الجزيرة نت 16 أبريل 2006
بعد أن فقدت السيطرة على مصيرها، تعيش المنطقة العربية، وأخص منها المشرق العربي، حربا حقيقية تهدف إلى إخضاعها وتطويعها لقبول أجندة السيطرة الأمريكية الاسرائيلة. كما تتحول إلى مسرح رئيسي لحروب إقليمية وعالمية جديدة، يقدم النزاع الايراني الأطلسي والحرب ضد الارهاب، كجزء من استراتيجية مقاومة الصعود التاريخي للكتلة الآسيوية، أمثلة راهنة عنها. وهي تعيش في موازاة هذه الحرب حربها او حروبها الخاصة المرتبطة بإعادة بناء موازين السلطة والثروة في مجتمعات تعرضت خلال أكثر من نصف قرن إلى اجتثاث عميق لجذور وعيها الوطني والإنساني، على يد أنظمة قهر ظلامية متوحشة فاقدة لأي شعور بالمسؤولية الوطنية أو الانسانية. وفي مناخ الحرب المتعددة الأشكال هذه يتنافس بديلان فكريان وسياسيان معا على اكتساب ولاء الجمهور العريض الضائع وتعبئته وتنظيمه. البديل السياسي الذي تمثله أحزاب المعارضة الديمقراطية الصغيرة، أو تلك التي تحولت وتتحول بالضرورة نحو الديمقراطية، بوصفها القاعدة الفكرية والقانونية التي لا غنى عنها لإعادة بناء السياسة ذاتها وممارستها معا. والبديل التعبوي الاسلاموي القوموي أو الاثنين معا، الذي تعبر عنه مجموعة واسعة من الحركات والتيارات والمواقف والتشكيلات الدينية والقومية أو ، اليوم، الدينية القومية أو شبه الدينية التي تعكس فقدان الامل بإعادة بناء الدولة السياسية الحديثة وتراهن على إحياء الروابط التقليدية القائمة على تعبئة العصبية الجمعية، الدينية أو الثقافية أو كليهما.
ويعتمد كل متنافس منهما على ترسانة من المفاهيم والشعارات والقيم والمطالب التي يأمل أن تمكنه من الفوز بعقول الناس وقلوبهم لتطبيق أجندة يعتقد انها هي القادرة على تحقيق أهداف المجتمعات العربية أو الاسلامية أو العربية الاسلامية. لكن بينما يجعل الطرف الأول من إطلاق عملية التنمية، واستكمال تحديث المجتمعات العربية وإدراجها في العصر، البند الأول في المسيرة الطويلة التي ينبغي أن تمر حتما اليوم بتحقيق الديمقراطية وتحرير المجتمعات العربية من نير الاستبداد العقيم والمجمد والمضيع للجهد الوطني، تركز القوى الإسلاموية والقوموية على مسائل الهوية الخاصة والخصوصية كما تتمسك بشكل قوي بقيم الاستقلال والسيادة الكاملتين كما ولدتا في الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية.
وإذا كانت هذه القيم المختلفة التي يعبر عنها كلا التيارين محط إجماع لدى الرأي العام العربي، سواء ما تعلق منها بالقضاء على الاستبداد، وما قاد إليه من تعسف وفساد وانحطاط، أو ما ارتبط منها برفض الاستلاب والتمسك بالهوية الوطنية والدينية والقومية، إلا أن الخلاف يبرز عندما يتعلق الأمر بالممارسة العملية. فما يبدو محط إجماع على مستوى الوعي الثقافي العام يصبح في الممارسة مجال انقسام بقدر ما تطرح الممارسة مسألة الأولويات ويضطر كل طرف من المتنافسين إلى تقديم قيمة على قيمة أخرى. ومن الواضح أن قطاعات الرأي العام ليست متفقة على المكانة التي تحتلها كل واحدة من هذه القيم ولا على الأهمية التي تعطيها لهذه القيمة أو تلك. فالتيارات الحداثية التي ترى في الديمقراطية اليوم مدخلا لا محيد عنه للارتقاء بالمجتمعات العربية إلى مستوى التحديات التاريخية وتأمين شروط الالتحاق بالثورة العلمية والتقنية، أي للبقاء في التاريخ المعاصر، تظهر حساسية أقل تجاه مسائل تتعلق بالهوية والخصوصية والسيادة والاستقلال، أو ربما نظرت بطريقة أخرى إلى مضمون هذه المسائل الأخيرة وكيفية تلبيتها تأخذ بالاعتبار تحول حقل العلاقات الدولية وتطور وسائل التفاعل والتواصل بين الجماعات البشرية عبر الدول ومن وراء حدودها السياسية. وبالعكس تنظر الأطراف الاسلامية والقومية، بصرف النظر عن مضمون أفكارها والقومية التي تتعلق بها، عربية أو محلية، إلى مسألة الحفاظ على الاستقلال والسيادة، حتى عندما يتعلق الأمر بالمظاهر، نظرة خاصة وتطابق بينها وبين الدفاع عن الهوية، بقدر ما تنظر إلى الهوية من منظور الخصوصية وتجعل منها أساسا لتمييز الذات عن الآخر، لا التميز في دائرة حضارة واحدة. وتبدو قيم الاستقلال والسيادة هنا مرتبطة ارتباطا عضويا بالحفاظ على علامات التمايز الثقافية والدينية والابتعاد عن كل ما يمكن أن يشوش على هذا التمايز والتباين أو يضعف إرادة المقاومة الداخلية.
بهذا المعنى يشكل الحفاظ على الهوية والأصالة عند هؤلاء القيمة الأساسية والمعيار الذي ينبغي أن تخضع له قيم الديمقراطية والاندراج في الحضارة العصرية. فإذا كان الدفاع عن الهوية يستدعي الحد من الحريات أو تأجيل التفاهم مع الدول الصناعية أو الوقوف في وجهها، فلا مانع من الاستبداد ولا من القطيعة مع العالم الخارجي. وهذا ما يفسر الالتقاء المتزايد بين بقايا القوى ا لقومية العربية الكلاسيكية والقوى الاسلامية الجديدة، بعد أن دفع إخفاق الحركة القومية العربية في بناء وطن عربي قوي وحديث منظري هذه ا لقومية إلى الإنكفاء على عنصر الهوية والاستقلال كمرجع وحيد او رئيسي لها.
في هذا التنافس المستمر منذ عقود على إعادة بناء الوضع العربي والترتيبات الداخلية بين الأجندة الديمقراطية والأجندة القومية الاسلامية، أي بين أجندة سياسية الطابع وبالتالي علمانية وبين أجندة ايديولوجية ثقافوية، تظل القوى صاحبة الخيار السياسي هي الأضعف حتى الآن من دون نقاش. فإلى جانب أن الأجندة السياسية تواجه تحديات كبيرة ومصاعب لا تحصى بسبب التاريخ الطويل للاستبداد وما نجم عنه من تدهور وعي المواطنين السياسي وما يرافقه من استقالة سياسية وأخلاقية ومن ترسخ التفاهم بين الفئات الحاكمة وقوى الهيمنة الدولية، تغذي الحرب والضغوط المستمرة التي تمارسها الدول الكبرى اليوم على المجتمعات العربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الامريكية، في فلسطين والعراق وبقية بلدان المشرق العربي، مشاعر العداء للغرب وسياساته الاستعمارية. وهو ما يعزز قيم المقاومة ويضاعف من فرص قوى القومية الاسلامية، التي تراهن على تعبئة مشاعر المقاومة، لتعزيز مواقعها.
هذا ما يفسر الصعوبة التي تواجهها قوى الأجندة الديمقراطية في التقدم على الأرض بالرغم من تنامي الإجماع ضد الاستبداد والايمان المتزايد بالنماذج الديمقراطية حتى في أوساط الحركات الاسلامية والقومية. ومع استمرار السياسات الكارثية للتحالف الأطلسي في المنطقة، أي مع استمرار الحرب الكامنة أو المعلنة التي يشنها مباشرة أو بالوكالة على الشعوب العربية المشرقية، وتضاؤل الآمال بالمستقبل يزيد ميل الرأي العام إلى التكور على النفس والانكفاء والانغلاق، وربما أيضا التعايش مع نموذج الحكم الاستبدادي نفسه الذي ينشر نوعا من الأمان الكاذب، بما يخفيه من التناقضات الداخلية وما يقدمه من صورة الوحدة الجامعة التي توحي بالأمان والاطمئنان في وجه العدوان. فلا يوفر الاستبداد على كل فرد مواجهة مسؤولياتها الخاصة في الوصول إلى المأزق الراهن وفي تغييره فحسب بإلقائها على القيادة التي تحتكر كل المسؤوليات ولكنه يوفر للفرد إمكانية التماهي الآلي مع المجموع وبالتالي الهرب من القلق والمخاوف التي يثيرها التهديد الخارجي والعدوان. وكما يشكل الاستبداد مظهرا من مظاهر انسداد الآفاق وغياب الفرص التاريخية عند المجتمعات، تشكل الديمقراطية مظهرا من مظاهر تصاعد الآمال وفرص التقدم التاريخي والازدهار. بل هي تعبير عن الجانب السياسي والفكري والنفسي من هذا الازدهار والتقدم الشامل. ففي كل مرة تغيب فيها الفرص وتتضاءل الآمال تميل الجماعات، في كل مكان وزمان، إلى أن تدفن رأسها في رمال الاستقالة التاريخية والارتهان للطبيعة، وتنمو العصبيات القبلية والطائفية والاستبداد. وإذا لم تتغير السياسات الغربية المتعلقة بالمنطقة، ولم تنجح النخب العربية في بناء قوى فكرية وسياسية قادرة على تثبيت أقدام المجتمعات وإخراجها من الطريق المسدود الذي تعيش فيه منذ سنوات طويلة، فلن يكون هناك مخرج من الازمة، وسوف تغرق المنطقة لعقود قادمة في حروب داخلية وخارجية، طائفية واستراتيجية، من الصعب ضبطها أو التحكم بها أو إنهاؤها.
من هنا تقع مسؤوليات كبيرة في اعتقادي على المثقفين والنخب العربية في سبيل توضيح المفاهيم ورسم طريق الخروج من الأزمة الطاحنة التي تعيشها المجتمعات. تلك النخب المتمسكة بأجندة الحرب القومية الاستقلالية الاسلامية أو العروبية، والأخرى المنادية بالديمقراطية والدخول في عصر الحضارة العلمية والتقنية. ومن دون الوصول إلى تفاهم حول أجندة العمل للسنوات القادمة سوف تستمر الحرب السياسية الفكرية العربية داخل كل مجتمع وعلى مستوى المجتمعات العربية كافة، موازية للحرب الخارجية العربية الغربية، وبديلا عنها أحيانا، او مكملة لها. ولن نصل إلى أي نتيجة سوى استكمال دمار المجتمعات واستنزافها ماديا ومعنويا.
هل هناك بالفعل مقاومة أو ممانعة تشكل أساس ثورة قومية إسلامية ممكنة، تحفظ الهوية وتصون السيادة والاستقلال، بصرف النظر عن مسائل الديمقراطية والتحديث أو بالانفصال عنهما؟ وهل هناك إمكانية لبناء ديمقراطية ومشروع تحديث عربي وطني أو قومي، مع انعدام حد أدنى من هامش المبادرة والاستقلال والسيادة الإقليمية؟ باختصار كيف يمكن الجميع والتوفيق بين أجندة التحولات الديمقراطية وما تستدعيه من تفاهم مع القوى الدولية الكبرى التي تسيطر على مصادر العلم والتقنية والرأسمال والقوة الاستراتيجية في العالم، وأجندة الحفاظ على الهوية والسيادة والاستقلال مع استمرار التمزق والتشرذم والاقتتال الداخلي وغياب أي فاعلية ذاتية. في الاجابة على هذين السؤالين يكمن الحل والخروج من المأزق الجماعي التاريخي الذي نحن فيه.
بعد أن فقدت السيطرة على مصيرها، تعيش المنطقة العربية، وأخص منها المشرق العربي، حربا حقيقية تهدف إلى إخضاعها وتطويعها لقبول أجندة السيطرة الأمريكية الاسرائيلة. كما تتحول إلى مسرح رئيسي لحروب إقليمية وعالمية جديدة، يقدم النزاع الايراني الأطلسي والحرب ضد الارهاب، كجزء من استراتيجية مقاومة الصعود التاريخي للكتلة الآسيوية، أمثلة راهنة عنها. وهي تعيش في موازاة هذه الحرب حربها او حروبها الخاصة المرتبطة بإعادة بناء موازين السلطة والثروة في مجتمعات تعرضت خلال أكثر من نصف قرن إلى اجتثاث عميق لجذور وعيها الوطني والإنساني، على يد أنظمة قهر ظلامية متوحشة فاقدة لأي شعور بالمسؤولية الوطنية أو الانسانية. وفي مناخ الحرب المتعددة الأشكال هذه يتنافس بديلان فكريان وسياسيان معا على اكتساب ولاء الجمهور العريض الضائع وتعبئته وتنظيمه. البديل السياسي الذي تمثله أحزاب المعارضة الديمقراطية الصغيرة، أو تلك التي تحولت وتتحول بالضرورة نحو الديمقراطية، بوصفها القاعدة الفكرية والقانونية التي لا غنى عنها لإعادة بناء السياسة ذاتها وممارستها معا. والبديل التعبوي الاسلاموي القوموي أو الاثنين معا، الذي تعبر عنه مجموعة واسعة من الحركات والتيارات والمواقف والتشكيلات الدينية والقومية أو ، اليوم، الدينية القومية أو شبه الدينية التي تعكس فقدان الامل بإعادة بناء الدولة السياسية الحديثة وتراهن على إحياء الروابط التقليدية القائمة على تعبئة العصبية الجمعية، الدينية أو الثقافية أو كليهما.
ويعتمد كل متنافس منهما على ترسانة من المفاهيم والشعارات والقيم والمطالب التي يأمل أن تمكنه من الفوز بعقول الناس وقلوبهم لتطبيق أجندة يعتقد انها هي القادرة على تحقيق أهداف المجتمعات العربية أو الاسلامية أو العربية الاسلامية. لكن بينما يجعل الطرف الأول من إطلاق عملية التنمية، واستكمال تحديث المجتمعات العربية وإدراجها في العصر، البند الأول في المسيرة الطويلة التي ينبغي أن تمر حتما اليوم بتحقيق الديمقراطية وتحرير المجتمعات العربية من نير الاستبداد العقيم والمجمد والمضيع للجهد الوطني، تركز القوى الإسلاموية والقوموية على مسائل الهوية الخاصة والخصوصية كما تتمسك بشكل قوي بقيم الاستقلال والسيادة الكاملتين كما ولدتا في الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية.
وإذا كانت هذه القيم المختلفة التي يعبر عنها كلا التيارين محط إجماع لدى الرأي العام العربي، سواء ما تعلق منها بالقضاء على الاستبداد، وما قاد إليه من تعسف وفساد وانحطاط، أو ما ارتبط منها برفض الاستلاب والتمسك بالهوية الوطنية والدينية والقومية، إلا أن الخلاف يبرز عندما يتعلق الأمر بالممارسة العملية. فما يبدو محط إجماع على مستوى الوعي الثقافي العام يصبح في الممارسة مجال انقسام بقدر ما تطرح الممارسة مسألة الأولويات ويضطر كل طرف من المتنافسين إلى تقديم قيمة على قيمة أخرى. ومن الواضح أن قطاعات الرأي العام ليست متفقة على المكانة التي تحتلها كل واحدة من هذه القيم ولا على الأهمية التي تعطيها لهذه القيمة أو تلك. فالتيارات الحداثية التي ترى في الديمقراطية اليوم مدخلا لا محيد عنه للارتقاء بالمجتمعات العربية إلى مستوى التحديات التاريخية وتأمين شروط الالتحاق بالثورة العلمية والتقنية، أي للبقاء في التاريخ المعاصر، تظهر حساسية أقل تجاه مسائل تتعلق بالهوية والخصوصية والسيادة والاستقلال، أو ربما نظرت بطريقة أخرى إلى مضمون هذه المسائل الأخيرة وكيفية تلبيتها تأخذ بالاعتبار تحول حقل العلاقات الدولية وتطور وسائل التفاعل والتواصل بين الجماعات البشرية عبر الدول ومن وراء حدودها السياسية. وبالعكس تنظر الأطراف الاسلامية والقومية، بصرف النظر عن مضمون أفكارها والقومية التي تتعلق بها، عربية أو محلية، إلى مسألة الحفاظ على الاستقلال والسيادة، حتى عندما يتعلق الأمر بالمظاهر، نظرة خاصة وتطابق بينها وبين الدفاع عن الهوية، بقدر ما تنظر إلى الهوية من منظور الخصوصية وتجعل منها أساسا لتمييز الذات عن الآخر، لا التميز في دائرة حضارة واحدة. وتبدو قيم الاستقلال والسيادة هنا مرتبطة ارتباطا عضويا بالحفاظ على علامات التمايز الثقافية والدينية والابتعاد عن كل ما يمكن أن يشوش على هذا التمايز والتباين أو يضعف إرادة المقاومة الداخلية.
بهذا المعنى يشكل الحفاظ على الهوية والأصالة عند هؤلاء القيمة الأساسية والمعيار الذي ينبغي أن تخضع له قيم الديمقراطية والاندراج في الحضارة العصرية. فإذا كان الدفاع عن الهوية يستدعي الحد من الحريات أو تأجيل التفاهم مع الدول الصناعية أو الوقوف في وجهها، فلا مانع من الاستبداد ولا من القطيعة مع العالم الخارجي. وهذا ما يفسر الالتقاء المتزايد بين بقايا القوى ا لقومية العربية الكلاسيكية والقوى الاسلامية الجديدة، بعد أن دفع إخفاق الحركة القومية العربية في بناء وطن عربي قوي وحديث منظري هذه ا لقومية إلى الإنكفاء على عنصر الهوية والاستقلال كمرجع وحيد او رئيسي لها.
في هذا التنافس المستمر منذ عقود على إعادة بناء الوضع العربي والترتيبات الداخلية بين الأجندة الديمقراطية والأجندة القومية الاسلامية، أي بين أجندة سياسية الطابع وبالتالي علمانية وبين أجندة ايديولوجية ثقافوية، تظل القوى صاحبة الخيار السياسي هي الأضعف حتى الآن من دون نقاش. فإلى جانب أن الأجندة السياسية تواجه تحديات كبيرة ومصاعب لا تحصى بسبب التاريخ الطويل للاستبداد وما نجم عنه من تدهور وعي المواطنين السياسي وما يرافقه من استقالة سياسية وأخلاقية ومن ترسخ التفاهم بين الفئات الحاكمة وقوى الهيمنة الدولية، تغذي الحرب والضغوط المستمرة التي تمارسها الدول الكبرى اليوم على المجتمعات العربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الامريكية، في فلسطين والعراق وبقية بلدان المشرق العربي، مشاعر العداء للغرب وسياساته الاستعمارية. وهو ما يعزز قيم المقاومة ويضاعف من فرص قوى القومية الاسلامية، التي تراهن على تعبئة مشاعر المقاومة، لتعزيز مواقعها.
هذا ما يفسر الصعوبة التي تواجهها قوى الأجندة الديمقراطية في التقدم على الأرض بالرغم من تنامي الإجماع ضد الاستبداد والايمان المتزايد بالنماذج الديمقراطية حتى في أوساط الحركات الاسلامية والقومية. ومع استمرار السياسات الكارثية للتحالف الأطلسي في المنطقة، أي مع استمرار الحرب الكامنة أو المعلنة التي يشنها مباشرة أو بالوكالة على الشعوب العربية المشرقية، وتضاؤل الآمال بالمستقبل يزيد ميل الرأي العام إلى التكور على النفس والانكفاء والانغلاق، وربما أيضا التعايش مع نموذج الحكم الاستبدادي نفسه الذي ينشر نوعا من الأمان الكاذب، بما يخفيه من التناقضات الداخلية وما يقدمه من صورة الوحدة الجامعة التي توحي بالأمان والاطمئنان في وجه العدوان. فلا يوفر الاستبداد على كل فرد مواجهة مسؤولياتها الخاصة في الوصول إلى المأزق الراهن وفي تغييره فحسب بإلقائها على القيادة التي تحتكر كل المسؤوليات ولكنه يوفر للفرد إمكانية التماهي الآلي مع المجموع وبالتالي الهرب من القلق والمخاوف التي يثيرها التهديد الخارجي والعدوان. وكما يشكل الاستبداد مظهرا من مظاهر انسداد الآفاق وغياب الفرص التاريخية عند المجتمعات، تشكل الديمقراطية مظهرا من مظاهر تصاعد الآمال وفرص التقدم التاريخي والازدهار. بل هي تعبير عن الجانب السياسي والفكري والنفسي من هذا الازدهار والتقدم الشامل. ففي كل مرة تغيب فيها الفرص وتتضاءل الآمال تميل الجماعات، في كل مكان وزمان، إلى أن تدفن رأسها في رمال الاستقالة التاريخية والارتهان للطبيعة، وتنمو العصبيات القبلية والطائفية والاستبداد. وإذا لم تتغير السياسات الغربية المتعلقة بالمنطقة، ولم تنجح النخب العربية في بناء قوى فكرية وسياسية قادرة على تثبيت أقدام المجتمعات وإخراجها من الطريق المسدود الذي تعيش فيه منذ سنوات طويلة، فلن يكون هناك مخرج من الازمة، وسوف تغرق المنطقة لعقود قادمة في حروب داخلية وخارجية، طائفية واستراتيجية، من الصعب ضبطها أو التحكم بها أو إنهاؤها.
من هنا تقع مسؤوليات كبيرة في اعتقادي على المثقفين والنخب العربية في سبيل توضيح المفاهيم ورسم طريق الخروج من الأزمة الطاحنة التي تعيشها المجتمعات. تلك النخب المتمسكة بأجندة الحرب القومية الاستقلالية الاسلامية أو العروبية، والأخرى المنادية بالديمقراطية والدخول في عصر الحضارة العلمية والتقنية. ومن دون الوصول إلى تفاهم حول أجندة العمل للسنوات القادمة سوف تستمر الحرب السياسية الفكرية العربية داخل كل مجتمع وعلى مستوى المجتمعات العربية كافة، موازية للحرب الخارجية العربية الغربية، وبديلا عنها أحيانا، او مكملة لها. ولن نصل إلى أي نتيجة سوى استكمال دمار المجتمعات واستنزافها ماديا ومعنويا.
هل هناك بالفعل مقاومة أو ممانعة تشكل أساس ثورة قومية إسلامية ممكنة، تحفظ الهوية وتصون السيادة والاستقلال، بصرف النظر عن مسائل الديمقراطية والتحديث أو بالانفصال عنهما؟ وهل هناك إمكانية لبناء ديمقراطية ومشروع تحديث عربي وطني أو قومي، مع انعدام حد أدنى من هامش المبادرة والاستقلال والسيادة الإقليمية؟ باختصار كيف يمكن الجميع والتوفيق بين أجندة التحولات الديمقراطية وما تستدعيه من تفاهم مع القوى الدولية الكبرى التي تسيطر على مصادر العلم والتقنية والرأسمال والقوة الاستراتيجية في العالم، وأجندة الحفاظ على الهوية والسيادة والاستقلال مع استمرار التمزق والتشرذم والاقتتال الداخلي وغياب أي فاعلية ذاتية. في الاجابة على هذين السؤالين يكمن الحل والخروج من المأزق الجماعي التاريخي الذي نحن فيه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire