ملحق النهار 2كانون الثاني 06
في سياق الرد الحماسي على العنف المنفلت والإبقاء على روح التفاؤل الإنساني، يعتقد البعض أن من الضروري التأكيد دائما على أن استخدام العنف لا مبرر له وانه خطأ يعكس جهل صاحبه. ذلك أن العنف لا يحل أي نزاع، وأن الطريق الوحيدة لإزالة الخلافات السياسية، أو لتحقيق المصالح الإقتصادية، إذا كانت هناك خلافات أو مصالح، هي طريق الحوار. ويقول آخرون إن عمليات القتل تعكس خواء جعبة فاعليها أو الموصين عليها، وانفلات الواقع من سيطرتهم، وسعيهم اليائس إلى الحفاظ على حد أدنى من الصدقية. ويقول طرف ثالث لا يعبر العنف المنفلت إلا عن الانهيار المعنوي لأنصاره وافتقارهم إلى جميع المعايير الأخلاقية والسياسية والقيم الإنسانية. بيد أن القاتل يستهزيء بهؤلاء جميعا، ويرد عليهم بضحكة مدوية ترتطم بكل الجدران، ليعم صداها أركان الدولة وقاعات مجلس الأمن ولجان التحقيق الدولية بأكملها. صرخة تقول: الحقوا بي إذا شئتم. ستتعبون كثيرا قبل أن تمسكوا بي. وما أن تغلقوا النافذة التي يدخل منها الموت، حتى تنفتح أمام أعينكم أبواب لا تحصى. ولعلكم تعترفون في النهاية بعجزكم، وتسلموا بأنه لا توجد إلا طريقا واحدة لوقف العنف هي القبول بالعنف نفسه والتعايش معه. القانون؟ إلعوبها مع غيري.
والقاتل على حق. ليس صحيحا أن القتل لا يفيد في شيء، أو أنه تعبير عن الجهل أو فقدان المنطق والعقل. ولو كان كذلك لما شعر بخطره أحد، ولا أدانه أصحاب القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الدينية. والعنف يغير مصائر شعوب وحضارات بأكملها. والقتل سلاح فتاك ليس بالنسبة للأفراد فحسب، ولكن بالنسبة للجماعات والمجتمعات أيضا. فهو وسيلة لردع الخصم أو الآخر ولي ذراعه، وإن أمكن لإخراجه كليا من ساحة المواجهة والمنافسة الفكرية أو السياسية. ومن الممكن إلغاء فكر بإلغاء شخص، ومن الممكن ترويع شعب بقتل قياداته بحيث يسهل بعد ذلك فرض القيادات المطلوبة عليه، ومن الممكن "تطهير" أرض بإبادة شعب وأخذ مكانه. هذا ما قامت به السلطات الاستعمارية في العديد من الحالات. وهو ما تقوم به الديكتاتوريات التي نجحت بالقتل وتعميم العنف في أن تحافظ على نفسها لعقود طويلة، في بقاع مختلفة من الأرض، وأن تستمر، طالما بقي قادتها على قيد الحياة، أو نجحوا في تجنب الاغتيال.
وفي العالم العربي، هذا ما فعلته ولا تزال تفعله إسرائيل منذ قيامها وحصولها على الدعم الاستثنائي من المجتمع الدولي، أي من الدول الكبرى التي تشكل الأركان الحقيقية لهذا المجتمع، وتقوم بدور الوصاية عليه. وبالقتل وحده نجحت القيادات الصهيونية الطامحة إلى إقامة وطن قومي صاف لليهود في فلسطين على أنقاض شعبها وبالرغم منه، في الانتصار على الفلسطينيين، وفرط عقد اجتماعهم، وتشريد أكثرهم وفرض الإذعان والخضوع على من بقي منهم تحت السيطرة الاسرائيلية. وليس المقصود بهذا الدعم ما حصلت عليه المنظمات المقاتلة اليهودية من عدة وعتاد، ولكن المقصود أكثر من ذلك بكثير، أي التغطية الأدبية، والتهريب من المسؤولية، وتجنيب القيادات الصهيونية المساءلة والمحاسبة ودفع الثمن عن الجرائم المكررة التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين، وفي أحيان كثيرة تحويل الضحايا أنفسهم إلى جلادين مسؤولين عن موتهم هم أنفسهم وتبرئة الجلادين من دم الضحية.
لكن في ما وراء إسرائيل وما حصلت عليه من تغطية وتبرئة من المسؤولية وتجنب العقاب، بسبب التعاطف الواسع الذي حظيت به الجماعات اليهودية التي تعرضت للمذابح النازية، تغطي عملية التهريب من المسؤولية والعقاب قائمة طويلة من الأشخاص والأحداث والأعمال التي شكلت قانون الحياة في المنطقة الشرق أوسطية خلال عقود طويلة ماضية. فالمجتمع الدولي نفسه الذي قدم لاسرائيل دعما لا مشروطا في مواجهتها مقاومة الشعب الفلسطيني ومطالبته بحقوقه، قدم دعما لامشروطا مماثلا للنخب العربية الحاكمة التي سايرت سياساته الإقليمية تجاه شعوبها وحركاتها المطالبة باحترام حقوقها ومصالحها الرئيسية. وقد شكل هذا الدعم المزدوج وغير المشروط قاعدة موضوعية متينة للتفاهم العملي والتعاون الفعلي بين اسرئيل والنخب العربية، وخلق وضعا استثنائيا في المنطقة خارج القانون أو معاد للقانون وللقيم الإنسانية. فأصبح العنف، بما يعنيه من تطهير عرقي وتمثيل واغتيال وإرهاب، من الأمور الطبيعية والعادية. ولم يعد هناك ما يردع أي طرف من الأطراف القادرة على ممارسة العنف، وفي مقدمها النخب الحاكمة التي تحولت إلى شبكات مصالح مافيوية، عن استخدام القتل والإرهاب كأداة لممارسة الحكم وإلغاء السياسة لضمان استمرارها بصورة تلقائية.
ومن هذا الدعم اللامشروط للنخب الديكتاتورية، وغض النظر المستمر عن العنف بأشكاله المختلفة، واستثناء المنطقة بأكملها من حكم القانون، في سبيل التشريع لاغتصاب الحقوق الفلسطينية، سيولد ويترعرع ويكبر وحش الاستبداد الرهيب الذي يخيم بظله اليوم على الشرق الأوسط بأكمله ويحوله إلى منطقة امتهان كرامة لإنسان بامتياز وانتهاك حقه في الحياة كما لم يحصل في أي وقت ولا يحصل في أي مكان.
لكن في ما وراء المثال الاسرائيلي، والدعم اللامشروط الذي قدمه الغرب الامبريالي للنظم المعادية لشعوبها والمفروضة عليها لخدمة المصالح الأجنبية، ما كان من الممكن لوحش الاستبداد أن ينمو ويصل إلى ما وصل إليه من قوة ونفوذ ومقدرة على التخريب والدمار من دون ما سيطر على المجتمعات والأفراد في البلاد العربية، الخارجة لتوها من تحت السيطرة الاستعمارية، بعد قرون طويلة من التعقيم الاستبدادي العثماني، من ثقافة الموت والأنانية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، والاستهتار بالمباديء والقيم الكونية، والتعلق الدنيء بالمصالح الشخصية والعائلية، وغياب الرؤية الجماعية والتاريخية. فهو ابن الثقافة العربية الجديدة والضعيفة الفاقدة لمنابعها الروحية والمفتقرة في الوقت نفسه للمصادر العقلية النقدية، بمثل ما هو ابن نظام السيطرة شبه الاستعمارية، وربيب التفاهم مع المشاريع الصهيونية والتسهيل لقيام الدولة الاسرائيلية على أرض غريبة وبوسائل الترغيب والترهيب أيضا. فكلاهما، وحش الاستبداد ووحش الاستيطان والاستعمار يقتاتان من الحشيشة نفسها ويستخدمان الوسائل ذاتها: العنف المنفلت في حالة من غياب القانون والاستقالة الأدبية الداخلية والعالمية.
لم ينهزم الاستبداد بعد، ولم يطح به في أي موقع من المواقع العربية، لأن إسرائيل ومشروعها الاستيطاني الذي يشكل الضرع المغذي للاستبداد والمشتري الرئيسي له معا، لم يضعفا ولا فقدا المبادرة أيضا. ولا تزال الشعوب العربية أسرى نظامي العنف الموصوف هذين. وسيمر وقت طويل قبل أن يدرك الرأي العام العربي بأن الاستبداد ليس إلا الامتداد الحتمي والطبيعي للعنف الأصلي الاسرائيلي وأذرعه الضاربة أيضا. وأن تكسير هذه الأذرع هو المدخل الوحيد لتحجيم المشروع التوسعي الاستيطاني، قبل فرض العودة إلى مباديء الحق والقانون على المجتمع الاسرائيلي والمجتمع الدولي أيضا في منطقة الشرق الأوسط.
لا يزال العنف الممارس ضد الشعوب العربية وضد الأفراد مستمرا في العالم العربي لأنه لا يزال له مردود/ أو لا يزال من الممكن صرفه، بالرغم من كل الإدعاءات وتظاهرات البراءة والتخلي عن السياسات السابقة، في عواصم العالم الرئيسية. والذين يعتمدونه لغة للمخاطبة والحوار لا يفعلون ذلك إلا لأنهم على يقين من أنه لا يزال تجارة رابحة، ولا يزال هناك طلب كبير عليه، لأسباب متعددة، وبأشكاله المختلفة أيضا، من قبل أصحاب القوة والجبروت الذين كانوا لفترة طويلة المدربين والراعين المباشرين للقتلة. ولعل أهم هذه الطلبات يأتي اليوم من حاجة إسرائيل للأمن والسلام الذي لا تؤمنه لها سوى أنظمة استبدادية ليس لأصحابها هم سوى شل إرادة الشعوب التي يسيطرون عليها وليس لهذه الشعوب نفسها خيار سوى الصراع المستمر للتخلص من أنظمتها. هكذا يشكل الاستبداد والعنف المرافق له، بل المكون لجوهره، الوسيلة الرئيسية لتحييد المجتمعات العربية وإخضاعها لحاجات السيطرة الداخلية والخارجية. ولن يتوقف العنف والاستبداد الذي ينتجه إلا بقبول أولئك الذين زرعوا العنف ورعوه ولا يزالون يراهنون عليه بوضع حد لنظام السطو على مصالح الشعوب وحقوقها المشروعة، في المنطقة العربية وفي العالم أجمع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire