الجزيرة نت
يثير الإخفاق التاريخي الجديد للعالم العربي في مواجهة حرب التطهير العرقية الإسرائيلية في فلسطين تساؤلات عميقة لدى النخبة المثقفة والرأي العام عموما. ويكاد الاتجاه الغالب ينحو نحو اتهام الذات والتشكيك الجماعي بقدرة الشعوب العربية كشعوب على تجاوز نقائصها, وتحقيق منجزات إيجابية تنسجم مع متطلبات مواجهة التحديات العالمية والإقليمية الجديدة. ويقود هذا النزوع لاتهام الذات الذي يعكس فقدان الثقة وانهيار الإيمان بالنفس إلى تفسيرات مغرقة في الذاتية المحضة, تعمل هي نفسها على زيادة التخبط الفكري والسياسي وإعادة إنتاج بنيات وهياكل الحكم ذاتها والتي كانت ولا تزال مسؤولة عن الخراب والدمار السياسي والمعنوي للعالم العربي.
وبدلا من تطوير نقد ذاتي موضوعي يفسر النتائج بعللها المنطقية ويحدد المسؤوليات بصورة دقيقة وعينية, يميل الرأي العام العربي -المثقف والشعبي- تارة إلى تحميل الثقافة والتاريخ والتخلف وغياب العقلانية العربية المسؤولية الرئيسية عن إخفاق السياسات القومية, وتارة إلى الإرادة العدوانية الأجنبية, وتارة أخرى إلى العولمة التي تبدو في نظر العديد ممن يتحدث فيها بالشارع العربي كما لو كانت فاعلا قائما بذاته أو غولا جديدا, يستعصي على التعريف ويعمل في العلن والسر على تقويض أساسات الأمم والشعوب جميعا ليجعلها لقمة سائغة في فم الأسد الأميركي الكاسر.
”الإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة على هدر الموارد وقتل المواهب وتهريب الكفاءات الحقيقية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو”وتستغل بعض التيارات العربية الحاكمة هذا الضياع الفكري الذي تغذيه بيئة ثقافية قائمة على الحرمان من النقاش الوطني العلني وطمس العيوب والمشاكل الخطيرة ومحاربة الفكر النقدي والعقلاني واحتكار الأدوات الإعلامية جميعا من قبل مفكري السلطة أو دعاتها, للتغطية على مسؤولياتها الخاصة وتعميم الشعور المتزايد اليوم في مواجهة الغرب بأن العالم العربي جميعا -بما فيه من حكومات وجمهور وطبقات ومثقفين- هو ضحية السياسات الدولية. وبذلك تأمل الكثير من النظم التي تعرضت إلى أعنف حملة تجريح في السنتين الماضيتين في أن تجنب نفسها المساءلة الموضوعية.
والحال أنه لا ينبغي لنا أن نكف عن تكرار أن النتائج الضعيفة -إن لم نقل السلبية- للمجتمعات العربية في العقود الأخيرة والتي أدت إلى التدهور الخطير في الموقف الإستراتيجي للعالم العربي ليست منفصلة عن طبيعة النظم التي عرفتها. فمصير الشعوب معلق مهما كانت ثقافتها الأصلية أو طبيعة التحديات الخارجية, بأساليب إدارتها وتنظيمها وقيادتها السياسية. والإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة والتنظيم الرديء وسياسة كرش المجتمعات كما يكرش قطيع الماعز أو الماشية على هدر الموارد وقتل المواهب, وكذلك تهريب الكفاءات الحقيقية وتعظيم حجم ونفوذ الفئة الوصولية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو.
ولم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها, لا بسبب العصا الغليظة التي كان يستخدمها قادتها لسوقها كالقطعان ولا بفضل الجزرة أو الرشوة التي كانوا يقدمونها على سبيل الإغراء لكسب تأييد أصحاب النفوس الضعيفة أو لإضعاف نفوس الناس جميعا.
”لم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها ”لا بد لنا أن ندرك في الحقيقة أن ما نعيشه اليوم من أوضاع هو من إنتاج مؤسساتنا وفي مقدمها نموذج الحكم وممارسة السلطة, وأن هذه المؤسسات هي نفسها ثمرة اختيارات سياسية سواء أكان ذلك في الاقتصاد أو المجتمع أو التعليم والتربية أو في التكوين والتأهيل الفكري والديني، وأن أصل هذه الاختيارات السلبية أو على الأقل غير الموفقة هو المصالح الخاصة التي ارتبطت بطبقة لم تقم سلطتها لا على مؤهلات سياسية ولا خبرة تقنية ولا مواهب استثنائية ولا قيم أخلاقية, ولكن على تحكمها العرضي بالقوة واقتناصها فرص اهتزاز توازن المجتمعات العربية في حقبة انتقالية وتزايد الضغوط والاعتداءات الخارجية. ومن غير الممكن المحافظة على هذه المصالح غير المرتبطة بأي دور منتج وغير المبررة أخلاقيا إلا بتجميد أي شكل من أشكال المنافسة الاجتماعية النزيهة والشرعية, وتحييد بل خنق كل عناصر القوة الأخلاقية والإنتاجية الإيجابية في المجتمعات العربية.
ويزداد اليوم نزوع النظم العربية للجمود والانكفاء على شعارات الاستمرار والاستقرار والعبث بالقوانين والقيم الأخلاقية والقواعد الاجتماعية, بقدر ما تنكشف أزمة الشرعية ويتجلى انعدام الصدقية. والواقع أنه لا مهرب للنخب الحاكمة في تبرير النتائج الهزيلة التي حصلنا عليها في العقود الماضية في جميع الميادين من الاختيار بين فرضيتين:
إما أن نظام الحكم والإدارة الذي أقامته كان صالحا ولا يزال لكن المجتمع على درجة من القصور الولادي لا ينفع معه أي إصلاح, ولن تنفع فيه أي جهود إصلاحية. وهذا يعني أن علينا أن نسلم بأن مجتمعنا أو إنساننا -بعكس جميع البشر الآخرين- منقوص الإنسانية, وأنه يعاني من عاهات أخفق نظام الحكم والإدارة بعد نصف قرن من الاستقلال ومن الحكم المطلق والسيطرة الشاملة على القرار والموارد معا في إيجاد علاج لها, بل في فهم أسبابها. وفي هذه الحالة ينبغي استبدال المجتمع بغيره ليتوافق مع النظام.
أو أن نظام الحكم والإدارة أي سياسات النظم واختياراتها الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة, وما كان بإمكانها إذن أن تساعد المجتمع على الترقي والتقدم وتجاوز نقائصه الذاتية. وفي هذه الحالة ينبغي التفكير في نظام أصلح والعمل عليه. ولا يمكن رفض كلتا الفرضيتين, لأن ذلك يعني إلغاء التفكير العقلي بالشؤون الاجتماعية والتهرب من المسؤولية, أو الاستهانة بالوعي السياسي عند الحاكمين والمحكومين أو معاملتهم كقاصرين عقليا والتخلي عن مبدأ المحاسبة الجماعية والوطنية. وهذا يقود لا محالة إلى الأخذ بمبدأ عبثية السياسة ولا مسؤوليتها, وإغلاق كل أفق التفكير في الماضي والمستقبل معا.
والقصد التذكير بأن تاريخ المجتمعات تصنعه المجتمعات نفسها، والمسؤول في كل مرة عن هذا الصنع هو النخب التي تتولى مناصب المسؤولية وتتحكم بتوزيع الموارد والاستثمارات المادية والمعنوية وتتخذ القرارات السياسية والإدارية وتتابع تنفيذها. وعندما نتحدث عن مسؤولية فنحن نتحدث عن نشاط واختيارات واعية وسياسات مطبقة من قبل بشر لديهم وعي وإرادة ورؤية، ولا نتحدث عن مسؤولية عندما يتعلق الأمر ببنيات قبلية أو نقص في الموارد أو كوارث طبيعية.
في المجتمع العربي نقائص من دون شك, لكن على قياداته السياسية والفكرية والاقتصادية والإدارية تقع مسؤولية تطوير السياسات وإيجاد المناهج والأساليب والوسائل التي تساعده على إصلاح هذه النقائص وتجاوزها. وعندما لا يحصل ذلك فالمسؤولية تقع بالضرورة على القيادات, لا على طبيعة الأرض والتربة أو التحديات الخارجية أو لون شعر البشر أو جلدهم أو حظوظهم العاثرة.
بالتأكيد لا تعمل السياسة في إطار مجتمع مثالي لا عندنا ولا عند غيرنا، فالمجتمعات لا تولد كاملة ومكملة, فلديها جميعا تناقضاتها ونقائصها ومشاكلها الداخلية والإكراهات الخارجية الكثيرة. ولذلك فهي بحاجة دائما للتحسين والتطوير والتغيير والتجديد, وذلك من خلال تجديد رؤاها ومؤسساتها ووسائل تنظيمها الإدارية والقانونية.
”إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, فهي في تكوينها وتأهيلها وسلوكها ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية ”فتأكيدنا على المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق النخب الاجتماعية والسياسية لا ينبغي أن يمنعنا من تأكيد مسؤولية المجتمع كإرادة جمعية, وذلك بالقدر الذي يمكن فيه الحديث عن وعي اجتماعي أو سلوك اجتماعي مختار. فليس هناك شك في أن المجتمع لم يتصرف أو ينجح أن يتصرف عندنا كقوة منظمة وفاعلة قادرة على أن توقف النخب التي صادرت إرادته عند حدها ليمنع تدهور الموقف. وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, وإنها ليست هي ذاتها في تكوينها وتأهيلها وسلوكها سوى ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية, أقصد مجتمع ما بعد الاستقلال الذي تكون منذ خمسين سنة بطبقاته المختلفة وأحزابه المتعددة.
فالتيار القوموي الذي سير هذا المجتمع الاستقلالي وألهمه لا يختلف عن العديد من تيارات الفكر العالمي الشيوعي الذي لم يأخذ بعين الاعتبار مسائل الثقافة والفكر ومسائل التربية والبناء الأخلاقي بما ينبغي من الاعتبار, وعن العديد من تيارات الفكر الليبرالي المنفعي الضيق الأفق والمتمسك بالتبعية والاقتداء, وكذلك عن تيارات الفكر الأصولي المتطرفة التي لا تريد النظر في إصلاح الواقع التاريخي والحضاري القائم, ولكنها تبحث عن واقع حضاري وتاريخي بديل ينفي ما هو موجود ولا تهتم إلا بإنكاره وتشويه صورته. كل هؤلاء يشاركون في هذه المسؤولية.
”إن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية ”لكننا في هذه الحالة ننتقل من مستوى المسؤولية السياسية إلى مستوى المسؤولية الاجتماعية الفكرية والثقافية، فلا شك أن هناك علاقة مباشرة بين الفكر السائد بشتى صوره الشمولية والتبعية والارتدادية التي تعاني من فصام حقيقي مع الواقع الحي والتاريخي من جهة, ونظام الحكم المطلق والإدارة البيروقراطية الآلية من جهة ثانية. فكل منهما يحتاج الى الآخر حتى يعيد إنتاج نفسه ويستمر. ونستطيع قول الشيء نفسه عن أثر البنيات الثقافية العشائرية والعائلية وأنماط التدين التقليدية.
لكن السلطة بما تملكه من هيمنة على التفاعلات الاجتماعية, هي التي تشكل الضامن أو الكفيل الشرعي أو غير الشرعي لإعادة التوازنات الفكرية والمادية القائمة. ومن دون تغيير قواعد ممارسة السلطة داخل الدولة والإدارة والجمعية الأهلية والمصنع ومؤسسة الإنتاج وداخل الأسرة نفسها وداخل الفرد تجاه نفسه وما يتميز به من خنوع للأوهام والهلوسات والرغائب الأكثر تناقضا, ليس هناك أي أمل في أي تغيير جدي وبالتالي في المستقبل.
فلا يمكن لنظام التلقين وعبادة الشخصية, والهوس بالشعارات الجوفاء والمعاقبة على التعبير عن الرأي, والمراقبة على الضمير وفرض معتقدات إكراهية تجبر الأفراد على الغش والكذب واتباع سلوك مزدوج ولا أخلاقي, وغياب معنى التحكم بالنفس, أن يقود إلى شيء آخر سوى حكم القوة والعنف والعسف والاستبداد. ومن وراء ذلك، وخلف المظاهر الشكلية للاستقرار والاستمرار لا ينبغي أن نتوقع شيئا سوى تفاقم الفوضى والاضطراب وتواصل الخراب.
”إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء، فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها تنحصر في مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا”
باختصار فإن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية, لكن لا يمكن للنقائص الطبيعية أن تبرر أو تفسر الإخفاق. إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء.
فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها هو مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا. ولم تتطور أنماط التنظيم والإدارة والحكم في العالم إلا بسبب وجود نخب كان همها بناء مؤسسات تساعد مجتمعاتها على تحسين شروط عملها وعيشها, ومضاعفة فعاليتها ومردود نشاطها وتعظيم رقيها الفكري والأخلاقي ومن ثم دورها في الحضارة. فإذا افتقرت هذه القيادة للقيم والمؤهلات وانعدم لديها أي التزام أو جهد وغرقت في الفساد, لم يعد هناك أمل ولا رجاء للمجتمعات. ولعلنا نضع هنا إصبعنا بالضبط على مكمن العطب في الوضع العربي ومنطلق العمل الجدي والإصلاح.
يثير الإخفاق التاريخي الجديد للعالم العربي في مواجهة حرب التطهير العرقية الإسرائيلية في فلسطين تساؤلات عميقة لدى النخبة المثقفة والرأي العام عموما. ويكاد الاتجاه الغالب ينحو نحو اتهام الذات والتشكيك الجماعي بقدرة الشعوب العربية كشعوب على تجاوز نقائصها, وتحقيق منجزات إيجابية تنسجم مع متطلبات مواجهة التحديات العالمية والإقليمية الجديدة. ويقود هذا النزوع لاتهام الذات الذي يعكس فقدان الثقة وانهيار الإيمان بالنفس إلى تفسيرات مغرقة في الذاتية المحضة, تعمل هي نفسها على زيادة التخبط الفكري والسياسي وإعادة إنتاج بنيات وهياكل الحكم ذاتها والتي كانت ولا تزال مسؤولة عن الخراب والدمار السياسي والمعنوي للعالم العربي.
وبدلا من تطوير نقد ذاتي موضوعي يفسر النتائج بعللها المنطقية ويحدد المسؤوليات بصورة دقيقة وعينية, يميل الرأي العام العربي -المثقف والشعبي- تارة إلى تحميل الثقافة والتاريخ والتخلف وغياب العقلانية العربية المسؤولية الرئيسية عن إخفاق السياسات القومية, وتارة إلى الإرادة العدوانية الأجنبية, وتارة أخرى إلى العولمة التي تبدو في نظر العديد ممن يتحدث فيها بالشارع العربي كما لو كانت فاعلا قائما بذاته أو غولا جديدا, يستعصي على التعريف ويعمل في العلن والسر على تقويض أساسات الأمم والشعوب جميعا ليجعلها لقمة سائغة في فم الأسد الأميركي الكاسر.
”الإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة على هدر الموارد وقتل المواهب وتهريب الكفاءات الحقيقية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو”وتستغل بعض التيارات العربية الحاكمة هذا الضياع الفكري الذي تغذيه بيئة ثقافية قائمة على الحرمان من النقاش الوطني العلني وطمس العيوب والمشاكل الخطيرة ومحاربة الفكر النقدي والعقلاني واحتكار الأدوات الإعلامية جميعا من قبل مفكري السلطة أو دعاتها, للتغطية على مسؤولياتها الخاصة وتعميم الشعور المتزايد اليوم في مواجهة الغرب بأن العالم العربي جميعا -بما فيه من حكومات وجمهور وطبقات ومثقفين- هو ضحية السياسات الدولية. وبذلك تأمل الكثير من النظم التي تعرضت إلى أعنف حملة تجريح في السنتين الماضيتين في أن تجنب نفسها المساءلة الموضوعية.
والحال أنه لا ينبغي لنا أن نكف عن تكرار أن النتائج الضعيفة -إن لم نقل السلبية- للمجتمعات العربية في العقود الأخيرة والتي أدت إلى التدهور الخطير في الموقف الإستراتيجي للعالم العربي ليست منفصلة عن طبيعة النظم التي عرفتها. فمصير الشعوب معلق مهما كانت ثقافتها الأصلية أو طبيعة التحديات الخارجية, بأساليب إدارتها وتنظيمها وقيادتها السياسية. والإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة والتنظيم الرديء وسياسة كرش المجتمعات كما يكرش قطيع الماعز أو الماشية على هدر الموارد وقتل المواهب, وكذلك تهريب الكفاءات الحقيقية وتعظيم حجم ونفوذ الفئة الوصولية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو.
ولم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها, لا بسبب العصا الغليظة التي كان يستخدمها قادتها لسوقها كالقطعان ولا بفضل الجزرة أو الرشوة التي كانوا يقدمونها على سبيل الإغراء لكسب تأييد أصحاب النفوس الضعيفة أو لإضعاف نفوس الناس جميعا.
”لم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها ”لا بد لنا أن ندرك في الحقيقة أن ما نعيشه اليوم من أوضاع هو من إنتاج مؤسساتنا وفي مقدمها نموذج الحكم وممارسة السلطة, وأن هذه المؤسسات هي نفسها ثمرة اختيارات سياسية سواء أكان ذلك في الاقتصاد أو المجتمع أو التعليم والتربية أو في التكوين والتأهيل الفكري والديني، وأن أصل هذه الاختيارات السلبية أو على الأقل غير الموفقة هو المصالح الخاصة التي ارتبطت بطبقة لم تقم سلطتها لا على مؤهلات سياسية ولا خبرة تقنية ولا مواهب استثنائية ولا قيم أخلاقية, ولكن على تحكمها العرضي بالقوة واقتناصها فرص اهتزاز توازن المجتمعات العربية في حقبة انتقالية وتزايد الضغوط والاعتداءات الخارجية. ومن غير الممكن المحافظة على هذه المصالح غير المرتبطة بأي دور منتج وغير المبررة أخلاقيا إلا بتجميد أي شكل من أشكال المنافسة الاجتماعية النزيهة والشرعية, وتحييد بل خنق كل عناصر القوة الأخلاقية والإنتاجية الإيجابية في المجتمعات العربية.
ويزداد اليوم نزوع النظم العربية للجمود والانكفاء على شعارات الاستمرار والاستقرار والعبث بالقوانين والقيم الأخلاقية والقواعد الاجتماعية, بقدر ما تنكشف أزمة الشرعية ويتجلى انعدام الصدقية. والواقع أنه لا مهرب للنخب الحاكمة في تبرير النتائج الهزيلة التي حصلنا عليها في العقود الماضية في جميع الميادين من الاختيار بين فرضيتين:
إما أن نظام الحكم والإدارة الذي أقامته كان صالحا ولا يزال لكن المجتمع على درجة من القصور الولادي لا ينفع معه أي إصلاح, ولن تنفع فيه أي جهود إصلاحية. وهذا يعني أن علينا أن نسلم بأن مجتمعنا أو إنساننا -بعكس جميع البشر الآخرين- منقوص الإنسانية, وأنه يعاني من عاهات أخفق نظام الحكم والإدارة بعد نصف قرن من الاستقلال ومن الحكم المطلق والسيطرة الشاملة على القرار والموارد معا في إيجاد علاج لها, بل في فهم أسبابها. وفي هذه الحالة ينبغي استبدال المجتمع بغيره ليتوافق مع النظام.
أو أن نظام الحكم والإدارة أي سياسات النظم واختياراتها الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة, وما كان بإمكانها إذن أن تساعد المجتمع على الترقي والتقدم وتجاوز نقائصه الذاتية. وفي هذه الحالة ينبغي التفكير في نظام أصلح والعمل عليه. ولا يمكن رفض كلتا الفرضيتين, لأن ذلك يعني إلغاء التفكير العقلي بالشؤون الاجتماعية والتهرب من المسؤولية, أو الاستهانة بالوعي السياسي عند الحاكمين والمحكومين أو معاملتهم كقاصرين عقليا والتخلي عن مبدأ المحاسبة الجماعية والوطنية. وهذا يقود لا محالة إلى الأخذ بمبدأ عبثية السياسة ولا مسؤوليتها, وإغلاق كل أفق التفكير في الماضي والمستقبل معا.
والقصد التذكير بأن تاريخ المجتمعات تصنعه المجتمعات نفسها، والمسؤول في كل مرة عن هذا الصنع هو النخب التي تتولى مناصب المسؤولية وتتحكم بتوزيع الموارد والاستثمارات المادية والمعنوية وتتخذ القرارات السياسية والإدارية وتتابع تنفيذها. وعندما نتحدث عن مسؤولية فنحن نتحدث عن نشاط واختيارات واعية وسياسات مطبقة من قبل بشر لديهم وعي وإرادة ورؤية، ولا نتحدث عن مسؤولية عندما يتعلق الأمر ببنيات قبلية أو نقص في الموارد أو كوارث طبيعية.
في المجتمع العربي نقائص من دون شك, لكن على قياداته السياسية والفكرية والاقتصادية والإدارية تقع مسؤولية تطوير السياسات وإيجاد المناهج والأساليب والوسائل التي تساعده على إصلاح هذه النقائص وتجاوزها. وعندما لا يحصل ذلك فالمسؤولية تقع بالضرورة على القيادات, لا على طبيعة الأرض والتربة أو التحديات الخارجية أو لون شعر البشر أو جلدهم أو حظوظهم العاثرة.
بالتأكيد لا تعمل السياسة في إطار مجتمع مثالي لا عندنا ولا عند غيرنا، فالمجتمعات لا تولد كاملة ومكملة, فلديها جميعا تناقضاتها ونقائصها ومشاكلها الداخلية والإكراهات الخارجية الكثيرة. ولذلك فهي بحاجة دائما للتحسين والتطوير والتغيير والتجديد, وذلك من خلال تجديد رؤاها ومؤسساتها ووسائل تنظيمها الإدارية والقانونية.
”إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, فهي في تكوينها وتأهيلها وسلوكها ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية ”فتأكيدنا على المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق النخب الاجتماعية والسياسية لا ينبغي أن يمنعنا من تأكيد مسؤولية المجتمع كإرادة جمعية, وذلك بالقدر الذي يمكن فيه الحديث عن وعي اجتماعي أو سلوك اجتماعي مختار. فليس هناك شك في أن المجتمع لم يتصرف أو ينجح أن يتصرف عندنا كقوة منظمة وفاعلة قادرة على أن توقف النخب التي صادرت إرادته عند حدها ليمنع تدهور الموقف. وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, وإنها ليست هي ذاتها في تكوينها وتأهيلها وسلوكها سوى ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية, أقصد مجتمع ما بعد الاستقلال الذي تكون منذ خمسين سنة بطبقاته المختلفة وأحزابه المتعددة.
فالتيار القوموي الذي سير هذا المجتمع الاستقلالي وألهمه لا يختلف عن العديد من تيارات الفكر العالمي الشيوعي الذي لم يأخذ بعين الاعتبار مسائل الثقافة والفكر ومسائل التربية والبناء الأخلاقي بما ينبغي من الاعتبار, وعن العديد من تيارات الفكر الليبرالي المنفعي الضيق الأفق والمتمسك بالتبعية والاقتداء, وكذلك عن تيارات الفكر الأصولي المتطرفة التي لا تريد النظر في إصلاح الواقع التاريخي والحضاري القائم, ولكنها تبحث عن واقع حضاري وتاريخي بديل ينفي ما هو موجود ولا تهتم إلا بإنكاره وتشويه صورته. كل هؤلاء يشاركون في هذه المسؤولية.
”إن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية ”لكننا في هذه الحالة ننتقل من مستوى المسؤولية السياسية إلى مستوى المسؤولية الاجتماعية الفكرية والثقافية، فلا شك أن هناك علاقة مباشرة بين الفكر السائد بشتى صوره الشمولية والتبعية والارتدادية التي تعاني من فصام حقيقي مع الواقع الحي والتاريخي من جهة, ونظام الحكم المطلق والإدارة البيروقراطية الآلية من جهة ثانية. فكل منهما يحتاج الى الآخر حتى يعيد إنتاج نفسه ويستمر. ونستطيع قول الشيء نفسه عن أثر البنيات الثقافية العشائرية والعائلية وأنماط التدين التقليدية.
لكن السلطة بما تملكه من هيمنة على التفاعلات الاجتماعية, هي التي تشكل الضامن أو الكفيل الشرعي أو غير الشرعي لإعادة التوازنات الفكرية والمادية القائمة. ومن دون تغيير قواعد ممارسة السلطة داخل الدولة والإدارة والجمعية الأهلية والمصنع ومؤسسة الإنتاج وداخل الأسرة نفسها وداخل الفرد تجاه نفسه وما يتميز به من خنوع للأوهام والهلوسات والرغائب الأكثر تناقضا, ليس هناك أي أمل في أي تغيير جدي وبالتالي في المستقبل.
فلا يمكن لنظام التلقين وعبادة الشخصية, والهوس بالشعارات الجوفاء والمعاقبة على التعبير عن الرأي, والمراقبة على الضمير وفرض معتقدات إكراهية تجبر الأفراد على الغش والكذب واتباع سلوك مزدوج ولا أخلاقي, وغياب معنى التحكم بالنفس, أن يقود إلى شيء آخر سوى حكم القوة والعنف والعسف والاستبداد. ومن وراء ذلك، وخلف المظاهر الشكلية للاستقرار والاستمرار لا ينبغي أن نتوقع شيئا سوى تفاقم الفوضى والاضطراب وتواصل الخراب.
”إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء، فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها تنحصر في مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا”
باختصار فإن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية, لكن لا يمكن للنقائص الطبيعية أن تبرر أو تفسر الإخفاق. إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء.
فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها هو مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا. ولم تتطور أنماط التنظيم والإدارة والحكم في العالم إلا بسبب وجود نخب كان همها بناء مؤسسات تساعد مجتمعاتها على تحسين شروط عملها وعيشها, ومضاعفة فعاليتها ومردود نشاطها وتعظيم رقيها الفكري والأخلاقي ومن ثم دورها في الحضارة. فإذا افتقرت هذه القيادة للقيم والمؤهلات وانعدم لديها أي التزام أو جهد وغرقت في الفساد, لم يعد هناك أمل ولا رجاء للمجتمعات. ولعلنا نضع هنا إصبعنا بالضبط على مكمن العطب في الوضع العربي ومنطلق العمل الجدي والإصلاح.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire