حتى السبعينات سيطر على البلدان العربية، بعضها تحت تأثير الايديولوجيات الاشتراكية وبعضها الآخر بسبب الريع النفطي الكبير، نمط الاقتصادات الحكومية الذي ارتبط هو نفسه بنمط من النظم السياسية أطلق عليه في الأدبيات السياسية العربية والأجنبية اسم النظم التسلطية و أو الشمولية. وقد واجهت معظم هذه النظم صعوبات كبيرة منذ السبعينات واضطرت العديد من الأقطار إلى التخلي عنه وفتح باب التصحيح الاقتصادي الذي واكب تطور السياسات النيوليبرالية العالمية التي فرضتها وطبقتها بيرقراطية صندوق النقد الدولي. وجاء انهيار الاتحاد السوفييتي وتجربته الشمولية ليؤكد هذا الاتجاه ويعزز إرادة التغيير والاصلاح في العديد من الأقطار العربية. وكما حصل في جميع البلدان التي عاشت تجربة الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق، فتح الإفلاس التاريخي للنظم التسلطية القديمة بما تشمله من سيطرة أحادية للحزب أو العشيرة ومن اقتصاد بيرقراطي في قبضة الدولة، معركة حقيقية بين جميع الورثة المحتملين في داخل النظم وخارجها معا، أعني بين القوى الاجتماعية الواسعة التي همشها النظام لعقود طويلة من أبناء الطبقة الوسطى المستبعدة والجمهور الواسع الذي هجر السياسة والشأن العام أو ابتعد عنهما من جهة والقوى الخاصة التي نمت على أطراف النظام وفي داخله عبر الثغرات العديدة التي تركها في جميع مجالات النشاط الاجتماعي والحاجات العميقة التي عحز عن تلبيتها من جهة أخرى.
في موازاة هذه المعركة المفتوحة على وراثة النظم العربية التسلطية التي وصلت إلى طريق مسدود وبالترابط معها تبلورت في العقود القليلة الماضية وجهتي نظر رئيسيتين لا تزالان تتنازعان الفضاء الايديولوجي والسياسي في بعض الدول العربية حتى اليوم. الأولى رسمية تقول إن ما تعيشه المجتمعات العربية هو أزمة اقتصادية سببها نقص التكيف مع الاقتصاد العالمي أو الابقاء على النظام الاقتصادي الحكومي أوشبه الحكومي المدعوم من الدولة وعدم السماح للقطاع الخاص بالنمو بما يكفي لخلق دينامية تنمية رأسمالية فعلية. وقد كان الوهم قويا في معظم الأقطار بأن مجرد فتح المجال الاقتصادي للمبادرة الحرة والانفتاح على السوق العالمية سوف يخلق بيئة جديدة تعزز الحركة الاقتصادية وتساعد البلدان التي عانت من تجربة الاقتصادات البيرقراطية على إدخال التحديثات التقنية والعلمية الضرورية لمجاراة تطور الاقتصادات العالمية وتحسين شروط التفاعل معها. وبالنتيجة اجتمع رأي الحكومات العربية كافة تقريبا، من دون أدنى تفاهم في ما بينها، على أن المجتمعات العربية لا تحتاج كي تنهض وتخرج من ركودها المؤقت إلى أكثر من سياسة اقتصادية جديدة تتيح لها التكيف مع معايير اقتصاد السوق العالمي وقواعد عمله. وهي الأطروحة التي تعكس في الواقع اتجاها طبيعيا وعالميا للتفاعل مع الاقتصاد النيوليبرالي الجديد للاستفادة من التحويلات الايجابية المنتظرة من عملية الاندماج في السوق العالمية، على شكل استثمارات أو مكتسبات تقنية وإدارية.
أما وجهة النظر الثانية فهي التي قالت إن الركود الاقتصادي الذي تعيشه معظم البلاد العربية ليس اقتصاديا بالمعنى الحصري للكلمة. وربما كان هو نفسه انعكاس لركود شامل وربما لفساد عام أصاب أغلب مؤسسات الدولة أو كلها. هكذا تبدوالمؤسسات السياسية القديمة مفتقرة للفعالية إن لم تكن قد صيغت خصيصا لشل إرادة المجتمع والناس. وقد فقدت المؤسسات القانونية والقضائية الكثير من صدقيتها وأصبحت تستخدم كأداة من أدوات السيطرة على المجتمع بدل أن تكون وسيلته لتحقيق العدالة وتطبيق القانون والحفاظ على مصالح الناس وأمنهم في سبيل بناء علاقات اجتماعية موضوعية تقوم على الانصاف والمساواة وتكافؤ الفرص. وشهدت المؤسسات العلمية والتعليمية والتربوية تدهورا خطيرا في أوضاعها بسبب سوء استعمالها وتحويلها إلى إداة لترويض الناشئة وتفريغها من وعيها وحسها النقدي حتى يسهل انقيادها وخضوعها لآلة السلطة الواحدة الإكراهية بدل أن تكون الأداة المثلى لتكوين الأفراد وتهذيب عقولهم وتنميتهم العلمية والأخلاقية أو لتحسين كفاءاتهم وقدرا تهم العملية بما يساعدهم على الاندماج الايجابي في مجتمعاتهم. وهو ما ينطبق أيضا على العديد من المؤسسات الإدارية التي وصلت إلى مستوى من الانحلال والشلل يجعلها تعمل تماما في عكس الهدف الذي أنشئت من أجله ، أي تقوم بوضع العراقيل أمام تسيير شؤون المواطنين وتكبيلهم وجعل الحياة نفسها مستحيلة عليهم في مجتمعاتهم بدل أن تكون أداة لتسهيل المعاملات في ما بينهم وتمكينهم من السيطرة على واقعهم والعمل كجماعة واحدة لتحقيق مصالحهم الخاصة وأهدافهم. وهكذا رأى أنصار وجهة النظر هذه أن السعي إلى تجاوز الأزمة والعجز والقصور في النظام الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق من داخل النظام الاقتصادي نفسه ولكنه يستدعي بالضرورة إجراء تعديلات جوهرية على قواعد عمل النظام السياسي والقانوني والقضائي والإداري، أي يستدعي تغييرا في قواعد بناء السلطة العمومية وممارستها.
ومن الواضح أننا أمام نموذجين متناقضين لرؤية طبيعة التغيير المطلوب وأهدافه ينبعان هما نفسيهما من تحليلين متناقضين تماما لطبيعة الأزمة أو المشكلة التي تعيشها البلاد العربية ومضمونها وحجمها معا. ولأسباب بديهية تبنت معظم النظم وجهة النظر الأولى التي تدعو لقصر التغيير على المجال الاقتصادي. وبناءا على ذلك شهدت العقود الثلاث الماضية حركة تدريجية في اتجاه تغيير القوانين الاقتصادية وتمهيد المناخ الحقوقي لنشوء قطاع خاص يخلف قطاع الدولة في قيادة العملية الانتاجية حتى لو لم يكن قطاعا متحررا من سيطرة الدولة أو مستقلا عنها. بيد أن تبني هذا الخيار الاقتصادوي والسير فيه لم يمنع القيادات السياسية من حلحلة بعض القيود السياسية كتعويض للطبقة الوسطى وممثليها من المثقفين عن رفض وجهة نظرهم القائلة بأولوية التغيير السياسي أو على الأقل بضرورة شمول هذا التغيير ميادين أخرى أوسع من الميدان الاقتصادي. وقد انعكس هذا الانفتاح النسبي في شكل زيادة بسيطة في المرتبات وتوسيع محدود لهامش حرية التعبير والسماح لبعض أشكال وصيغ المجتمع المدني الجنينية بالتكون في صورة أحزاب سياسية شرعية، وإن بقيت محاصرة ومعزولة، أو في شكل منتديات فكرية سياسية مفتوحة للجمهور إلى هذا الحد أو ذاك.
وشكل هذا البرنامج العملي القائم على الدمج بين مشروع التحرير الاقتصادي الواضح من جهة ومشروع الانفتاح السياسي المحدود والمتردد والغامض معا على المثقفين والطبقة الوسطى من جهة ثانية نوعا من ا لتسوية التلقائية بين القوى الاجتماعية المتنافسة على وراثة النظام السابق. فكما ضمن الشق الاقتصادي المتعلق بإلغاء القوانين الاحتكارية للقوى الاجتماعية الخاصة المتشكلة على هامش النظام والنابعة منه معا، الأسبقية في تشكيل الوضع الجديد أعطى للقوى الاجتماعية المهمشة الواسعة الأمل باحتمال وصول عصر العزلة والتجاهل والإنكار إلى نهايته. وقد جاءت السياسات التحريرية الجديدة لتساعد تلك الفئات وشبكات المصالح التي استطاعت عن طريق استغلال النفوذ أو التطابق مع القطاع العام أن تحقق في العقود الأربع الماضية تراكمها الرأسمالي البدائي على الخروج من دائرة الممارسة اللاشرعية أو شبة الشرعية التي عاشت فيها حتى الآن لتفتح امامها جميع الآفاق وتتيح لها أن تنشر قواها بحرية في البلاد وتعدها للاستثمار حسب متطلبات السوق العالمية وتزيد من قوتها وأرباحها معا. كما عزز فتح هامش مهما كان ضيقا للحرية الوهم لدى الطبقة الوسطى بنهاية عصر الاستبداد وتزايد فرص وبإمكانيات التغيير بالوسائل السلمية للخروج من حالة الركود والانسداد التي خلفتها المواجهة الدموية بين قوى الأمن وفئات المعارضة المسلحة الإسلاموية.
وكان من نتيجة هذه التسوية الهشة والضعيفة التي تحققت منذ عقدين في بعض البلدان والتي لا تزال بلدان أخرى تطمح اليوم إلى تحقيقها بعد فوات الأون ، توسيع القاعدة الاجتماعية للنظم العربية وتعزيز استقرارها. ويبدو لي أن ما نعيشه اليوم مع تزايد الضغوط الداخلية والخارجية وبموازاة تراجع آمال التنمية على الصعيد الاقتصادي والعودة المقنعة إلى السياسات القمعية تحت ستار الحرب ضد الارهاب ومواجهة التهديدات الخارجية على المستوى السياسي هو نهاية هذه الحقبة أو بالأحرى غياب شروط إنتاجها. وهو ما يفسر أن عصر الاصلاح لا يكاد يعرف في بعض الأقطار خريفه من ربيعه. والسؤال هل لا يزال هناك أمل في إنقاذ مشاريع التصحيح والإصلاح أم أننا مقبلون حتما على حقبة جديدة من التخبط والانفجار.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire