اتحاد 20 يونيو 07
طمست الحروب الخارجية، والنزاعات الطائفية والمذهبية، والصراعات اليومية على موارد السلطة ومناصبها التي فقدت مضامينها السياسية والاجتماعية، المسألة الرئيسية التي شكلت في تسعينيات القرن الماضي محور النقاش والعمل العام، وقادت إلى المصادمات الدموية بين القوى الاسلاموية والقوى العلمانية، الرسمية والأهلية، على مختلف مشاربها وتناقضاتها، وأعني بها إعادة بناء مفهوم الدولة الوطنية ومن ورائها الجماعة الوطنية. وكانت العقود القليلة السابقة قد شهدت تطورات أساسية حولت الدول المستقلة حديثا إلى ما يشبه الإقطاعات التي تتحكم بها نخب محلية فقدت المعايير السياسية وأصبحت تتصرف بها كما لو كانت ملكيات شخصية. وبعد الصراع السياسي الطويل والدامي حول نموذجين للسلطة المدنية والسلطة الدينية، أو المستمدة من الشريعة الدينية، أسفر عن العديد من الحروب الأهلية المدمرة هنا وهناك، دخلت معظم البلاد العربية منذ بداية الألفية الثالثة حقبة ثانية اتسمت بسيطرة النزاعات ذات الطبيعة الوطنية أو الخارجية. فأمام الهجوم السياسي ثم العسكري الكاسح الذي طورته إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، في سياق الحرب العالمية على الارهاب، وكرد على أحداث 11 سبتمبر 2001 أو استثمارها، غابت أجندة التغيير السياسي الداخلي لصالح أجندة المقاومة والممانعة، التي شاركت فيها الحكومات العربية بأساليبها الخاصة، كما شاركت فيها معظم قطاعات الرأي العام العربي المصدومة بالعدوانية الاستعمارية المنبعثة من رمادها. وها نحن ندخل اليوم، حقبة ثالثة لم تغب فيها أجندة التغيير السياسي الداخلي فحسب، بعد أن ألحقتها الإدارة الامريكية بأجندتها الاستعمارية الجديدة، تحت شعار دعم الديمقراطية، ولكن غابت الأجندة الوطنية أيضا. فلم يعد الجزء الأكبر من الجهد الجماعي، الفكري والمادي، يتجه إلى صد الهيمنة الأمريكية والغربية عموما، كما كان في الحقبة السابقة، ولكنه أصبح يصب إلى حد كبير في حساب أجندات خاصة، طائفية أو عشائرية أو مذهبية أو حزبية، بعيدة في أهدافها ومآلاتها المحتملة عن أي أجندة وطنية أو ديمقراطية، حتى لو أن هذه الاجندات لا تزال تحظى بقسط متفاوت القدر حسب البلدان، من هذا الجهد أو من التضحيات الكبرى الجماعية. هذا هو الجو الذي ميز الوضع في العراق منذ سنتين على الأقل، وكاد ينتقل إلى لبنان أو هو في طريقه إلى ذلك، وهو الذي يسم الوضع الحالي في فلسطين مع انهيار حكومة الوحدة الوطنية ونشوء ما يشبه الدولتين المنشقتين في غزة والضفة الغربية، من دون الحديث عن اليمن الذي يخوض غمار حرب غير معلنة داخلية وغيره من البلدان التي تعيش مناخ مواجهات عصبوية مماثلة. ولا يختلف الوضع عن ذلك، حتى في تلك البلدان التي بقيت تحتفظ إلى حد أو آخر بتماسكها السياسي. فهي تعيش الزمن السياسي العربي نفسه، وتتضارب عند رأيها العام أجندات الصراعات والنزاعات والمواجهات السياسية والوطنية والطائفية والمذهبية وتتداخل، إلى درجة ضياع الوعي والقدرة على التمييز والاختيار في المواقف والأفكار. بل إن تداخل الأجندات وترابط النزاعات قد وصل إلى مدى أضعف قدرة المحللين والمراقبين أنفسهم على التعرف على المشاكل المختلفة والفصل بينها، وتحديد النقطة التي يمكن من خلالها الدخول لنزع فتيل ما أصبح يشكل أزمة شاملة ومتكاملة، تقسم النخب وتطحن الشعوب.ليس هناك أي شك في أن السياسات الغربية عموما، والامريكية على وجه الخصوص، هي التي ساهمت بالقسط الأكبر في تشريك الحياة الوطنية وتدمير أسسها في هذه البلدان، بقدر ما قوضت جدلية تحولاتها الداخلية وأخضعتها لأجندتها الخاصة، المرتبطة أساسا بالحفاظ على مصالحها الحيوية، وإقفال المنطقة أمام أي احتمالات تطور يخرجها، جزئيا او كليا عن دائرة سيطرتها المباشرة، إن لم تكن الكلية. لكن ما كانت القوى الخارجية قادرة على فرض أجندتها علينا، وإدخالنا في شراك استراتيجياتها الدولية، لو لم تجد أمامها هياكل سياسية واجتماعية واقتصادية هشة، قابلة للاختراق والتسيير والاستتباع. لا يكمن مصدر هذه الهشاشة كما تدعي الطواقم الحاكمة عادة في قصور الشعوب والمجتمعات أو افتقارها للروح الوطنية، أو التقاليد والمعارف العصرية، وإنما بشكل أساسي في تقصير النخب الاجتماعية، والحاكمة منها بشكل خاص، في تبني سياسات جدية وفعالة لتجديد هذه الهياكل وتحديثها وتفعيل الإرادة والجهود الشعبية. فغياب إرادة الإصلاح، إن لم نقل رفض مبدئه، عند نخبنا العربية، ربما كان نقطة الاختلاف الرئيسية التي ميزت تجربتنا لحقبة ما بعد الحرب الباردة عن تجارب العديد من بلدان العالم النامي الأخرى. وهو ما أضعف موقفنا الاستراتيجي وقاد إلى نزاعات أهلية لا تنتهي وفتح الباب واسعا أمام تدخل القوى الأجنبية. ولعل العوامل ذاتها التي حرمت النخب المحلية من إدراك ضرورات الاصلاح هي نفسها التي شجعت قوى الهيمنة الدولية على الدخول على الخط، وفرض أجندتها الخارجية، وما تبعه من حرف الصراع الداخلي عن محوره الرئيسي، والتشويش على الوضع السياسي والفكري برمته. والمقصود من ذلك وفرة الموارد الريعية وسيطرتها على اقتصاد المنطقة ككل، وهي موارد جاهزة غير مرتبطة بعمل وإنتاج وبالتالي بحماية اجتماعية قوية. فكما أغرت هذه الموارد الاستثنائية بعض النخب المحلية بالاستمرار في الحكم بالطرق التقليدية، ودفعت البعض الآخر إلى التحول إلى وحوش ضارية لانتزاع حصة من هذه الموارد نفسها، أو لتأمينها من خلال ترييع الاقتصاد المحلي، على حساب المجتمعات وبالتضحية بها، دفعت قوى الهيمنة الدولية الطامعة فيها إلى استسهال عملية السطو عليها وانتزاعها، أو انتزاع الجزء الاكبر منها، على حساب النخب المحلية. ومع بروز السياسة الأمريكية الامبرطورية بإلهام المحافظين الجدد، تحول الصراع على السيطرة على هذه الموارد والموارد الإضافية الناجمة عن ترييع اقتصاد البلدان المجاورة، إلى محور أول تدور من حوله جميع الصراعات الأخرى، وحول المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة وشاملة. هكذا تزعزعت الأوضاع الشرق أوسطية، واختلطت المعارك الداخلية بالخارجية، والنزاعات السياسية بالنزاعات القومية، والطائفية بالوطنية، والدينية بالقبلية. فلم يعد أحد يستطيع تحديد أهداف واضحة، ولا غايات مفهومة لهذه الأطراف المتنازعة المتزايدة والمتداخلة، ولا واجبات ولا مسؤوليات. هكذا تضافرت أزمة القيادة السياسية المحلية مع أزمة القيادة الدولية، لإلغاء أي قواعد وغايات واضحة ومحددة لممارسة أي سلطة وتقييدها. وصار العنف، والتفوق في انتاجه واستخدامه وتصديره هو مبدأ الفعل وأساس العلاقات، داخل المجتمعات وفي ما بينها ومع القوى الخارجية أيضا. لا نستطيع أن نغير الأجندة الاستعمارية، ونمنع أصحابها من التخريب، لكن لا يستطيع أحد ن يمنعنا من بناء أجندة وطنية تثمن تضحياتنا وتمنع جهودنا الوطنية من أن تتحول إلى معارك داخلية ونزاعات أهلية. وأساس ذلك استئناف مشروع الاصلاح الوطني المعطل، الذي يشكل أيضا مدخلنا إلى الساحة الدولية وتثمين جهودنا في دائرة المقاومة العالمية المتنامية في مواجهة نظام السيطرة والحرب والاحتيال. وفي مقدمة هذا المشروع إصلاح نظام القيادة الاجتماعية الذي يحدد خيارات أي مجتمع مصيره. والمقصود نظام القواعد والآليات والغايات التي تحكم اتخاذ القرارات وتتحكم بتنفيذها، في أي مجتمع، سواء أكان ذلك على مستوى الدولة، وهو ما يتعلق بنظام السياسة وممارسة السلطة العمومية، أو على مستوى المجتمع، وهو ما يرتبط ببلورة الرؤى الاستراتيجية والاعتقادات السياسية والغايات الأخلاقية التي تتبلور من حولها وخلالها إرادة جامعة، جزئية أو شاملة، وتنشأ على أساسها القوى الاجتماعية والسياسية التي توحد إرادة الافراد وتوجه حركتهم وتحولهم إلى قوة فاعلة على مستوى الدولة والمجتمع معا. فهذا النظام الذي دخل في أزمة عميقة وأظهر فساده بعد إخفاق النماذج التسلطية، اليسارية واليمينية، التي ارتبطت بمناخ الحرب البادرة ومتطلباتها، يشكل اليوم نقطة الضعف الرئيسية في حياتنا العمومية، ومصدر كل أنواع الفساد وغياب الفاعلية وانعدام التراكم في المعرفة والخبرة الاجتماعية. وهو الذي يميز تجربة مجتمعاتنا عن التجارب التي عرفتها المجتمعات الأخرى في البلدان النامية، ويعزلنا عن العالم، ويجعل من بلادنا مسرحا مفتوحا لكل أنواع الحروب الداخلية والخارجية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire