يشكل الهجوم السياسي الواسع الذي نظمه حزب الله على حكومة الأغلبية المنبثقة من حركة أو انتفاضة 14 آذار، وفي صلبه تعزيز التحالف مع التيار الوطني الحر للجنرال ميشيل عون، الرد المباشر على نتائج الحرب الاسرائيلية التي شنت عليه في يوليو أغسطس الماضي. ومن الواضح أنه لا الهالة التي خرج بها الحزب من الصمود البطولي بالفعل أمام العدوان الاسرائيلي، ولا المدائح التي كيلت له من قبل الحكومة اللبنانية والرأي العام، كانا كافيين للتغطية على الحقيقة التي تفيد بان الانتصار العسكري المدوي لحزب الله لم يمنع إسرائيل في النهاية من تحقيق أحد أهداف حربها العدوانية الرئيسية، وهي كما ينص قرار مجلس الأمن 1701 نشر الجيش اللبناني في الجنوب، بعد رفض طويل من قبل حزب الله، وإقامة وضع قانوني وسياسي ضاغط على حزب الله وقضيته الرئيسية المتجسدة في الاحتفاظ بآلته العسكرية، بعد سد ذريعة المقاومة بإقفال الجبهة الجنوبية. ولم تخف هذه الخسارة السياسية عن قيادة حزب الله الذي أدرك أن اتجاه الأحداث يدفع في اتجاه تحييده في اللعبة الإقليمية، وتقويض الأسس السياسية والايديولوجية التي يقوم عليها تمسكه بسلاحه، وبالتالي حفاظه على وجوده المتميز، وتوسع نقوذه في الجنوب، داخل قاعدته الشيعية، وعلى مستوى الساحة الإقليمية أيضا.
لم يكن لدى الحزب، بسبب الضغوط الداخلية والإقليمة والدولية القوية، خيارات أخرى سوى القبول بهذه التسوية المتمثلة في تطبيق القرار 1701، والتي تشدد الحصار السياسي عليه، على أمل العودة عنها في أول فرصة سانحة. وقد جاءت هذه المناسبة مع تصميم دمشق في يوليو الماضي على تعطيل المحكمة الدولية التي قدمت الأمم المتحدة مشروعها إلى السلطة اللبنانية للتوقيع عليه.
بيد أن قرار خوض المعركة الحاسمة لم يكن ممكنا في مواجهة حكومة لبنانية منتخبة، تستند إلى قاعدة شعبية لا يمكن التشكيك فيها، وتحظى بدعم واسع على الصعيد العربي والدولي، من دون دخول دولة كايران، ذات قوة استراتيجية وموارد كبيرة ونفوذ واسع في لبنان أيضا، في صراع مع الولايات المتحدة التي تقود الحملة المناوئة لامتلاكها التقنية النووية. وهكذا التقت أجندة حزب الله الخاصة، التي تهدف إلى فك الحصار السياسي الذي يوشك أن يضرب عليه، مع أجندة النظام السوري الذي يخوض معركة بقائه أيضا من وراء معركة إسقاط المحكمة الدولية، مع أجندة الدولة الايرانية الهادفة إلى تأكيد حق طهران في النفوذ إلى أسرار التقنية النووية، لتجعل من لبنان مركز الحسم، وتقرر من وراء ذلك إعادة تشكيل خريطة القوة في المنطقة المشرقية، بعد انحسار النفوذ الأمريكي والغربي عموما. فهي بالتاكيد معركة ثلاثية الأبعاد، تحمل في حجرها ثلاث انقلابات لا انقلابا واحدا: الانقلاب على الوضع اللبناني الناشيء عن خروج الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الحريري، والانقلاب على الوضع الإقليمي الذي كرسه احتلال العراق من قبل التحالف الأمريكي البريطاني، ونتج عنه إحكام الخناق على النظام السوري ووضعه في عزلة شاملة، والانقلاب على الوضع الدولي الذي يقوم في ا لشرق الأوسط، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، على التسليم بالسيطرة الغربية والأمريكية منها بشكل خاص والتعامل معها كحقيقة واقعة، وعلى القبول بازدواجية المعايير التي تستند إليها ومن ضمنها تلك التي تسمح لاسرائيل بامتلاك السلاح النووي وترفض ذلك لجميع الدول الأخرى.
وهذا المضمون الملتبس للانقلاب الحاصل الذي يحمل في الوقت نفسه تغييرات ينظر إليها الرأي العام العربي والاسلامي نظرة متباينة، هو الذي يفسر الانقسام الذي يسم موقف الجمهور العربي واللبناني عموما مما يجري. فهو بقدر ما يشكل ردا على سياسة الغطرسة الأمريكية والاسرائيلية التي زعزعت استقرار المنطقة، وقادتها إلى الدمار، وحرمتها من فرص التحول السلمي السياسي والاجتماعي، يحمل في طياته أيضا مخاطر تكريس نماذج حكم مرعبة تجاوزها الزمن، حتى الزمن العربي والاسلامي، وفي مقدمها نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية والنظام السوري ونموذج السلطة السياسية الدينية. فهو انقلاب يجمع بين قيم الشهادة والمقاومة للهيمنة الأجنبية التي يجسدها حزب الله، والمصالح الخاصة الأكثر ضيقا وأنانية لنظام السلطة السورية، إلى جانب النزعة القومية الايرانية الجامحة المختبئة وراء النزعة المذهبية. ولا يمكن أن يخرج من هذا التحالف الغريب أي مشروع ايجابي قادر على أن يملأ فعلا الفراغ الذي يتركه، كما ذكرت انحسار، النفوذ الغربي. وعلى الأغلب لن يخرج من هذا الانقلاب سوى تكريس النفوذ الايراني الذي سيدفع لا محالة إلى تجييش عربي مقابل في مواجهته، أي إلى مواجهة حتمية عربية ايرانية، لا يمكن إلا أن تعزز تمسك الدول العربية المحافظة، وهي الأكثرية، بالحماية الأمريكية. باختصار، ليس انتصار محور إقليمي، وبالتالي تكريس سياسة المحاور، هو الاستثمار الأفضل لانهيار قوة الردع والصدقية الاستراتيجية الأمريكية. بل إن سياسة المحاور سوف تعطي لواشنطن والدول الأطلسية فرصة ثانية لإعادة ترتيب أوراقها، وإعادة بناء نفوذها عن طريق توجيه المحاور الإقليمية والتلاعب بها.
ليس خطأ الحكومة اللبنانية أنها قبلت بالقرار الدولي 1701 فلم يكن لديها خيار آخر سوى الاستقالة السياسية والأخلاقية وترك لبنان يواجه مصيره لوحده امام إسرائيل والدول الكبرى. والدليل أن حزب الله نفسه لم يجد بدا من قبول التسوية الدولية المفروضة لوقف الحرب الاسرائيلية. ولا يكمن خطأها أيضا في أنها أظهرت العداء للنظام السوري او الايراني، فهي لم تفعل شيئا من ذلك، بالرغم من التصريحات الاستفزازية لبعض قادة ما يسمى بقوى 14 آذار، لكن في أنها وجدت في موقع يشكل نقطة الضعف الرئيسية في الوضع الجديد الناشيء بعد تغيير الولايات المتحدة سياستها في الشرق الأوسط، وأن إزاحتها عن هذا الموقع لا يجسد نزوعا قويا لملء الفراغ الذي تركه انحسار القوة الأمريكي فحسب وإنما يقدم أكثر من ذلك فرصا جديدة لاستكمال التحالف الثلاثي بين الجمهورية الاسلامية والنظام السوري وحزب الله انقلابه، وتغيير خريطة توزيع القوة في المنطقة.
ومن هنا ليس هناك حل للأزمة بانتصار أي فريق على الآخر في لبنان. فكل انتصار هو افتتاح لحصار جديد واقتتال. لا حل للأزمة خارج إطار التفاهم السياسي، ليس بين الأطراف اللبنانية فحسب، ولكن على المستوى الإقليمي بين العرب والايرانيين المرتبطين اليوم ارتباطا عضويا بالقضايا المشرقية أيضا. فإما أن ينجح اللبنانيون في التوصل إلى تسوية تضمن الاستقرار والتفاهم الطويل المدى، وهو ما يقتضي فصل الأجندة الوطنية اللبنانية عن أجندة الدول الأخرى، وبالتالي، كشرط له، تفاهما عربيا ايرانيا موازيا، أو أن لبنان سيتحول إلى مسرح لاستعراض قوة الأطراف المتنازعة إقليميا ودوليا، ويكون المركز الرئيسي للمواجهات المستمرة التي ستشهدها المنطقة خلال العملية الطويلة لإعادة بناء التوازنات الإقليمية، على أثر انهيار الاستراتيجية الأمريكية. وهو ما يعني أن لبنان مهدد بأن يتحول إلى ساحة حرب دائمة، وأن اللبنانيين سيتحولون إلى أدوات في يد القوى الخارجية، و لن يكون لأي فئة منهم عندئذ أمل في السيطرة أو الحكم، لا كأغلبية ولا كأقلية، كما لن يكون هناك لا سلام ولا استقرار في لبنان.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire