الاتحاد 15 فيفرييه 06
بعد انتظار طويل ووعود لم تنقطع بأخذ مطالب الرأي العام السوري في الحسبان، وتشكيل وزارة سورية قادرة على وقف عملية التدهور الخطير في شروط معيشة السكان الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم البطالة والفقر والفساد، وبعد تلميحات لم تتوقف إلى اقتناع القيادة السورية بضرورة الانفتاح على المجتمع وتعزيز الوحدة الوطنية وتوسيع دائرة المشاركة في الحياة العمومية لمواجهة التهديدات الأجنبية، وبعد التصريحات العديدة التي أكدت على أن حركة الإصلاح التي تعرقلت طويلا سوف تبدأ قريبا بوتيرة استثنائية بعد أن تخلص النظام من الحرس القديم بخروج آخر زعمائه نائب رئيس الجمهورية السابق عبد الحليم خدام، جاء التعديل الوزاري الجديد ليحبط جميع الآمال. ولعل المفاجأة الوحيدة التي أتى بها هذا التعديل هي التأكيد على أنه لا ينبغي أن نتوقع من النظام السوري مفاجآت وأنه، مهما حصل وبصرف النظر عن أي شعار، لا يمكن إلا أن يظل منسجما مع نفسه ومخلصا لمبادئه في التثبت على المواقع ورفض التحرك إلى الأمام، سواء أكان ذلك تحت الضغط أم من دونه. فلم يأت التعديل الأخير للتأكيد على رفض التغيير فحسب وإنما أيضا على أنه ليس أمام النظام حتى خيارات جديدة في ما يتعلق بانتقاء الأشخاص، وأن كل ما يستطيع أن يقوم به هو إعادة الرهان على الشخصيات نفسها التي ارتبط اسمها بالتخبط والتراجع والجمود، لكن بنقلها من منصب إلى آخر، وسد الثغرات المتزايدة بأسماء لا يعرف عنها السوريون أي موقف، لا فكري ولا سياسي، حتى في إطار النقاش داخل الحزب القائم، ولا تمثل بالتالي أي رأي أو خيار سياسي.
قد يبدو تعيين فاروق الشرع، الذي أمسك بالديبلوماسية السورية خلال عشرين عاما فائتا نائبا للرئيس، رسالة تشدد تجاه تلك القوى المتعددة، الداخلية والخارجية، التي أظهرت أكثر من مرة نفاذ صبرها من مواقف الشرع وتصريحاته الغوغائية المحبطة التي ساهمت في دفع البلاد نحو الوضع الكارثي الذي تجد نفسها فيه اليوم. وقد يبدو تعيين وليد المعلم، الذي اشتهر بأدبه الدبلوماسي الجم بالمقارنة مع سلفه المثير للجدل، وزيرا للخارجية تعبيرا عن الرغبة في تبني مواقف أكثر مرونة تجاه القضايا الشائكة التي تواجهها البلاد. بيد أن واقع ممارسة السياسة في سوريا، بما في ذلك السياسة الخارجية، تلغي عن هذا التعيين أي مغزى حقيقي. فليس للشرع ولا للمعلم ولا لأي وزير، في وزارة العطري القائمة والوزارات التي سبقتها، أي سلطة حقيقية وأي أهلية للتعامل مع القضايا المطروحة باستقلالية. وهم يشكلون، مثلهم مثل جميع محتلي المناصب العليا في الدولة، أدوات في يد سلطة مغلقة تمسك بها مجموعة من الأفراد لا تكاد تتجاوز عدد أصابع اليد، هي التي تخطط وترتب وتوجه وتقود وتضع لهؤلاء وأولئك جداول الأعمال وتلزمهم باتباعها من وراء كواليس الرئاسة وأذرعها المتمثلة بأجهزة الأمن المتعددة. ولهذا السبب جرت العادة أن لا يركز المراقبون في تحليلهم للتعديلات أو التشكيلات الوزارية السورية على الخيارات السياسية المضمرة التي من المحتمل أن تشف عنها بقدر تركيزهم على نسبة كل واحد من المعينين في المناصب الوزارية إلى أفراد هذه السلطة، وبالتالي تحديد نصيب هؤلاء من تقاسم النفوذ فيها. لكن ما وصلت إليه دائرة ممارسة السلطة الحقيقية من ضيق قد جعل مثل هذه المحاولة لتمييز من هو لمن ومن المسؤول عن تعيينه غير ذات معنى على الإطلاق. فحتى على هذا المستوى لم يعد هناك مجال لأي تعليق.
ليس لما أظهره ويظهره النظام من انعدام القدرة على التغيير وما ينجم عنه من تخييب جميع آمال السوريين الذين ملوا الانتظار تفسير آخر سوى انعدام الخيارات عند الفريق الممسك بالسلطة في دمشق، وإدراك أعضائه بأنه ليس لديهم آفاق ولا نوافذ فرص يمكنهم استغلالها أو الاستفادة منها لرسم توجهات جديدة في هذا الاتجاه أو ذاك، وأن أفضل وسيلة للحفاظ على الوضع القائم وعدم الدخول في مغامرات مكلفة أخرى هو المراوحة في المكان مع الاحتفاظ بما يوحي بالإبقاء على إمكانية التحرك في الاتجاه ونقيضه في كل الأوقات. وفي هذا الإطار يكمل الشرع والمعلم بعضهما البعض أكثر مما يعبران عن اختلاف التوجهات.
لا يختلف عهد الدكتور بشار الأسد كثيرا في الواقع عن عهد والده في اعتماده القاعدة الذهبية التي حكمت النظام منذ تأسيسه في بداية السبعينات، وهي الجمود والثبات على المواقع المكتسبة، والعمل بجميع الوسائل للحفاظ عليها، على المستوى الاستراتيجي، وفي الوقت نفسه المرونة والانفتاح وتأكيد الاستعداد للحوار مع جميع الأطراف، المحلية والإقليمية والدولية على المستوى التكتيكي. وهذا الجمود هو نفسه الذي سيصبح في لغة الايديولوجية الصمود والتصدي خلال الثمانينات والتسعينات، والمواجهة والمقاومة خلال السنوات الخمس الأخيرة، ثم "سورية الله حاميها" في السنة الأخيرة، تجاه قوى الضغط الداخلية والخارجية على حد سواء. والسبب في ذلك أن المواقع المتميزة التي احتلتها الكتلة الحاكمة، على الصعيد الوطني الداخلي وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، لم تنشأ في البدء عن تطور حقيقي في ميزان القوى السياسية والاستراتيجية يضمن لها الاستمرار بصورة طبيعية بقدر ما كانت ثمرة تخلخل استثنائي في ميزان القوى الداخلي والخارجي بسبب تفجر القوى المنافسة الرئيسية وتدميرها المتبادل بعضها لبعض. ولا يزال هذا الوضع لم يتغير، بل إن التباين بين قوة المواقع التي لا يزال يحتلها التآلف القائم وقدرته على الدفاع عنها بوسائله الذاتية قد تفاقم إلى حد أصبح يهدد استقرار النظام واستمراره على المدى القصير. ولذلك، كما كان من غير الممكن الحفاظ على هذه المواقع القوية من دون خلق الشروط الضرورية للإبقاء على تفتت القوى الاجتماعية والإقليمية والدولية الرئيسية بتقسيمها أو الاصطياد في ماء نزاعاتها الوسخ، لا يزال من غير الممكن، اليوم أكثر من البارحة، الثبات عليها والمحاصرة فيها من دون تخليد القوانين والعلاقات ووسائل العمل الاستثنائية والعنيفة أيضا، أي من دون تخليد الحصارات الشعبية وزيادة التدخلات الخارجية والتهديد بالحروب الإقليمية والدولية واللعب بنيرانها.
فلا يعني الانفتاح على الشعب وقوى المعارضة الديمقراطية، بما يستدعيه من تراجع عن الاحتكار المطلق للسلطة، الذي يتجاوز بكثير أي صيغة ديكتاتورية عادية ليصل إلى مستوى الاعتباطية الشاملة وإلغاء السياسة والمجتمع والقانون، لصالح الكتلة الحاكمة وأنصارها، من دون تهديد استقرار النظام نفسه وفتح آفاق تغييره. تماما كما لا يعني الكف عن "الحرتقة" الاستراتيجية، وتخريب البيئة الإقليمية والدولية، بما يتضمنه من الالتزام بسياسات وخيارات استراتيجية واضحة، لا بل بتحالفات طويلة المدى، سوى التخلي عن هامش المبادرة الاستراتيجية التي يتمتع به النظام. وهو الهامش النابع من الإقامة في قلب الأزمات الوطنية والإقليمية والدولية، ومن التلاعب بعناصرها، واستغلال التناقضات التي تظهر بين الأقطاب المختلفة. لكن منطق البراغماتية الذي ميز الحقبة السابقة من عمر النظام وسمح له بالتقدم على جثث الآخرين والإفادة من مآسيهم، يهدد اليوم بأن يتحول إلى إنتهازية ضيقة الأفق وسيئة العواقب بالنسبة لبلد صغير لا يملك وسائل بناء استراتيجيته الإقليمة الخاصة، وفي ظروف فقدان النظام صدقيته وحصول التفاهم بين جميع الأطراف المتضررة منه على وضع حد لاستثنائيته.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire