الاتحاد1 مارس 2006
" كنا دوما حذرين في طرح مواقفنا وآرائنا تجاه ما يجري في الوطن، من تغييب للحريات والديمقراطية والفساد وتغييب المواطن والمواطنية. لكننا أدركنا، وتحديدا بعد أن استشهد أحد رفاقنا، هايل أبو زيد، بعد قضاء عشرين عاما في الأسر، أدركنا عمق الصلة والارتباط بين فقداننا لحريتنا داخل الأسر وفقدان المواطن لحريته في الشام وعالمنا العربي عموما. نحن نرى اليوم هذه الأوطان سجونا ليست أقل من سجننا، فإذا كان سجننا المادي، والاحتلال في الجولان قسم العزل في هذا السجن الكبير، فإن أوطاننا العربية هي سجون تقتل كل إمكانية تحررنا من هذا العزل عن الوطن الأم. لقد أدركنا بأن أكبر توازن استراتيجي يمكن أن نحققه كدول عربية هو منح المواطن حريته وحقه في ممارسة الديمقراطية".
لم تأت هذه العبارات من فم أي زعيم معارضة يطمح إلى استلام السلطة أو يدافع عن حقه في تحمل مسؤوليته تجاه وطنه، ولا من قلم أي مثقف حريص على فهم أسباب عجز البلاد العربية عن مواجهة الاحتلالات الأجنبية، وإنما على لسان أحد شباب المقاومة العربية في الجولان السوري المحتل الذي لم يتجاوز العشرين من عمره إلا قليلا، في رسالة مهربة من السجن بعثها لي أحد زملائه الذين عانوا مثله سنوات السجن الطويلة. الأسير وئام محمود عماشة الذي كتب هذه الرسالة يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي منذ سنوات، يشكو فيها من العزلة التي يعيشها شعب الجولان عن وطنه الأم، وتلك التي يعاني منها الأسرى السوريون الذين قضى بعضهم أكثر من عشرين عاما في السجن، متروكين لمصيرهم، من دون أي اهتمام يذكر، لا من قبل سلطات بلادهم ولا حتى من قبل الرأي العام. أو هكذا هم يشعرون على أية حال. دخل وئام السجن لأول مرة في السادسة عشر من عمره، وقبل أن ينهي السنوات الخمس من محكوميته عام 1999، أدين بعشرين سنة جديدة العام الماضي.
بهذه العبارات حسم وئام، من دون أن يدري ربما، نقاشا نظريا لا يزال دائرا منذ سنوات عديدة في العالم العربي يجعل فيه البعض من الدفاع عن الأوطان واستقلالها ذريعة للتساهل في احترام حقوق الأفراد ومصالحهم، وتأبيد العمل بقوانين الاستثناء والاحكام العرفية، بينما يحول البعض الآخر الدفاع عن هذه الحريات والحقوق إلى غاية تتجاوز مسائل الاستقلال والسيادة لأنها تشكل مصدر شرعيتهما أصلا. فقد اكتشف، في مأساة الجولان المحتل منذ 39 عاما من دون أي أفق واضح للخلاص، مأساة الوطن الأم نفسه، ومن وراء ذلك الترابط الذي لا ينفصم بين الوطنية، بما تعنيه من حرص على الاستقلال والسيادة والدفاع عن الأرض، والوطنية من حيث هي احترام حقوق المواطنين والدفاع عن حرياتهم الفردية وحقهم في المشاركة الديمقراطية. ومن الملفت أن يكتب وئام أن إدراكه لهذه العلاقة قد حصل مباشرة، كما ذكر في رسالته، بعد وفاة الشهيد هايل أبو زيد، الذي كان رمزا للكفاح البطولي لنخبة شباب الجولان، والتعبير الأنقى عن روح التضحية ونكران الذات التي ميزتهم منذ بداية الاحتلال، وبشكل خاص بعد إعلان إسرائيل قرار ضمه إليها عام 1982.
كيف يمكن لإنسان أن لا يرى هذه العلاقة البديهية، التي اكتشفها وئام بالتجربة المرة، بين حرية الوطن والحريات السياسية، وأن لا يدرك أن النظم التي تستهين بحقوق مواطنيها وحرياتهم وكرامتهم ليس لديها أي حافز للدفاع عنهم، ولا أي مبرر كي تضحي من اجلهم أو تبذل جهودا لإخراجهم من سجونهم. وكيف لها أن تشعر بما يشعر به الأسير من مهانة ومذلة واحتقار وانتقاص من الكرامة والإنسانية فتسرع إلى فك أسره في الوقت الذي تعتقد أنها لا تستطيع أن تستمر ولا مستقبل ممكنا لها من دون تحويل سجونها العديدة إلى أداة تأديب يومي ومدرسة لتصنيع العبودية.
سقط الجولان في الأسر، بسبب الخطأ في الحسابات الاستراتيجية والسياسية والمزاودات التي قادت إليها المنافسة على الزعامة بين النخب العربية. لكن إذا كان سقوطه هذا قد نجم عن أخطاء فادحة في الاعداد والتخطيط والتدريب والتقدير والقيادة، فإن العجز عن تحريره، بالطرق العسكرية أو السياسية أو بكلاهما، خلال العقود الطويلة الماضية، كان ولا يزال ثمرة الابتعاد المتزايد عن الالتزامات والحسابات الوطنية، والاستسلام لهوى السلطة ومنافعها وأوهامها. واستمر تحت الاحتلال لأن الدفاع عن المصالح الخاصة وتوسيع دائرتها، على حساب المصالح العليا والجماعية، قد تحولا إلى محور السياسة "الوطنية"، أو بالأحرى لأنهما حلا محلها، وأرجآ مسألة استرجاع الجولان إلى احتمالات تحولات مستقبلية خارجة عن أي سيطرة وطنية. وأكثر فأكثر تغيب صورة الجولان عن الوعي الفردي والجمعي أمام ضغط المشاكل الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اليومية، وتخبو مع انفراط عقد الوطنية الذي يواكب تغييب المجتمع وردعه عن الاهتمام بشؤونه العمومية. هكذا لم يسقط موضوع استرجاع الأراضي المحتلة من أجندة السلطة الرسمية وعقيدتها فحسب، ولكنه سقط أيضا من أجندة الرأي العام نفسه، بقدر ما أحيل هذا الرأي إلى آراء شخصية وأفرغ من محتواه العمومي لصالح استراتيجيات الحفاظ على البقاء الفردية والعائلية والعشائرية، المتباينة والمتناقضة والمتضاربة. فلم يعد التحرير اليوم بندا حقيقيا في جدول أعمال أي برنامج رسمي أو معارض، بل ولا حتى بندا في الأجندة السياسية. فالجولان قضية مؤجلة اليوم بالنسبة للجميع، بانتظار أن تحل المسائل الأخرى التي تحتل ساحة الوعي والصراع السياسي الداخلي والإقليمي. وهي تبدو مؤجلة أكثر اليوم بقدر ما يشعر النظام أنه دخل في معركة تقرير مصيره والحفاظ على بقائه، وبقدر ما تشعر المعارضة أيضا أن كسب الرأي العام لصالحها ضد النظام القائم يتوقف على حسم معركة التغيير السياسي وإقامة نظام ديمقراطي يمثل جميع الفئات والتيارات ويعيد بناء العقد الوطني المنحل.
هذا هو الوضع الذي أحبط أسرى الجولان كما أحبط شعبه الذي ينتظر منذ عقود عودته إلى وطنه الأم ومشاركته في الحياة الوطنية. وهذا هو الوضع الذي دفع بأسرى الجولان إلى الانتقال مع بقية أبناء وطنهم إلى موقف المعارضة، واعتبار الوصول إلى ضمان الحريات والحقوق الأساسية لكل فرد هو الطريق الحتمية نحو تحرير الجولان وضمان الحقوق الوطنية لسكانه. ومن دون ذلك، كما يعتقد أهل الجولان، لن تخرج قضية الجولان المحتل من حالة الإهمال والتجاهل ولن تعود لتشكل أولوية في قائمة جدول أعمال الحكومات المتعاقبة. وإذا كان أهل الجولان قد رموا بأنفسهم في المعركة من أجل الديمقراطية فلأنهم أدركوا، مثلهم مثل باقي مواطنيهم، أن مصير الجولان لن يحسم لصالح عودته إلى الوطن الأم ما لم يحسم النزاع السياسي والاجتماعي الداخلي، الذي ارتهنت له السياسة السورية منذ أحداث 1980 الكارثية، لصالح حكم ديمقراطي يمثل المجتمع السوري بأكمله ويلغي احتكار السلطة ويعيد تأسيس الوطنية السورية وأحياء روح المواطنية المتكافئة، على قواعد العدل والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية.
" كنا دوما حذرين في طرح مواقفنا وآرائنا تجاه ما يجري في الوطن، من تغييب للحريات والديمقراطية والفساد وتغييب المواطن والمواطنية. لكننا أدركنا، وتحديدا بعد أن استشهد أحد رفاقنا، هايل أبو زيد، بعد قضاء عشرين عاما في الأسر، أدركنا عمق الصلة والارتباط بين فقداننا لحريتنا داخل الأسر وفقدان المواطن لحريته في الشام وعالمنا العربي عموما. نحن نرى اليوم هذه الأوطان سجونا ليست أقل من سجننا، فإذا كان سجننا المادي، والاحتلال في الجولان قسم العزل في هذا السجن الكبير، فإن أوطاننا العربية هي سجون تقتل كل إمكانية تحررنا من هذا العزل عن الوطن الأم. لقد أدركنا بأن أكبر توازن استراتيجي يمكن أن نحققه كدول عربية هو منح المواطن حريته وحقه في ممارسة الديمقراطية".
لم تأت هذه العبارات من فم أي زعيم معارضة يطمح إلى استلام السلطة أو يدافع عن حقه في تحمل مسؤوليته تجاه وطنه، ولا من قلم أي مثقف حريص على فهم أسباب عجز البلاد العربية عن مواجهة الاحتلالات الأجنبية، وإنما على لسان أحد شباب المقاومة العربية في الجولان السوري المحتل الذي لم يتجاوز العشرين من عمره إلا قليلا، في رسالة مهربة من السجن بعثها لي أحد زملائه الذين عانوا مثله سنوات السجن الطويلة. الأسير وئام محمود عماشة الذي كتب هذه الرسالة يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي منذ سنوات، يشكو فيها من العزلة التي يعيشها شعب الجولان عن وطنه الأم، وتلك التي يعاني منها الأسرى السوريون الذين قضى بعضهم أكثر من عشرين عاما في السجن، متروكين لمصيرهم، من دون أي اهتمام يذكر، لا من قبل سلطات بلادهم ولا حتى من قبل الرأي العام. أو هكذا هم يشعرون على أية حال. دخل وئام السجن لأول مرة في السادسة عشر من عمره، وقبل أن ينهي السنوات الخمس من محكوميته عام 1999، أدين بعشرين سنة جديدة العام الماضي.
بهذه العبارات حسم وئام، من دون أن يدري ربما، نقاشا نظريا لا يزال دائرا منذ سنوات عديدة في العالم العربي يجعل فيه البعض من الدفاع عن الأوطان واستقلالها ذريعة للتساهل في احترام حقوق الأفراد ومصالحهم، وتأبيد العمل بقوانين الاستثناء والاحكام العرفية، بينما يحول البعض الآخر الدفاع عن هذه الحريات والحقوق إلى غاية تتجاوز مسائل الاستقلال والسيادة لأنها تشكل مصدر شرعيتهما أصلا. فقد اكتشف، في مأساة الجولان المحتل منذ 39 عاما من دون أي أفق واضح للخلاص، مأساة الوطن الأم نفسه، ومن وراء ذلك الترابط الذي لا ينفصم بين الوطنية، بما تعنيه من حرص على الاستقلال والسيادة والدفاع عن الأرض، والوطنية من حيث هي احترام حقوق المواطنين والدفاع عن حرياتهم الفردية وحقهم في المشاركة الديمقراطية. ومن الملفت أن يكتب وئام أن إدراكه لهذه العلاقة قد حصل مباشرة، كما ذكر في رسالته، بعد وفاة الشهيد هايل أبو زيد، الذي كان رمزا للكفاح البطولي لنخبة شباب الجولان، والتعبير الأنقى عن روح التضحية ونكران الذات التي ميزتهم منذ بداية الاحتلال، وبشكل خاص بعد إعلان إسرائيل قرار ضمه إليها عام 1982.
كيف يمكن لإنسان أن لا يرى هذه العلاقة البديهية، التي اكتشفها وئام بالتجربة المرة، بين حرية الوطن والحريات السياسية، وأن لا يدرك أن النظم التي تستهين بحقوق مواطنيها وحرياتهم وكرامتهم ليس لديها أي حافز للدفاع عنهم، ولا أي مبرر كي تضحي من اجلهم أو تبذل جهودا لإخراجهم من سجونهم. وكيف لها أن تشعر بما يشعر به الأسير من مهانة ومذلة واحتقار وانتقاص من الكرامة والإنسانية فتسرع إلى فك أسره في الوقت الذي تعتقد أنها لا تستطيع أن تستمر ولا مستقبل ممكنا لها من دون تحويل سجونها العديدة إلى أداة تأديب يومي ومدرسة لتصنيع العبودية.
سقط الجولان في الأسر، بسبب الخطأ في الحسابات الاستراتيجية والسياسية والمزاودات التي قادت إليها المنافسة على الزعامة بين النخب العربية. لكن إذا كان سقوطه هذا قد نجم عن أخطاء فادحة في الاعداد والتخطيط والتدريب والتقدير والقيادة، فإن العجز عن تحريره، بالطرق العسكرية أو السياسية أو بكلاهما، خلال العقود الطويلة الماضية، كان ولا يزال ثمرة الابتعاد المتزايد عن الالتزامات والحسابات الوطنية، والاستسلام لهوى السلطة ومنافعها وأوهامها. واستمر تحت الاحتلال لأن الدفاع عن المصالح الخاصة وتوسيع دائرتها، على حساب المصالح العليا والجماعية، قد تحولا إلى محور السياسة "الوطنية"، أو بالأحرى لأنهما حلا محلها، وأرجآ مسألة استرجاع الجولان إلى احتمالات تحولات مستقبلية خارجة عن أي سيطرة وطنية. وأكثر فأكثر تغيب صورة الجولان عن الوعي الفردي والجمعي أمام ضغط المشاكل الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اليومية، وتخبو مع انفراط عقد الوطنية الذي يواكب تغييب المجتمع وردعه عن الاهتمام بشؤونه العمومية. هكذا لم يسقط موضوع استرجاع الأراضي المحتلة من أجندة السلطة الرسمية وعقيدتها فحسب، ولكنه سقط أيضا من أجندة الرأي العام نفسه، بقدر ما أحيل هذا الرأي إلى آراء شخصية وأفرغ من محتواه العمومي لصالح استراتيجيات الحفاظ على البقاء الفردية والعائلية والعشائرية، المتباينة والمتناقضة والمتضاربة. فلم يعد التحرير اليوم بندا حقيقيا في جدول أعمال أي برنامج رسمي أو معارض، بل ولا حتى بندا في الأجندة السياسية. فالجولان قضية مؤجلة اليوم بالنسبة للجميع، بانتظار أن تحل المسائل الأخرى التي تحتل ساحة الوعي والصراع السياسي الداخلي والإقليمي. وهي تبدو مؤجلة أكثر اليوم بقدر ما يشعر النظام أنه دخل في معركة تقرير مصيره والحفاظ على بقائه، وبقدر ما تشعر المعارضة أيضا أن كسب الرأي العام لصالحها ضد النظام القائم يتوقف على حسم معركة التغيير السياسي وإقامة نظام ديمقراطي يمثل جميع الفئات والتيارات ويعيد بناء العقد الوطني المنحل.
هذا هو الوضع الذي أحبط أسرى الجولان كما أحبط شعبه الذي ينتظر منذ عقود عودته إلى وطنه الأم ومشاركته في الحياة الوطنية. وهذا هو الوضع الذي دفع بأسرى الجولان إلى الانتقال مع بقية أبناء وطنهم إلى موقف المعارضة، واعتبار الوصول إلى ضمان الحريات والحقوق الأساسية لكل فرد هو الطريق الحتمية نحو تحرير الجولان وضمان الحقوق الوطنية لسكانه. ومن دون ذلك، كما يعتقد أهل الجولان، لن تخرج قضية الجولان المحتل من حالة الإهمال والتجاهل ولن تعود لتشكل أولوية في قائمة جدول أعمال الحكومات المتعاقبة. وإذا كان أهل الجولان قد رموا بأنفسهم في المعركة من أجل الديمقراطية فلأنهم أدركوا، مثلهم مثل باقي مواطنيهم، أن مصير الجولان لن يحسم لصالح عودته إلى الوطن الأم ما لم يحسم النزاع السياسي والاجتماعي الداخلي، الذي ارتهنت له السياسة السورية منذ أحداث 1980 الكارثية، لصالح حكم ديمقراطي يمثل المجتمع السوري بأكمله ويلغي احتكار السلطة ويعيد تأسيس الوطنية السورية وأحياء روح المواطنية المتكافئة، على قواعد العدل والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire