الاتحاد 19 ديسمبر 06
منذ بضع سنوات فقط كان هناك إجماع على أن الاصلاح والتغيير هو الأجندة الرئيسية في المنطقة، وأن هذا الاصلاح، بما يتضمنه من تقويم الحياة السياسية وفصل السلطات الثلاث وتعزيز المشاركة الشعبية في الحكم، هو المدخل الحتمي لمكافحة الفساد وإطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية، وبالتالي من تحسين قدرة المجتمعات على مواجهة الأخطار الأمنية الناجمة عن تفاقم الضغوط الداخلية والخارجية. وحتى أولئك الذين كانت مصالحهم الاقتصادية والسياسية تدفعهم إلى الخوف من الاصلاح أو الوقوف ضده كانوا مضطرين إلى التكيف مع شعاره والحديث عن إصلاح يتقدم بوتيرة المجتمعات العربية أو ينبع منها.
ونظرة واحدة على ما يحصل في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من بلدان المشرق تكفي لإدراك التحول الذي حصل خلال أقل من سنة. فقد أصبح الإصلاح آخر هم يشغل الحكومات الغربية التي أعلنت عن تبنيها الكامل له في السنوات الماضية، ورصدت له الميزانيات وعقدت له العديد من المؤتمرات والمنتديات، ومن باب أولى الحكومات العربية التي وقفت جميعها تقريبا ضده باعتباره بدعة أجنبية، بل جميع قطاعات الرأي العام العربي التي فقدت أي أمل بتحسن الأوضاع، بما فيها المعيشية، ولم يعد يشغلها سوى الحفاظ على الأمن والاستقرار وتجنب الحروب الأهلية والإقليمية الدموية. وكما تهم الدبلوماسية الغربية اليون باستبدال هدف الحفاظ على الاستقرار بمشروع الديمقراطية الذي انتحلته في السنوات الماضية للتغطية على مشاريعها الهيمنية، وهو ما يشكل جوهر اقتراحات فريق بيكر الأمريكي لإخراج السياسة الأمريكية من ورطتها العراقية، يحتل القلق على المصير لدى الرأي العام العربي أكثر فأكثر محل الأمل في انتزاع الحرية والكرامة الانسانية. المحافظة على البقاء هي اليوم شعار الجمهور الملوع بدوامة الحروب الأهلية المندلعة أو التي تشتعل تحت الرماد، تماما كما أن الحفاظ على الصدقية الاستراتيجية وما تبقى من نفوذ هو الهدف الأول للدبلوماسية الأمريكية والاوروبية.
لا يرجع هذا التحول الكبير الذي قاد المنطقة من طريق التفاؤل والانطلاق نحو طريق اليأس والإحباط في أقل من سنتين لسبب واحد وحيد، ولكن لأسباب متعددة ومتشابكة. أولها من دون شك السياسات والاستراتيجيات الخاطئة التي طبقتها الولايات المتحدة في المنطقة قبل أن تصادق عليها في ما بعد البلدان الاوروبية، وكانت تهدف من ورائها إلى تعزيز مواقعها فيها وتحصينها ضد المنافسات الدولية الأجنبية. فقد أعادت هذه السياسات إلى الأذهان، كما لم تفعل أي سياسة أخرى عدوانية سابقة، صورة السياسات ووسائل العمل الاستعمارية التقليدية، وفجرت مشاعر العداء للغرب ولكل ما يمكن أن يرتبط به من قيم ورموز وأنماط حكم وإدارة مدنية. وبدل أن تساعد على تعزيز فرص تحديث النظم ونماذج الحياة الحديثة، كما ادعت أو افترضت من عملها هذا، أعطت للقوى المحافظة دفعة ما كانت تحلم بها ومكنتها من السيطرة الشاملة على الجمهور العربي، بعد أن كانت تعاني من أزمة حقيقية في مشروعها الخاص، واجبرت جمهور القوى الاسلامية والقومية المعتدل والمتنور على الالتحاق بأكثرها تطرفا وإعلان الولاء لها، عازلة بذلك القوى الديمقراطية التي كانت بالأصل قوى محدودة القوة والنفوذ معا.
لكن السياسات الغربية الحمقاء ليست وحدها المسؤولة عن انهيار الوضع المشرقي. فما كان لمثل هذا التطور أن يحصل لو قبلت الحكومات العربية أو معظمها بالحد الأدنى من الاصلاح في نظم الإدارة والحكم يفتح آفاقا فعلية لجمهور الشباب اليائس والقانط معا. والواقع أن أغلب هذه الحكومات لم تقف موقف المتفرج من مشروع الاصلاح ولكنها اعتبرت إحباطه وإفشاله هو جوهر المعركة الوطنية. وفي سبيل ذلك لم تتردد في العمل على محورين: تقويض أسسه الأخلاقية والسياسية بتحويله إلى مشروع أجنبي مفروض من الخارج وتجاهل الضغوط الداخلية القوية لتحقيقه، حتى في ما يتعلق بما يشكل جوهر أي سياسة وطنية، أعني محاربة الفساد المعمم ونهب مال الدولة وسوء الإدارة وفساد القضاء الواضح وتعطيل القانون وانفلات يد الأجهزة الأمنية من دون ضابط ولا رقيب. وهو ما قاد إلى تفاقم الفساد وسوء الإدارة وانهيار هيبة الدولة التي تحولت إلى ما يشبه العصابة المنظمة. أما المحور الثاني فهو إعلان النظم القائمة الحرب وما يشبه التعبئة العامة النفسية والدينية والقومية ضد قوى الاصلاح العربية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مشروع الاحتلال والسيطرة الأمريكية. ولم تتوان هذه النظم في سبيل تحقيق أهدافها عن العمل على محور تعبئة الأحقاد الطائفية، والمغامرة بتفجير المجتمع العراقي لإجبار الولايات المتحدة على التراجع ووقف الضغوط التي وجهتها للنظم العربية. وليس هناك مبالغة في القول إن النجاح كان من جانب هذه الحكومات العربية، ولو أن ما حصل كان على حساب وحدة الشعوب العربية واستقرارها ومستقبلها.
بيد أن ذلك لا يعني أن قوى التغيير الوليدة لا تتحمل هي أيضا قسطا من المسؤولية في ايصال الأوضاع المشرقية إلى ما وصلت إليه. فليس هناك شك، وهو ما كنت قد حذرت منه في أكثر من مناسبة، في أن قطاعا كبيرا منها قد خدع بشعارات الديمقراطية والاصلاح التي ازدحمت بها وسائل الإعلام وخطابات المسؤولين الغربيين، واعتقد الكثيرون عن حسن نية، من دون أن يخفف ذلك من عدائهم التقليدي والصحيح للهيمنة الأجنبية، بأن التغيير حاصل لا محالة، وبالتالي ليست هناك حاجة لتضييع الوقت في العمل الدؤوب والصابر على الأرض، وبذل الجهد اللازم والطويل لإحداث التغييرات الفكرية والسياسية الداخلية المطلوبة. ولعل هذا ما يفسر أيضا الضعف الذي أظهرته قوى التغيير في التكون والتبلور فكريا وسياسيا وتحقيق تحولات نوعية في ممارستها العملية. وهكذا بقيت هذه القوى مشتتة، تعيش حالة تنافس وتناحر مستمرين، وتفتقر لمنهاج عمل واضح وواحد في جميع الميادين. باختصار، إن مسؤولية القوى التغييرية تتجسد في إخفاقها في تجاوز نقاط ضعفها والتغلب على قصورها للارتقاء إلى مستوى التحديات المطروحة عليها. وكثير منها لا يزال أسير تصورات واستراتيجيات وشعارات وأفكار هي من تراث حقبة فاتت، ولم ينجح في التكيف مع الأوضاع الجديدة المتحولة، الخارجية والإقليمية والوطنية.
بعد أن انهار مشروع الاصلاح وانعدم الأمل بالخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها المجتمعات منذ عقود، حلقة تفاقم الفقر والبطالة والعزلة والتهميش والإحباط من كل نوع، لم يعد أمام الشعوب سوى المواجهة: مواجهة بعضها للبعض الآخر لتحقيق مكاسب وامتيازات وتقاسم منافع وموارد تتقلص أكثر فأكثر، لضمان شروط بقاء يزداد إشكالية يوما بعد يوم، ومواجهة مع خارج معاد متعدد الأوجه والحلقات، ثقافي وسياسي وعسكري واقتصادي واجتماعي، لا يزال، رغم الانهيار الكبير في مواقعه الاستراتيجية، يملك المفاتيح الأساسية لأي تحول بناء في عموم المنطقة. وهكذا تتقاطع الحروب الأهلية والحروب الوطنية، بقدر ما تنقسم الشعوب على نفسها، وتتضاءل فرص انخراطها في اقتصاد عصرها وحضارته، ويزداد بالتالي تهميشها وعزلها وضرب الحصار عليها، سواء أجاء ذلك باسم الحرب على الإرهاب أو الحرب ضد السيطرة الاستعمارية. وهو حصار مزدوج، مختار من قبل الحكومات المحلية ومفروض من قبل الدول الاستعمارية.
السؤال الذي يطرحه الجميع على أنفسهم اليوم هو التالي: إذا كان عدم التفاهم حول محتوى الاصلاح سبب اندلاع الصراع في السنوات القليلة الماضية بين النظم المحلية والدول الغربية الحامية لها، فهل يمهد التخلي عن مشروع الاصلاح بجميع أشكاله، كما تقترح ذلك أوساط كثيرة عربية وغربية، بعد أن أظهرت جميعها عجزها عن حسم المعركة لصالحها، إلى تفاهم جديد بين الأطراف المتنازعة، يعيد بناء الوضع الشرق أوسطي على أسس تضمن الاعتراف بدور أكبر للحكومات المحلية في تقرير مصيرها؟ وهل ينطوي مثل هذا الوضع على احتمالات أكثر لتنامي الفساد والعسف وسوء الإدارة والاستهتار بالرأي العام وتجيير الدولة ومواردها لصالح النخب الحاكمة، وبالتالي لتطوير سياسات أكثر امتهانا لكرامة الشعوب وحرياتها، أم أنه سيخلق فرصا أكبر لتحرر الشعوب وانعتاقها؟
الواقع المرئي المباشر يشير إلى أن هذا التفاهم سوف يتحقق على حساب الشعوب. لكن ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لمثل هذا التفاهم، إذا تحقق، حظ كبير في الحياة. بالعكس، كل الدلائل تشير إلى أن النظام العربي مثله مثل النظام الإقليمي الذي صاغه الغرب للمشرق العربي، هما وجهان لعملة واحدة. وأن كلاهما ينفقان، ولا سبيل لانقاذهما.
منذ بضع سنوات فقط كان هناك إجماع على أن الاصلاح والتغيير هو الأجندة الرئيسية في المنطقة، وأن هذا الاصلاح، بما يتضمنه من تقويم الحياة السياسية وفصل السلطات الثلاث وتعزيز المشاركة الشعبية في الحكم، هو المدخل الحتمي لمكافحة الفساد وإطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية، وبالتالي من تحسين قدرة المجتمعات على مواجهة الأخطار الأمنية الناجمة عن تفاقم الضغوط الداخلية والخارجية. وحتى أولئك الذين كانت مصالحهم الاقتصادية والسياسية تدفعهم إلى الخوف من الاصلاح أو الوقوف ضده كانوا مضطرين إلى التكيف مع شعاره والحديث عن إصلاح يتقدم بوتيرة المجتمعات العربية أو ينبع منها.
ونظرة واحدة على ما يحصل في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من بلدان المشرق تكفي لإدراك التحول الذي حصل خلال أقل من سنة. فقد أصبح الإصلاح آخر هم يشغل الحكومات الغربية التي أعلنت عن تبنيها الكامل له في السنوات الماضية، ورصدت له الميزانيات وعقدت له العديد من المؤتمرات والمنتديات، ومن باب أولى الحكومات العربية التي وقفت جميعها تقريبا ضده باعتباره بدعة أجنبية، بل جميع قطاعات الرأي العام العربي التي فقدت أي أمل بتحسن الأوضاع، بما فيها المعيشية، ولم يعد يشغلها سوى الحفاظ على الأمن والاستقرار وتجنب الحروب الأهلية والإقليمية الدموية. وكما تهم الدبلوماسية الغربية اليون باستبدال هدف الحفاظ على الاستقرار بمشروع الديمقراطية الذي انتحلته في السنوات الماضية للتغطية على مشاريعها الهيمنية، وهو ما يشكل جوهر اقتراحات فريق بيكر الأمريكي لإخراج السياسة الأمريكية من ورطتها العراقية، يحتل القلق على المصير لدى الرأي العام العربي أكثر فأكثر محل الأمل في انتزاع الحرية والكرامة الانسانية. المحافظة على البقاء هي اليوم شعار الجمهور الملوع بدوامة الحروب الأهلية المندلعة أو التي تشتعل تحت الرماد، تماما كما أن الحفاظ على الصدقية الاستراتيجية وما تبقى من نفوذ هو الهدف الأول للدبلوماسية الأمريكية والاوروبية.
لا يرجع هذا التحول الكبير الذي قاد المنطقة من طريق التفاؤل والانطلاق نحو طريق اليأس والإحباط في أقل من سنتين لسبب واحد وحيد، ولكن لأسباب متعددة ومتشابكة. أولها من دون شك السياسات والاستراتيجيات الخاطئة التي طبقتها الولايات المتحدة في المنطقة قبل أن تصادق عليها في ما بعد البلدان الاوروبية، وكانت تهدف من ورائها إلى تعزيز مواقعها فيها وتحصينها ضد المنافسات الدولية الأجنبية. فقد أعادت هذه السياسات إلى الأذهان، كما لم تفعل أي سياسة أخرى عدوانية سابقة، صورة السياسات ووسائل العمل الاستعمارية التقليدية، وفجرت مشاعر العداء للغرب ولكل ما يمكن أن يرتبط به من قيم ورموز وأنماط حكم وإدارة مدنية. وبدل أن تساعد على تعزيز فرص تحديث النظم ونماذج الحياة الحديثة، كما ادعت أو افترضت من عملها هذا، أعطت للقوى المحافظة دفعة ما كانت تحلم بها ومكنتها من السيطرة الشاملة على الجمهور العربي، بعد أن كانت تعاني من أزمة حقيقية في مشروعها الخاص، واجبرت جمهور القوى الاسلامية والقومية المعتدل والمتنور على الالتحاق بأكثرها تطرفا وإعلان الولاء لها، عازلة بذلك القوى الديمقراطية التي كانت بالأصل قوى محدودة القوة والنفوذ معا.
لكن السياسات الغربية الحمقاء ليست وحدها المسؤولة عن انهيار الوضع المشرقي. فما كان لمثل هذا التطور أن يحصل لو قبلت الحكومات العربية أو معظمها بالحد الأدنى من الاصلاح في نظم الإدارة والحكم يفتح آفاقا فعلية لجمهور الشباب اليائس والقانط معا. والواقع أن أغلب هذه الحكومات لم تقف موقف المتفرج من مشروع الاصلاح ولكنها اعتبرت إحباطه وإفشاله هو جوهر المعركة الوطنية. وفي سبيل ذلك لم تتردد في العمل على محورين: تقويض أسسه الأخلاقية والسياسية بتحويله إلى مشروع أجنبي مفروض من الخارج وتجاهل الضغوط الداخلية القوية لتحقيقه، حتى في ما يتعلق بما يشكل جوهر أي سياسة وطنية، أعني محاربة الفساد المعمم ونهب مال الدولة وسوء الإدارة وفساد القضاء الواضح وتعطيل القانون وانفلات يد الأجهزة الأمنية من دون ضابط ولا رقيب. وهو ما قاد إلى تفاقم الفساد وسوء الإدارة وانهيار هيبة الدولة التي تحولت إلى ما يشبه العصابة المنظمة. أما المحور الثاني فهو إعلان النظم القائمة الحرب وما يشبه التعبئة العامة النفسية والدينية والقومية ضد قوى الاصلاح العربية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مشروع الاحتلال والسيطرة الأمريكية. ولم تتوان هذه النظم في سبيل تحقيق أهدافها عن العمل على محور تعبئة الأحقاد الطائفية، والمغامرة بتفجير المجتمع العراقي لإجبار الولايات المتحدة على التراجع ووقف الضغوط التي وجهتها للنظم العربية. وليس هناك مبالغة في القول إن النجاح كان من جانب هذه الحكومات العربية، ولو أن ما حصل كان على حساب وحدة الشعوب العربية واستقرارها ومستقبلها.
بيد أن ذلك لا يعني أن قوى التغيير الوليدة لا تتحمل هي أيضا قسطا من المسؤولية في ايصال الأوضاع المشرقية إلى ما وصلت إليه. فليس هناك شك، وهو ما كنت قد حذرت منه في أكثر من مناسبة، في أن قطاعا كبيرا منها قد خدع بشعارات الديمقراطية والاصلاح التي ازدحمت بها وسائل الإعلام وخطابات المسؤولين الغربيين، واعتقد الكثيرون عن حسن نية، من دون أن يخفف ذلك من عدائهم التقليدي والصحيح للهيمنة الأجنبية، بأن التغيير حاصل لا محالة، وبالتالي ليست هناك حاجة لتضييع الوقت في العمل الدؤوب والصابر على الأرض، وبذل الجهد اللازم والطويل لإحداث التغييرات الفكرية والسياسية الداخلية المطلوبة. ولعل هذا ما يفسر أيضا الضعف الذي أظهرته قوى التغيير في التكون والتبلور فكريا وسياسيا وتحقيق تحولات نوعية في ممارستها العملية. وهكذا بقيت هذه القوى مشتتة، تعيش حالة تنافس وتناحر مستمرين، وتفتقر لمنهاج عمل واضح وواحد في جميع الميادين. باختصار، إن مسؤولية القوى التغييرية تتجسد في إخفاقها في تجاوز نقاط ضعفها والتغلب على قصورها للارتقاء إلى مستوى التحديات المطروحة عليها. وكثير منها لا يزال أسير تصورات واستراتيجيات وشعارات وأفكار هي من تراث حقبة فاتت، ولم ينجح في التكيف مع الأوضاع الجديدة المتحولة، الخارجية والإقليمية والوطنية.
بعد أن انهار مشروع الاصلاح وانعدم الأمل بالخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها المجتمعات منذ عقود، حلقة تفاقم الفقر والبطالة والعزلة والتهميش والإحباط من كل نوع، لم يعد أمام الشعوب سوى المواجهة: مواجهة بعضها للبعض الآخر لتحقيق مكاسب وامتيازات وتقاسم منافع وموارد تتقلص أكثر فأكثر، لضمان شروط بقاء يزداد إشكالية يوما بعد يوم، ومواجهة مع خارج معاد متعدد الأوجه والحلقات، ثقافي وسياسي وعسكري واقتصادي واجتماعي، لا يزال، رغم الانهيار الكبير في مواقعه الاستراتيجية، يملك المفاتيح الأساسية لأي تحول بناء في عموم المنطقة. وهكذا تتقاطع الحروب الأهلية والحروب الوطنية، بقدر ما تنقسم الشعوب على نفسها، وتتضاءل فرص انخراطها في اقتصاد عصرها وحضارته، ويزداد بالتالي تهميشها وعزلها وضرب الحصار عليها، سواء أجاء ذلك باسم الحرب على الإرهاب أو الحرب ضد السيطرة الاستعمارية. وهو حصار مزدوج، مختار من قبل الحكومات المحلية ومفروض من قبل الدول الاستعمارية.
السؤال الذي يطرحه الجميع على أنفسهم اليوم هو التالي: إذا كان عدم التفاهم حول محتوى الاصلاح سبب اندلاع الصراع في السنوات القليلة الماضية بين النظم المحلية والدول الغربية الحامية لها، فهل يمهد التخلي عن مشروع الاصلاح بجميع أشكاله، كما تقترح ذلك أوساط كثيرة عربية وغربية، بعد أن أظهرت جميعها عجزها عن حسم المعركة لصالحها، إلى تفاهم جديد بين الأطراف المتنازعة، يعيد بناء الوضع الشرق أوسطي على أسس تضمن الاعتراف بدور أكبر للحكومات المحلية في تقرير مصيرها؟ وهل ينطوي مثل هذا الوضع على احتمالات أكثر لتنامي الفساد والعسف وسوء الإدارة والاستهتار بالرأي العام وتجيير الدولة ومواردها لصالح النخب الحاكمة، وبالتالي لتطوير سياسات أكثر امتهانا لكرامة الشعوب وحرياتها، أم أنه سيخلق فرصا أكبر لتحرر الشعوب وانعتاقها؟
الواقع المرئي المباشر يشير إلى أن هذا التفاهم سوف يتحقق على حساب الشعوب. لكن ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لمثل هذا التفاهم، إذا تحقق، حظ كبير في الحياة. بالعكس، كل الدلائل تشير إلى أن النظام العربي مثله مثل النظام الإقليمي الذي صاغه الغرب للمشرق العربي، هما وجهان لعملة واحدة. وأن كلاهما ينفقان، ولا سبيل لانقاذهما.