الاتحاد27 أبريل 2005
بالرغم من أن المفاهيم والتحليلات الأساسية التي لم نكف عن استخدامها منذ ثلاثة عقود في صراعنا المرير من أجل الديمقراطية لم تفقد من راهنيتها، خاصة ما تعلق منها بإبراز عواقب إخفاق الحركة القومية- الوطنية العربية وتطور ظاهرة الاستعمار الداخلي وتهميش المجتمع والشعب وتغييبهما لصالح السلطة الفئوية بدل بناء الدولة المواطنية، إلا أن التحولات الجذرية إن لم نقل الانقلابات التي طرأت على البيئة السياسية والجيوسياسية والفكرية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموما خلال العقود القليلة الماضية قد غيرت كثيرا من الشروط التي تطرح فيها القضية الديمقراطية العربية في الوقت الراهن.
بالرغم من أن المفاهيم والتحليلات الأساسية التي لم نكف عن استخدامها منذ ثلاثة عقود في صراعنا المرير من أجل الديمقراطية لم تفقد من راهنيتها، خاصة ما تعلق منها بإبراز عواقب إخفاق الحركة القومية- الوطنية العربية وتطور ظاهرة الاستعمار الداخلي وتهميش المجتمع والشعب وتغييبهما لصالح السلطة الفئوية بدل بناء الدولة المواطنية، إلا أن التحولات الجذرية إن لم نقل الانقلابات التي طرأت على البيئة السياسية والجيوسياسية والفكرية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموما خلال العقود القليلة الماضية قد غيرت كثيرا من الشروط التي تطرح فيها القضية الديمقراطية العربية في الوقت الراهن.
فبعكس ما كان عليه الحال في السبعينيات، تعيش المجتمعات العربية اليوم لحظة إفلاس النظم الواحدية, وبداية تحللها من الناحيتين السياسية والفكرية معا. فمع تواتر الإحباطات وتراجع مستويات المعيشة والركود الاقتصادي وتفاقم عمليات القمع وتقييد الحريات الفردية والجمعية تدهورت أيضا بشدة الشرعية السياسية التي كانت تتمتع بها بعض النظم التي كانت قد اكتسبت بعض الشعبية في فترة سابقة نتيجة تطبيقها سياسات اجتماعية ساهمت في إعادة توزيع الثروة الوطنية وفي دمج الفئات المحرومة والمهمشة منها في العملية الاقتصادية والاستهلاكية, أو بسبب ما كان يبدو على استراتيجياتها الوطنية من حرص على التمسك ببعض الأهداف القومية المرتبطة بفلسطين وبالتضامن العربي أو بمظاهر السيادة والاستقلال والدفاع عن المصالح الوطنية. كما قادت الإخفاقات المتكررة التي جعلت من المجتمعات الخاضعة له الأكثر تأخرا بين دول العالم في مجاراة التقدم الحاصل على جميع الأصعدة وزادت من إغراءات التدخل الأجنبي فيها إلى حرمان هذه النظم الواحدية من أي صدقية. وهي تظهر اليوم بعد ضياع عنصري الصدقية والشرعية عارية تماما أمام الرأي العام العربي والعالمي، ضعيفة وكسيحة لا تضمن لا أمنا ولا سلاما كما كانت توحي بذلك لعقود طويلة بقدر ما تشكل عقبة كأداء أمام تقدم المجتمعات وتفاعلها مع بيئتها الإقليمية والعالمية. وأصبحت مسألة تفكيكها من دون تكبيد مخاطر كبيرة للمجتمعات والدول شاغلا أكبر للمجتمعات والقوى الكبرى من مسألة التعامل معها أو الحد من هامش مبادرتها.
والمسألة الثانية هي أن الديمقراطية تتقدم في العالم العربي في الوقت نفسه الذي تنهار فيه مواقع هذا العالم الاستراتيجية والجيوستراتجية وتترافق بولادة إرادة الهيمنة الإمبرطورية. وتبدو الأجندة الديمقراطية العربية أكثر فأكثر وكأنها أجندة أميركية أو مفروضة من قبل القوى الدولية. وهو ما يدفع إلى التصادم أو التضارب القائم والمحتمل بين برنامج التحولات الديمقراطية وبرنامج الحفاظ على الخيارات الوطنية.
والواقع ليس للولايات المتحدة التي أدخلت مؤخرا شعار التحويل الديمقراطي في استراتيجيتها العالمية أي دور حاسم في انطلاق هذه الموجة الديمقراطية الجديدة في العالم. فالأصل فيها هو كما ذكرت خراب النظم الأحادية نفسها بسبب تآكل صدقيتها وانهيار أسس شرعيتها معا. وما تهدف إليه الولايات المتحدة من سياساتها الجديدة المؤيدة للديمقراطية هو استثمار هذه الفرصة المفتوحة أمام التغيير السياسي في المنطقة لتعيد موضعة نفسها في الخريطة السياسية الداخلية للبلدان العربية بعد أن أدركت أنه لم تعد لها مصلحة في الاستمرار في ربط نفوذها ببقاء النظم الاستبدادية المهترئة التي دعمتها خلال العقود الطويلة الماضية واستندت إليها في تطبيق سياساتها الإقليمية والدولية معا. فهي تسعى من خلال ركوب الموجة الديمقراطية التي يحبل بها المجتمع العربي إلى إنقاذ رهاناتها التقليدية واستعادة المبادرة وإيجاد حلفاء جدد لها من داخل البلاد العربية وقطع الطريق على منافسيها من الدول الأجنبية. ومما ساعدها على تحقيق أهدافها هذه وهي في طريقها لأن تحقق الكثير منها، هو سلوك النظم ذاتها التي ركزت جهودها في العقد الماضي على إجهاض أي قوى ديمقراطية ناشئة وقمعها على أمل أن تجبر الولايات المتحدة على الاختيار بين الطغم الحاكمة على قباحتها أو بين القوى الإسلامية المتطرفة التي تدرك مدى نفورها منها. والواقع أن سياسة قمع الحركة الديمقراطية وإغلاق الأبواب أمامها، سواء بالاعتقال اللاشرعي للكثير من قادتها أو بممارسة شتى أنواع الترهيب والتنكيل إزاء الناشطين المدنيين والسياسيين لمنعهم من الحركة ما كان من الممكن إلا أن تصب في الطاحونة الأميركية. فالرأي العام الذي فقد ثقته بالحكومات القائمة ولم يتعرف على قيادات جديدة في المعارضة الديمقراطية، أو لم يثق بقدرة قواها الضعيفة التي حرمت من فرص النمو على التغيير، قد دفع أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأنه لا تغيير ممكنا من دون التدخلات الخارجية.
وقد طرح هذا الوضع المفارق تحديات جديدة على الحركة الديمقراطية العربية. ففي الوقت الذي تبدو فيه شروط التحول الديمقراطي الأكثر ملاءمة للتغيير تبدو القوى الديمقراطية العربية المنظمة أقل من أي حقبة سابقة استعدادا لقيادة حركة التغيير. وفي الوقت الذي تبدو فيه خيارات التكتل الأطلسي الإقليمية أقرب إلى التسليم بضرورة التخلي عن النظم الأحادية لصالح نظم تعددية، تظهر فيه المجتمعات العربية أضعف جاهزية من أي فترة أخرى على قيادة الحركة الاجتماعية والشعبية وبناء التحالفات الداخلية والخارجية التي تضمن لها هامش المبادرة الضروري لمواجهة التدخلات الأجنبية. لكن فيما وراء هذا التحدي الاستثنائي والكبير الذي تواجهه الحركة الديمقراطية العربية يتم الانتقال العربي نحو الديمقراطية في ظروف اقتصادية واجتماعية وجيوستراتيجية وفكرية تضع النظم التعددية الجديدة أمام تحديات ليس من السهل التغلب عليه
ا. ومن هذه التحديات الموقف الهش الذي ورثته في مواجهة مسائل الاحتلال وتصاعد موجة العدوانية والتوسعية الإسرائيلية في فلسطين وتدهور علاقات التضامن والتعاون بل تفكك الرابطة القومية التي جسدتها لفترة طويلة الجامعة العربية، والخراب الواسع الذي يميز مؤسسات الدولة والفساد المعمم الذي يضرب إداراتها واستنزاف الموارد الذي قادت إليه سياسات الهدر وسوء الاستخدام، وتقديم معايير الولاء على معايير الكفاءة والجدية. ومنها أيضا انعدام الثقة وتفاقم البطالة وانتشار الفقر الذي يتجاوز في العديد من البلدان ثلث السكان في ظروف إخفاق محاولات التكتل والاندماج الاقتصادي العربية واطراد الضغوط الخارجية من أجل فتح الأسواق وتكوين مناطق التجارة الحرة في سياق لا تزال الاقتصادات العربية فيه غير مؤهلة أو ضعيفة التأهيل.
ومن هنا إذا كان طريق التحول والانتقال نحو أنظمة تعددية قد انفتح في البلاد العربية أو على وشك الانفتاح إلا أن تحقيق الديمقراطية بما تعنيه من إرساء حياة سياسية سليمة قائمة على التداول السلمي للسلطة والمشاركة الشعبية الايجابية في تسيير الشؤون العمومية وبناء علاقات قائمة على المساواة في المواطنية واحترام قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، ليس أمرا سهلا ولا قضية محسومة سلفا. وإذا لم تنجح المجتمعات العربية في السنوات القليلة القادمة في الخروج من حالة عدم الثقة والانتظار لترفد الحركة الديمقراطية بالقوى والأفكار والحيوية التي تحتاج إليها, وإذا استمرت الدول الكبرى الأطلسية التي تتمتع بمواقع نفوذ قوية في المنطقة العربية في التلاعب بالشعارات الديمقراطية لأهداف تتعلق بمد سيطرتها الاستعمارية أو شبه الاستعمارية فلن يكون هناك أي عائق يحول دون تحول النظم التعددية القادمة إلى مجرد غطاء شكلي لتنافس شبكات المصالح المافيوزية ولاستراتيجيات الصعود الفردي والصراع بين الزعماء الصغار المحليين أو المصنوعين في الخارج على السلطة وبالتالي غرق النظم الديمقراطية، كما حصل مع مثيلاتها في الخمسينيات، في الفساد ووقوعها ضحية النزاعات الفردية والمنافسات الطائفية والعشائرية والعائلية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire