الاتحاد 10 نوفبمر 2005
ذكرت في مقال سابق أنه لم يعد من الممكن للمجتمعات العربية استرجاع صدقيتها الداخلية والخارجية إلا باستعادة نخبها الجديدة أو القادمة لمعاني المسؤولية بأبعادها الثلاثة الوطنية والإقليمية والدولية، وبإظهار هذه النخب بشكل واضح قدرتها على تحمل هذه المسؤولية في المستويات المتعددة لممارستها وعلى الحكم بمنطقها وبالتطابق معها. وإذا كان حمل المسؤولية الوطنية يعني اليوم في العالم العربي السعي الجدي إلى تغيير جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات التي قادت إلى الأزمة الداخلية المتفجرة والعودة إلى طريق الإدارة السليمة القائمة على احترام معايير الكفاءة والنزاهة والقانون، بدل معايير الزبونية والمحسوبية وتبادل المصالح السائدة، وكان حمل المسؤولية الإقليمية يعني مساهمة كل دولة في خلق الشروط التي تسمح بضمان استقلال الإقليم وتطوير سبل التعاون والتبادل المثري بين شعوبه فإن حمل المسؤولية الدولية يعني، قبل أي شيء آخر، الارتفاع إلى مستوى التحديات العالمية والمشاركة في إنضاج وتحقيق القرارات التي تهم مستقبل البشرية. ولن يمكن لأية نخبة حاكمة أن تظهر بمظهر النخبة السياسية المسؤولة وبالتالي أن تحظى من جديد بالصدقية إلا بقدر ما تظهر من قدرة على تحقيق المهام المتعددة والمتنوعة المنوطة بها. ويعني الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الدولية العمل الجماعي في سبيل تأمين درجة أكبر من التكافل الإنساني بما يتضمنه ذلك من المساعدة على خلق الشروط الملائمة لتقدم عملية التنمية وإزالة عوامل القهر والانسدادات العديدة والمتزايدة التي تواجهها المجتمعات على جميع مستويات نشاطاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتي تؤدي إلى تفجر حركات الثورة الجامحة والعنف. وفي ما يتعلق بالعالم العربي، لن تستعيد المجتمعات موقعها لدى الرأي العام العالمي ولن تنجح في تحسين صورتها السلبية إلا بقدر ما تظهر قدرتها على بناء نظم قادرة على إطلاق ديناميات الحداثة المعوقة ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني والأخلاقي. ويقتضي التقدم في هذا الطريق ويشترط حتماً تحرير الشعوب العربية من العطالة والهامشية والقيود السياسية والفكرية والأمنية التي تكبلها وتدفع بها إلى الاستقالة والانكفاء أو تفجر في وسطها حركات الإرهاب الانتقامية. لكن في ما وراء ما يقدمه هذا التحرير من فرص لا بديل عنها لتأكيد إدراج المجتمعات العربية في دائرة الحضارة الحديثة وتأمين التعاطف الدولي الذي لابد منه اليوم لاكتساب الوسائل التي تمكننا من التحول إلى قطب مستقل للتنمية الإنسانية وللمشاركة في السياسات الدولية، يشكل تحويل النظم العربية في اتجاه الديمقراطية شرطاً أساسياً لتغيير صورة العرب في عيون الشعوب العربية نفسها.وليس المقصود بالديمقراطية هنا وجود الواجهة التعددية الشكلية ولكن سيادة قيم احترام الإنسان ومبادئ الحق والقانون، أي إيجاد نظم سياسية تخضع لمبادئ المدنية، وتضمن قيمها من حرية وعدالة ومساواة وتضامن وتكافل جماعي معاً.وليس هناك شك في أن تعميم مبادئ وقيم احترام الحقوق الإنسانية ونشر معايير المساواة والعدالة والحرية والتكافل يشكلان اليوم الأرضية الضرورية للنجاح في إطلاق مبادرات إنسانية وبلورة سياسات تعاون دولي نشطة وبناءة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يشكلان الإطار الوحيد الذي يسمح بتجاوز خيارات حرب الحضارات وصداماتها الكارثية نحو خيار المفاوضات الجماعية وجلوس جميع الأطراف المعنية، أوروبية كانت أو أميركية أو آسيوية أو أميركية لاتينية أو روسية أو أفريقية حول دائرة مستديرة للحوار الدولي الجدي. هذا هو الثمن الحقيقي لطموح أي إقليم إلى التحول إلى طرف في النقاش العالمي الراهن، بما في ذلك العالم العربي، ولظفره بدور أو بنصيب من التأثير في رسم وتقرير المصير البشري. فبصرف النظر عما يكتب على الورق وما يجود به بعض رجال السياسة الغربية، ليس لمثل هذا الحوار مكان ولا تبرير في الظروف الراهنة التي لا يمثل فيها العرب شيئاً لا من الناحية الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا التقنية ولا العلمية ولا الثقافية، ويشكلون بالأحرى عالة في كل ما يحيط بهم على الأسرة البشرية. فهم غير قادرين حتى على حل مشاكلهم الداخلية بأيديهم ولا يزالون محتاجين إلى تدخل الدول الكبرى لفرض الإصلاحات والإقرار بالحد الأدنى من الحريات والحقوق الأساسية. وليس من الممكن في مثل هذه الشروط الحلم بأي حوار جدي يعيد للعرب مكانتهم الدولية. لا عربياً أميركياً ولا عربياً أوروبياً ولا عربياً يابانياً ولا عربياً صينياً ولا عربياً هندياً ولا حتى عربياً أفريقياً. وليس من الممكن تحقيق مثل هذا الحوار، أي في الواقع تجنب الحرب الحضارية التي أصبحوا موضوعاً حقيقياً لها والتحول إلى شريك دولي مقبول ومسموع، قبل أن يستعيد العرب صدقيتهم ويصلحوا شؤونهم الداخلية. ومنذ الآن، ما دام العرب لم ينجحوا في أن يكونوا شيئاً في السياسة الدولية، فلن تكون لهم أيضاً سياسات وطنية داخلية متسقة وذات صدقية. باختصار بقدر ما نظهر التزامنا بالمبادئ الأخلاقية والمعايير الإنسانية ونبذل من جهد لاحترامها وتطبيقها في بلادنا وعلى مجتمعاتنا نستعيد ثقة الآخرين بنا ويصبح بمقدورنا أن نطالب من مركز قوة بموقف عادل ومتوازن في فلسطين والعراق وأن نزيل القواعد الأجنبية القابعة على أراضينا ونحسن من فرص وشروط التنمية الإنسانية الوطنية والإقليمية. وبقدر هذا الالتزام وذاك الاحترام ستكون فرصتنا في أن نتحول إلى شركاء، ونتمكن من ممارسة هذه الشراكة ونكون على مستواها. وفي هذه الحالة سيكون بإمكاننا أن نقنع العالم بأننا لسنا شعوباً همجية يأكل فيها القوي الضعيف وتنتهك فيها حريات الأفراد وتضيع حقوقهم باسم الوطنية الكاذبة أو الاعتقادات الدينية أو المصالح المادية الأنانية للقلة الحاكمة. وفيها سيدرك الرأي العام العالمي أيضاً أن البنلادنية ليست البضاعة الوحيدة التي تحسن مجتمعاتنا إنتاجها وتصديرها إلى بقية بقاع العالم. وسيعرف كذلك أن هذه المجتمعات تنطوي على قوى وقيم ومطالب ومتطلبات أخلاقية تتجاوز الانتقام والاستهلاك ومراكمة الثروة والقوة المادية. وفي هذه الحالة لن نحتاج كي نحمي أنفسنا من عدوان الآخرين المتواصل إلى أن نجعل رهاننا جميعاً على مقدراتنا التخريبية والسلبية التي نطورها كسبيل وحيد للبقاء في مواجهة التحديات، ولكن على ما تتفتق به عبقرية مبدعينا وقادتنا السياسيين والاقتصاديين من مبادرات ومساهمات إيجابية في معالجة الشؤون العالمية وحل المسائل الدولية التي تقع مشاكلنا في صلبها· مع الأسف ليس هذا مما تعد به بعد جلسات ومؤتمرات قمم الجامعة العربية ولا ما تسفر عنه خطط ومشاريع الإصلاح الوطنية الاجترارية. فنحن لا نزال نتشبث بتطوير قدراتنا السلبية والتخريبية ووسائل التهديد والابتزاز والسلب لرد العدوان المسلط علينا بدل المراهنة على تنمية قدرتنا على مباراة المجتمعات الأخرى والتفوق عليها في الإنتاج والإبداع والتنظيم والإدارة والتقدم العلمي والتقني والمشاركة الفعلية في بناء وتقدم الحضارة الإنسانية المشتركة. ولا تزال أوهام الحرب الحضارية التي تشبه العظمة المقدمة لكلب جائع تخدعنا وتسيل لعابنا· فنحن نعتقد أننا قادرون على إيذاء الغرب، وأن مجرد هذا الإيذاء يسعدنا لأنه يساعدنا على التوازن ونشعر أننا روينا غليلنا وشفينا من مرضنا. وهذا هو الطريق الخطأ والصعب معاً. لا يمكن للتخريب والإرهاب، حتى لو كان لخدمة أهداف نبيلة، أن يقيم دولة ولا وطناً ولا مجتمعاً ولا إنتاجاً ولا إبداعاً ولا حضارة. وإذا كانت مجتمعاتنا قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تقهقر بل انهيار في جميع ميادين نشاطاتها الإنسانية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية فذلك بالضبط لأنها خضعت لمنطق العنف والإرهاب الداخلي وعوملت بأقسى ما تعامل به مجتمعات وشعوب، ونكل بها وخضعت لحالة لا تزال مستمرة من الحصار والتهميش والعزل والاغتيال الروحي والفكري، من قبل قوى داخلية وخارجية معا... وهي لا تزال مجتمعات مغتصبة الحقوق والنفوس والفكر وفاقدة لأية فكرة أخلاقية وأي شعور بالحرية والإنسانية. العنف الموجه من بعضنا تجاه البعض الآخر هو الذي دمر أوضاعنا الداخلية والعنف الذي نوجهه أو يوجهه بعضنا تجاه الغير باسمنا وبموافقتنا وتأييدنا سيدمر أوضاعنا الدولية والإقليمية ويهددنا بأن لا يختلف مصيرنا، إذا بقينا تحت قيادة نظم العنف والحرب والإمعان في القهر وتحقير الإنسان وتحويله إلى حشرة عن مصير أفغانستان، ولا أن نستحق حكومات أفضل من طالبان ولا بنظام اجتماعي غير الحرب المستمرة والانتحار.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire