الرأي 8 سبتمبر 2005
من يتابع ما يكتب من تحليلات حول الأزمة السياسية العامة التي تحيق بالمجتمعات العربية يكاد لا يجد مصطلحا أكثر استخداما من مصطلح الطائفية. وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية بوصفهما عاملان أساسيان في تكوين الهوية السياسية للمجتمعات العربية ويعزو لهما مفاعيل استثنائية في تطور النظم السياسية والقيم الاجتماعية يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيدا لإرادتها السرية والعلنية في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة. وقد جعلت أغلب الحركات الوطنية التي نشأت في بداية القرن العشرين من الكفاح ضد الطائفية والعشائرية شعارا رئيسيا من شعاراتها ونظرت بعداء شديد لأي شكل من أشكال التعبيرات الطائفية.
وفي وقتنا الراهن كثيرا ما يركز المحللون على الانقسام الطائفي لتفسير الأزمة الطاحنة التي تواجهها معظم الدول والمجتمعات العربية في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية أو حتى لتجنب مخاطر الحرب الأهلية. ولا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقا رئيسيا امام تطور الولاءات الوطنية. ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرهم نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها. وأصبح الخوف من تفجراتها المحتملة عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها. فهي فتنة نائمة لا سيطرة لنا عليها والحديث فيها بأي شكل جاء لا يمكن أن يكون إلا ايقاظا ملعونا لها وإطلاقا لبراكينها الكامنة. ولا يعادل الكره الذي تراكمه الثقافة السياسية العربية ضدها، بكل تياراتها اليسارية واليمينية، الاستبدادية والديمقراطية، سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها. ولذلك قر السلوك العربي على نوع من السكيزوفرينيا أو الانفصام في السلوك السياسي إزاءها. وهكذا نجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان من الانصياع لقانونها والاندفاع في أحيان أخرى، بإرادته وأحيانا من دون إرادة، وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعيا شقيا لدى المجتمعات العربية التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها البعض بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله بإمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بإمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل عنها، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية. وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية. وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والاسلامية، وضعا نشازا أو تعبيرا عن ما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والواقع، ليس تعدد الطوائف ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحويل الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الأسيوية يعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار الحضاري وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات وما يفرزه من حريات فردية وجمعية هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة المرتبطة أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب جبارة للجماعات البعيدة وبشكل خاص للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق "المتوحشة". ولا حاجة للذهاب بعيدا لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة حيث يسود التسامح والحريات الدينية والفكرية ويعززون من طابعها التعددي في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية مثلها مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى إلى التجانس وكبت التنوع والخوف من التعدد حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم الحضاري ولا التشكل الوطني ولا التسامي الديني بأي حال. إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج والاستمرار بينما يعبر طرد الأقليات بصورة واعية أو غير واعية عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس عند المجتمعات. فكما أن لوجود أغلبية ثقافية أو دينية متجانسة دور كبير في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ لدى تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار على الخارج والعابرة عادة للبلدان ناقلا استثنائيا للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية وبالتالي حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا ولكنها الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن يخفض منطق انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطائفية موجودة دائما في المجتمعات العربية وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة ايضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل، كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء، عائقا امام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتعايش معه وتجد التسويات الضرورية للحفاظ على ما تمثله من عصبيات محلية وما تمثله الدولة الديمقراطية من علاقات سياسية وطنية.
لا تتحول التعددية الطائفية الى مشكلة تهدد الديمقراطية كما تهدد الحياة الوطنية حتى في الدول الاستبدادية إلا عندما يتغلب الانتماء للطائفة او العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية أو يمحوه أو يتنازع معه أو عندما تصبح الاطار الوحيد للتضامن بين الافراد. وهي لا تنتج طائفية سياسية بالضرورة وليست هي التي تفسر ظهورها. إن المشكلة تبدأ عندما يوضع الانتماء الخاص الطائفي وغير الطائفي محل الانتماء الوطني العام أو يتقدم عليه. والمطلوب عندئذ معرفة كيف ولماذا يتقدم مثل هذا الولاء الخاص في هذه الفترة أو تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك على الولاء الوطني العام. وهو ما يطرح سؤال أصل الطائفية السياسية.
الجواب أن هذا لا يحصل الا عندما ينهار اطار التضامن الوطني الذي يجمع الافراد على صعيد أعلى واشمل هو صعيد الدولة أي عندما تزول فعالية الرابطة الوطنية. لكن السبب في هذه الحالة لا يكمن في وجود العصبية الطائفية ذاتها وإنما في تحويل الإطار الوطني العمومي إلى حامل لعصبية خاصة من الطبيعة ذاتها تلغي المساواة أمام الدولة والقانون، أي إلا عند مصادرة عصبية طائفية أو مذهبية أو عشائرية للدولة وللسلطة العمومية لأهدافها الخاصة. وهكذا تكف الدولة عن ان تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الافراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية او الطائفية لتتحول إلى مسخ مفترس يهدد جميع الأفراد والطوائف الأخرى بسبب تصالب روح العصبية الخاصة مع الدولة وما تؤمنه لها من وسائل عنف مادي ومعنوي استثنائية. وفي هذه الحالة يكفي ان نعيد الى الدولة طابعها الوطني اي العمومي حتى يتراجع الانتماء الطائفي الى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية او الاثنية.
والمقصود أن التركيز الدائم والمستمر في تحليل الأزمة الوطنية على التعددية الطائفية والقومية وتحميلها مسؤولية فشل النخب العربية الحديثة الثقافية والسياسية في بناء أطر وطنية حقيقية يهدفان إلى التغطية على حقيقة الدولة ومؤسساتها القائمة وافتقارها للسياسة الوطنية. وهذا ما يهدف إليه أيضا التذرع بالخوف من انهيار الوحدة الوطنية وانفجار الحرب الطائفية للحؤول دون القيام بالتحويلات الديمقراطية. فلا يهدف كل ذلك إلا إلى تأبيد الوضع القائم وتبرير الهرب من مواجهة المسؤوليات التاريخية وما ينطوي عليه من رفض النخبة السياسية المراجعة النظرية والعملية للأفكار والسياسات والاستراتيجيات التي أودت بمشروعات بناء الدول الوطنية والقومية العربية.
بالعكس من ذلك، يتطلب بعث الروح الوطنية ومساعدة الأفراد الملتجئين خوفا أو بسبب غياب البديل إلى التماهيات الطائفية تركيز المثقفين والسياسيين على معالجة الدمار المادي والمعنوي الذي تعاني منه الدولة حتى يمكن إصلاحها وإطلاق حركة وطنية حقيقية بإزاء انبعاث الدولة وبمواكبته. ولا يعني هذا الاصلاح سوى شيئا واحدا : تحويلها من اداة لخدمة المصالح الخصوصية إلى إطار قانوني وتنظيمي وأخلاقي لتحقيق فكرة المساواة والتضامن بين أبناء البلد الواحد بصرف النظر عن انتماءاتهم، أي لبناء جماعة وطنية. إن استرجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية هو السبيل الوحيد للخروج من الطائفية وضمان الوحدة الوطنية. أما إلغاء الحياة السياسية الوطنية بحجة كبت النزوعات الطائفية فهو الطريق الملوكي لشحن المجتمع طائفيا والعمل على تفجيره.
من يتابع ما يكتب من تحليلات حول الأزمة السياسية العامة التي تحيق بالمجتمعات العربية يكاد لا يجد مصطلحا أكثر استخداما من مصطلح الطائفية. وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية بوصفهما عاملان أساسيان في تكوين الهوية السياسية للمجتمعات العربية ويعزو لهما مفاعيل استثنائية في تطور النظم السياسية والقيم الاجتماعية يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيدا لإرادتها السرية والعلنية في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة. وقد جعلت أغلب الحركات الوطنية التي نشأت في بداية القرن العشرين من الكفاح ضد الطائفية والعشائرية شعارا رئيسيا من شعاراتها ونظرت بعداء شديد لأي شكل من أشكال التعبيرات الطائفية.
وفي وقتنا الراهن كثيرا ما يركز المحللون على الانقسام الطائفي لتفسير الأزمة الطاحنة التي تواجهها معظم الدول والمجتمعات العربية في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية أو حتى لتجنب مخاطر الحرب الأهلية. ولا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقا رئيسيا امام تطور الولاءات الوطنية. ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرهم نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها. وأصبح الخوف من تفجراتها المحتملة عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها. فهي فتنة نائمة لا سيطرة لنا عليها والحديث فيها بأي شكل جاء لا يمكن أن يكون إلا ايقاظا ملعونا لها وإطلاقا لبراكينها الكامنة. ولا يعادل الكره الذي تراكمه الثقافة السياسية العربية ضدها، بكل تياراتها اليسارية واليمينية، الاستبدادية والديمقراطية، سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها. ولذلك قر السلوك العربي على نوع من السكيزوفرينيا أو الانفصام في السلوك السياسي إزاءها. وهكذا نجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان من الانصياع لقانونها والاندفاع في أحيان أخرى، بإرادته وأحيانا من دون إرادة، وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعيا شقيا لدى المجتمعات العربية التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها البعض بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله بإمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بإمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل عنها، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية. وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية. وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والاسلامية، وضعا نشازا أو تعبيرا عن ما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والواقع، ليس تعدد الطوائف ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحويل الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الأسيوية يعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار الحضاري وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات وما يفرزه من حريات فردية وجمعية هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة المرتبطة أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب جبارة للجماعات البعيدة وبشكل خاص للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق "المتوحشة". ولا حاجة للذهاب بعيدا لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة حيث يسود التسامح والحريات الدينية والفكرية ويعززون من طابعها التعددي في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية مثلها مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى إلى التجانس وكبت التنوع والخوف من التعدد حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم الحضاري ولا التشكل الوطني ولا التسامي الديني بأي حال. إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج والاستمرار بينما يعبر طرد الأقليات بصورة واعية أو غير واعية عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس عند المجتمعات. فكما أن لوجود أغلبية ثقافية أو دينية متجانسة دور كبير في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ لدى تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار على الخارج والعابرة عادة للبلدان ناقلا استثنائيا للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية وبالتالي حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا ولكنها الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن يخفض منطق انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطائفية موجودة دائما في المجتمعات العربية وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة ايضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل، كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء، عائقا امام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتعايش معه وتجد التسويات الضرورية للحفاظ على ما تمثله من عصبيات محلية وما تمثله الدولة الديمقراطية من علاقات سياسية وطنية.
لا تتحول التعددية الطائفية الى مشكلة تهدد الديمقراطية كما تهدد الحياة الوطنية حتى في الدول الاستبدادية إلا عندما يتغلب الانتماء للطائفة او العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية أو يمحوه أو يتنازع معه أو عندما تصبح الاطار الوحيد للتضامن بين الافراد. وهي لا تنتج طائفية سياسية بالضرورة وليست هي التي تفسر ظهورها. إن المشكلة تبدأ عندما يوضع الانتماء الخاص الطائفي وغير الطائفي محل الانتماء الوطني العام أو يتقدم عليه. والمطلوب عندئذ معرفة كيف ولماذا يتقدم مثل هذا الولاء الخاص في هذه الفترة أو تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك على الولاء الوطني العام. وهو ما يطرح سؤال أصل الطائفية السياسية.
الجواب أن هذا لا يحصل الا عندما ينهار اطار التضامن الوطني الذي يجمع الافراد على صعيد أعلى واشمل هو صعيد الدولة أي عندما تزول فعالية الرابطة الوطنية. لكن السبب في هذه الحالة لا يكمن في وجود العصبية الطائفية ذاتها وإنما في تحويل الإطار الوطني العمومي إلى حامل لعصبية خاصة من الطبيعة ذاتها تلغي المساواة أمام الدولة والقانون، أي إلا عند مصادرة عصبية طائفية أو مذهبية أو عشائرية للدولة وللسلطة العمومية لأهدافها الخاصة. وهكذا تكف الدولة عن ان تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الافراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية او الطائفية لتتحول إلى مسخ مفترس يهدد جميع الأفراد والطوائف الأخرى بسبب تصالب روح العصبية الخاصة مع الدولة وما تؤمنه لها من وسائل عنف مادي ومعنوي استثنائية. وفي هذه الحالة يكفي ان نعيد الى الدولة طابعها الوطني اي العمومي حتى يتراجع الانتماء الطائفي الى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية او الاثنية.
والمقصود أن التركيز الدائم والمستمر في تحليل الأزمة الوطنية على التعددية الطائفية والقومية وتحميلها مسؤولية فشل النخب العربية الحديثة الثقافية والسياسية في بناء أطر وطنية حقيقية يهدفان إلى التغطية على حقيقة الدولة ومؤسساتها القائمة وافتقارها للسياسة الوطنية. وهذا ما يهدف إليه أيضا التذرع بالخوف من انهيار الوحدة الوطنية وانفجار الحرب الطائفية للحؤول دون القيام بالتحويلات الديمقراطية. فلا يهدف كل ذلك إلا إلى تأبيد الوضع القائم وتبرير الهرب من مواجهة المسؤوليات التاريخية وما ينطوي عليه من رفض النخبة السياسية المراجعة النظرية والعملية للأفكار والسياسات والاستراتيجيات التي أودت بمشروعات بناء الدول الوطنية والقومية العربية.
بالعكس من ذلك، يتطلب بعث الروح الوطنية ومساعدة الأفراد الملتجئين خوفا أو بسبب غياب البديل إلى التماهيات الطائفية تركيز المثقفين والسياسيين على معالجة الدمار المادي والمعنوي الذي تعاني منه الدولة حتى يمكن إصلاحها وإطلاق حركة وطنية حقيقية بإزاء انبعاث الدولة وبمواكبته. ولا يعني هذا الاصلاح سوى شيئا واحدا : تحويلها من اداة لخدمة المصالح الخصوصية إلى إطار قانوني وتنظيمي وأخلاقي لتحقيق فكرة المساواة والتضامن بين أبناء البلد الواحد بصرف النظر عن انتماءاتهم، أي لبناء جماعة وطنية. إن استرجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية هو السبيل الوحيد للخروج من الطائفية وضمان الوحدة الوطنية. أما إلغاء الحياة السياسية الوطنية بحجة كبت النزوعات الطائفية فهو الطريق الملوكي لشحن المجتمع طائفيا والعمل على تفجيره.
1 commentaire:
http://3agabsystem.blogspot.com/
برجاء الزيارة
Enregistrer un commentaire