها لقيم المواطنية والعلمانية، معبرة بذلك عن تناقض الثقافة العربية البنيوي مع قيم الديمقراطية "الغربية". ولا يخفى أن مثل هذه الاستنتاجات، التي بررت في الماضي دعم النظم التسلطية والتغاضي عن انتهاكاتها للحقوق المدنية والسياسية لشعوبها، يمكن أن تبرر، كما حصل في بداية هذا العقد، عندما جعلت الإدارة الأمريكية من القضاء على النظام الديكتاتوري ذريعة لغزو العراق وفرض التبعية المتزايدة على بقية الدول العربية، سياسات التدخل الأجنبي والاحتلال. وهو ما ينطبق على علاقة النخب العربية المثقفة أو معظمها بشعوبها أيضا.
ليس هناك شك في أن تهافت ثقافة المجتمع السياسية عنصر أساسي في تحليل مسار النظم الاستبدادية. لكن لا أعتقد أن هناك حاجة لنظرية جوهرانية في الثقافة العربية لفهم هذا التهافت، ومن باب أولى لفهم أسباب تغول الدولة الحديثة وخروجها عن السيطرة في معظم البلاد العربية. ولعل انجراف نخب هذه البلدان، مثلها مثل العديد من نخب العالم الأخرى، وراء العقائديات الثورية واليسارية، وهو ما يعكس أيضا انحسار جاذبية ثقافاتها التراثية، يفسر أكثر من ثقافة الماضي ما طرأ على نظمها من توجهات معادية لليبرالية وللتعددية معا. ولم يكن وراء هذا الانجراف الوفاء للتراث بقدر ما كان الطموح إلى تحقيق أقصى ما يمكن من التقدم الحضاري الحديث وبأسرع وقت، ومجاراة المجتمعات الأخرى في معايير سلوكها الفردية والجمعية. وقد استند معظم هذه النخب في تبرير سياسات تقييد حريات الأفراد وإخضاعهم بالقوة إلى النظريات التقدمية الحديثة، وجعل من الانجازات المادية ورفع مستوى الفعالية عند المجتمعات معيارا ومبررا لبناء النظم الشمولية. وقبل أن يصبح الاسلام الرصيد الرئيسي لحركات المعارضة المحافظة الساعية إلى تجريد النخب الحاكمة من الشرعية، وانتزاع السلطة منها، أو فرض التنازلات السياسية عليها، كان لأكثر من قرن، أي منذ نشوء الاصلاحية الدينية، المعين الأول للحجج التي استندت إليها النخب الليبرالية لتأكيد شرعية حركة التحديث، على مستوى الأفكار والقيم والهياكل والقوانين والمؤسسات وقواعد العمل، وتعزيز الهوية الوطنية والقومية.
لم تنشأ الثقافة الاستبدادية المعاصرة إذن كامتداد لثقافة الماضي وقيمه. كما انها لم ترتبط بأفكار الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية الحديثة التي ميزت الحقبة الأولى من حركة النهضة العربية. إنها بالأحرى ثمرة انحطاط النظم والسلطات ونماذج الحكم التي ورثتها، وسارت بها نحو طريق مسدود. هكذا أصبحت الوطنية التي كانت تنزع خلال فترة الاحتلال الأجنبي، وجزئيا بعد الاستقلال، إلى تطوير منظومة قيم مواطنية قائمة على المساواة والعدالة والادماج الوطني للطبقات الشعبية والفلاحية خاصة، وللأقليات الدينية والإتنية، أقول أصبحت تميل إلى التعبئة الشكلية والشوفينية ضد الأجنبي، وتخلق هي نفسها، كي تبرر وجودها وتعزز نفوذها، الأجنبى أو الغريب الداخلي، المتجسد في فئات إجتماعية مثقفة أو أقليات أو معارضات. وبالمثل، هكذا تحولت القومية التي كانت تميل إلى تنمية قيم التضامن والتعاون والتفاهم بين شعوب المنطقة المنتمية إلى ثقافة واحدة، وتوحيد مصيرها، إلى ذريعة لتبرير النزاع بين الزعامات الفارغة، والتغطية على إخفاق النخب والسقوط في المآزق التي قادت إليها سياساتها. وقد أصبح من الصعب جدا العثور اليوم على آثار الأفكار الليبرالية أو الديمقراطية أو القانونية في ايديولوجيات قومية ووطنية ضيعت جوهرها، وتحولت إلى وسائل للتلاعب بعواطف الجمهور وابتزاز القوى السياسية والنخب المنافسة بقصد تمديد البقاء في السلطة أو تبرير الوصول إليها.
وما يقال عن العقائديات الوطنية والقومية السائدة في المنطقة، يقال كذلك عن العقائديات الاسلاموية واليسارية المعارضة. فمن الصعب أن يستمد الفرد من نظريات الحاكمية الإلهية، ومطابقة الشريعة المراد تطبيقها مع القانون الوضعي، والتسليم بقيادة أمراء الدين الجدد من الشباب والفتيان، الذين نادرا ما توفرت لهم أصلا ثقافة دينية جدية وكافية، قيم ثقافة ديمقراطية أو حتى شبه ديمقراطية. إن القيم الحقيقية التي تجسدها معظم الحركات الاسلامية السياسية، حتى الآن على الأقل، مع بعض الاستثناءات الفردية، هي قيم التسليم لأمير الجماعة الذي يدعي أنه وحده الذي فهم الأمر الديني وتمثل متطلبات تحقيقه، وهذا ما يقود إلى قتل الفكر الشخصي والنقدي معا، والامتثال لسلطة تعتبر نفسها، حتى لو لم تجرؤ على التصريح العلني بذلك، سلطة دينية أو منسجمة انسجاما كبيرا مع متطلبات الدين. وفي هذه الحالة من المستحيل بناء مفهوم للمسؤولية الفردية لا بل الإنسانية، ومن باب أولى بناء نظام للمشاركة السياسية والتعبير الحر عن الرأي والمراقبة والمحاسبة والمساءلة العمومية. إن الثقافة السياسية التي بثتها معظم حركات الاسلام السياسي المتطرفة في العقود الثلاث الماضية، وهي مقلوب الايديولوجيات القومية المتفسخة الحاكمة ومثيلها، تقود لا محالة إلى تعزيز ثقافة التسليم لأولي الامر، السائدة أصلا منذ فترة طويلة لدى الجمهور العربي المهمش، والمبعد بالقوة عن مناقشة شؤون حياته العمومية، وإلى الهرب من المسؤولية والخضوع والاتكال على قوى تنظر لنفسها على أنها ملهمة أو استثنائية، لا تخضع لمراقبة الرأي العام ولا يمكنه التحكم في سلوكها.
وقد بينت تجربة البلدان الشيوعية الدارسة أن النظم السياسية التسلطية والشمولية التي تنزع إلى تقديس الاستقرار، وتخشى أي شكل من أشكال التغيير والتحول، تشجع على الفكر الامتثالي وتحث على الخضوع والطاعة. كما أن العنف الذي يرافق هذه النظم، وأزمة الشرعية الدائمة التي تميزها، تجعلان المجتمع يعيش في حالة من الحرب الدائمة، وتحرمانه من فرص إنضاج وتطوير مفاهيم سليمة للتعامل الاجتماعي وللسياسة والدولة معا. ولا شك أن القومية الشعبوية، التي سيطرت على الحياة السياسية العربية في العقود القليلة التي أعقبت الاستقلال، قد ساهمت في تأخير إدراك راهنية التفكير النظري والعقلي بمسائل تنظيم المجتمع والحياة السياسية، وكان لها أثر كبير في استلاب المجتمعات العربية للدولة، بقدر ما منعتها من فهم آليات عملها ومن السيطرة النظرية والعملية عليها. ولذلك ستبقى الدولة أجنبية، لا بمعنى أنها بضاعة غير عربية، ولكن بمعنى كونها خارجية بالنسبة للمجتمع وخارجة على إرادته، كما لو أن المجتمعات التي تكبدت مشقة الكفاح لأكثر من قرن من أجل بناء الدولة الحديثة وتوطينها قد أصبحت، بعد الاستقلال، رهينة هذه الدولة المستقلة وضحيتها معا. والحال أنها رهينة السلطة السالبة التي اختطفتها. ولا تهدف المزاودة بالوطنية التي أصبحت ايديولوجية سائدة، بل ثقافة سياسية بحد ذاتها، والمستخدمة بكثافة من قبل النخب الحاكمة، إلى شيء آخر سوى قطع الطريق على أي محاولة جدية لوضع مسألة التحكم بالدولة موضع البحث ومناقشة علاقتها بالمجتمع وبالأفراد الخاضعين لها. إنها لا ترمي إلا إلى تمديد أجل الاستلاب الراهن للدولة واستلاب الدولة نفسها للقوى الحاكمة، مع ما يعنيه ذلك من انعدام آفاق التأهيل السياسي للمجتمعات والبقاء في أفق الفوضى العقلية والسياسية وتحت تهديدهما الدائم.
ليس هناك شك في أن تهافت ثقافة المجتمع السياسية عنصر أساسي في تحليل مسار النظم الاستبدادية. لكن لا أعتقد أن هناك حاجة لنظرية جوهرانية في الثقافة العربية لفهم هذا التهافت، ومن باب أولى لفهم أسباب تغول الدولة الحديثة وخروجها عن السيطرة في معظم البلاد العربية. ولعل انجراف نخب هذه البلدان، مثلها مثل العديد من نخب العالم الأخرى، وراء العقائديات الثورية واليسارية، وهو ما يعكس أيضا انحسار جاذبية ثقافاتها التراثية، يفسر أكثر من ثقافة الماضي ما طرأ على نظمها من توجهات معادية لليبرالية وللتعددية معا. ولم يكن وراء هذا الانجراف الوفاء للتراث بقدر ما كان الطموح إلى تحقيق أقصى ما يمكن من التقدم الحضاري الحديث وبأسرع وقت، ومجاراة المجتمعات الأخرى في معايير سلوكها الفردية والجمعية. وقد استند معظم هذه النخب في تبرير سياسات تقييد حريات الأفراد وإخضاعهم بالقوة إلى النظريات التقدمية الحديثة، وجعل من الانجازات المادية ورفع مستوى الفعالية عند المجتمعات معيارا ومبررا لبناء النظم الشمولية. وقبل أن يصبح الاسلام الرصيد الرئيسي لحركات المعارضة المحافظة الساعية إلى تجريد النخب الحاكمة من الشرعية، وانتزاع السلطة منها، أو فرض التنازلات السياسية عليها، كان لأكثر من قرن، أي منذ نشوء الاصلاحية الدينية، المعين الأول للحجج التي استندت إليها النخب الليبرالية لتأكيد شرعية حركة التحديث، على مستوى الأفكار والقيم والهياكل والقوانين والمؤسسات وقواعد العمل، وتعزيز الهوية الوطنية والقومية.
لم تنشأ الثقافة الاستبدادية المعاصرة إذن كامتداد لثقافة الماضي وقيمه. كما انها لم ترتبط بأفكار الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية الحديثة التي ميزت الحقبة الأولى من حركة النهضة العربية. إنها بالأحرى ثمرة انحطاط النظم والسلطات ونماذج الحكم التي ورثتها، وسارت بها نحو طريق مسدود. هكذا أصبحت الوطنية التي كانت تنزع خلال فترة الاحتلال الأجنبي، وجزئيا بعد الاستقلال، إلى تطوير منظومة قيم مواطنية قائمة على المساواة والعدالة والادماج الوطني للطبقات الشعبية والفلاحية خاصة، وللأقليات الدينية والإتنية، أقول أصبحت تميل إلى التعبئة الشكلية والشوفينية ضد الأجنبي، وتخلق هي نفسها، كي تبرر وجودها وتعزز نفوذها، الأجنبى أو الغريب الداخلي، المتجسد في فئات إجتماعية مثقفة أو أقليات أو معارضات. وبالمثل، هكذا تحولت القومية التي كانت تميل إلى تنمية قيم التضامن والتعاون والتفاهم بين شعوب المنطقة المنتمية إلى ثقافة واحدة، وتوحيد مصيرها، إلى ذريعة لتبرير النزاع بين الزعامات الفارغة، والتغطية على إخفاق النخب والسقوط في المآزق التي قادت إليها سياساتها. وقد أصبح من الصعب جدا العثور اليوم على آثار الأفكار الليبرالية أو الديمقراطية أو القانونية في ايديولوجيات قومية ووطنية ضيعت جوهرها، وتحولت إلى وسائل للتلاعب بعواطف الجمهور وابتزاز القوى السياسية والنخب المنافسة بقصد تمديد البقاء في السلطة أو تبرير الوصول إليها.
وما يقال عن العقائديات الوطنية والقومية السائدة في المنطقة، يقال كذلك عن العقائديات الاسلاموية واليسارية المعارضة. فمن الصعب أن يستمد الفرد من نظريات الحاكمية الإلهية، ومطابقة الشريعة المراد تطبيقها مع القانون الوضعي، والتسليم بقيادة أمراء الدين الجدد من الشباب والفتيان، الذين نادرا ما توفرت لهم أصلا ثقافة دينية جدية وكافية، قيم ثقافة ديمقراطية أو حتى شبه ديمقراطية. إن القيم الحقيقية التي تجسدها معظم الحركات الاسلامية السياسية، حتى الآن على الأقل، مع بعض الاستثناءات الفردية، هي قيم التسليم لأمير الجماعة الذي يدعي أنه وحده الذي فهم الأمر الديني وتمثل متطلبات تحقيقه، وهذا ما يقود إلى قتل الفكر الشخصي والنقدي معا، والامتثال لسلطة تعتبر نفسها، حتى لو لم تجرؤ على التصريح العلني بذلك، سلطة دينية أو منسجمة انسجاما كبيرا مع متطلبات الدين. وفي هذه الحالة من المستحيل بناء مفهوم للمسؤولية الفردية لا بل الإنسانية، ومن باب أولى بناء نظام للمشاركة السياسية والتعبير الحر عن الرأي والمراقبة والمحاسبة والمساءلة العمومية. إن الثقافة السياسية التي بثتها معظم حركات الاسلام السياسي المتطرفة في العقود الثلاث الماضية، وهي مقلوب الايديولوجيات القومية المتفسخة الحاكمة ومثيلها، تقود لا محالة إلى تعزيز ثقافة التسليم لأولي الامر، السائدة أصلا منذ فترة طويلة لدى الجمهور العربي المهمش، والمبعد بالقوة عن مناقشة شؤون حياته العمومية، وإلى الهرب من المسؤولية والخضوع والاتكال على قوى تنظر لنفسها على أنها ملهمة أو استثنائية، لا تخضع لمراقبة الرأي العام ولا يمكنه التحكم في سلوكها.
وقد بينت تجربة البلدان الشيوعية الدارسة أن النظم السياسية التسلطية والشمولية التي تنزع إلى تقديس الاستقرار، وتخشى أي شكل من أشكال التغيير والتحول، تشجع على الفكر الامتثالي وتحث على الخضوع والطاعة. كما أن العنف الذي يرافق هذه النظم، وأزمة الشرعية الدائمة التي تميزها، تجعلان المجتمع يعيش في حالة من الحرب الدائمة، وتحرمانه من فرص إنضاج وتطوير مفاهيم سليمة للتعامل الاجتماعي وللسياسة والدولة معا. ولا شك أن القومية الشعبوية، التي سيطرت على الحياة السياسية العربية في العقود القليلة التي أعقبت الاستقلال، قد ساهمت في تأخير إدراك راهنية التفكير النظري والعقلي بمسائل تنظيم المجتمع والحياة السياسية، وكان لها أثر كبير في استلاب المجتمعات العربية للدولة، بقدر ما منعتها من فهم آليات عملها ومن السيطرة النظرية والعملية عليها. ولذلك ستبقى الدولة أجنبية، لا بمعنى أنها بضاعة غير عربية، ولكن بمعنى كونها خارجية بالنسبة للمجتمع وخارجة على إرادته، كما لو أن المجتمعات التي تكبدت مشقة الكفاح لأكثر من قرن من أجل بناء الدولة الحديثة وتوطينها قد أصبحت، بعد الاستقلال، رهينة هذه الدولة المستقلة وضحيتها معا. والحال أنها رهينة السلطة السالبة التي اختطفتها. ولا تهدف المزاودة بالوطنية التي أصبحت ايديولوجية سائدة، بل ثقافة سياسية بحد ذاتها، والمستخدمة بكثافة من قبل النخب الحاكمة، إلى شيء آخر سوى قطع الطريق على أي محاولة جدية لوضع مسألة التحكم بالدولة موضع البحث ومناقشة علاقتها بالمجتمع وبالأفراد الخاضعين لها. إنها لا ترمي إلا إلى تمديد أجل الاستلاب الراهن للدولة واستلاب الدولة نفسها للقوى الحاكمة، مع ما يعنيه ذلك من انعدام آفاق التأهيل السياسي للمجتمعات والبقاء في أفق الفوضى العقلية والسياسية وتحت تهديدهما الدائم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire