رسالة النقد الاجتماعي تحليلات ودراسات في المجتمع والسياسة في العالم العربي والشرق الأوسط Burhan Ghalioun is presently a Professor of Political Sociology at the Universite La Sorbonne Nouvelle. He is the author of several authoritative books as well as over a hundred academic articles in various journals on political Islam, Arab political culture and state and society relations in the Arab World. https://www.facebook.com/BurhanGhalion
mercredi, décembre 30, 2009
حول غزة ومصر وسياسات العزل العربية
في اليوم الثاني لتوقيع دمشق وأنقرة على اتفاق فتح الحدود بين الطرفين، والسماح لمواطني البلدين بالسفر من دون تأشيرة دخول، تكريسا لمجموعة من الاتفاقات الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، بادرني بعض الأصدقاء المصريين اثناء مؤتمر علمي كنا نشارك فيه معا في أحد العواصم الخليجية بسؤال : ماذا يجري في الشرق بين سورية وتركيا، وأين تتجه الامور بهذه السرعة؟ وكان من الواضح أن تطور العلاقات السورية التركية يثير تساؤلات كثيرة عند أصدقائي من منطلق شعورهم كمصريين بأن مصر تفقد شيئا فشيئا مركزيتها بالنسبة للبلاد العربية، وبشكل خاص بالنسبة لدمشق التي كانت أكثر المتحمسين في الخمسينات للعلاقات الوثيقة مع القاهرة. حتى ذهب بها الأمر إلى الدخول في وحدة اندماجية معها، شكلت لفترة من الزمن معلما رمزيا كبيرا من معالم طموح العرب إلى تحقيق وحدة عربية لم يكتب لفكرتها النجاح إلى اليوم. قلت ما هو الغريب في الأمر. قال أصدقائي كيف يحصل مثل هذا التفاهم العميق بين بلدين كاد النزاع أن يكون سمة العلاقات الدائمة بينهما منذ انفصال سورية عن السلطنة العثمانية. هل هي العثمانية الجديدة؟ وماذا تسعى دمشق إلى تحقيقه من وراء ذلك؟
قلت للأسف الشديد أن ما أخفقت مصر في الإقدام عليه وتحقيقه في المشرق والعالم العربي يتحقق اليوم على يد تركيا، وهي البلد الذي كان العديد من الباحثين العرب ينظرون إليه منذ سنوات على أنه من بلاد الجوار المعادية. وقد صدرت كتب عربية عديدة بهذا المضمون. والحال أن تركيا استفادت من العقدين الأخيرين وطورت سياسات جديدة تماما، داخل تركيا وتجاه المنطقة المحيطة بها، العربية وغير العربية، بينما بقينا نحن، في مصر وغيرها، ندور في الحلقة المفرغة ذاتها لنقاشات الخمسينات والستينات، ونتبارى في تأكيد أطروحات الماضي أو نفيها. ولا يزال مثقفون مصريون، منذ قيام الناصرية إلى اليوم، يتنازعون في ما بينهم حول عروبة مصر أو مصريتها، وما يترتب على ذلك من تحديد دور مصر في محيطها العربي، ومدى التزامها بالقضايا العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية، وحدود هذا الالتزام وطبيعته. وما الدور الذي يمكن أن ينتظره في إقليمه بلد صرف جل وقته وجهده السياسي في العقدين الاخيرين في الصراع حول توريث السلطة أو عدم توريثها، بينما انقلب العالم رأسا على عقب. لقد همشت مصر نفسها بمقدار ما راوحت في مكانها في القضايا المحورية، من قضية التنمية واستغلال فرص الاندماج الإقليمي، إلى قضية الديمقراطية وبناء إطار قانوني واضح لتداول السلطة وممارستها على جميع الأصعدة، إلى قضية التفاعل الايجابي مع حاجات محيطها وتقديم يد المساعدة للشعوب المنكوبة فيه، وفي مقدمها قضية الاحتلال للاراضي العربية، وتقرير مستقبل الشعب الفلسطيني..
لا أتذكر أن أحدا من الحاضرين قد شعر بالإساءة أو بالتجني. والجملة الوحيدة التي سمعتها في نهاية حديثي وجهها أحد كبار الباحثين والسياسيين أيضا لزميل جالس بيننا كانت: أسمعت يا سعادة السفير؟
حضرتني هذه الجلسة السريعة مع أشقائي من المثقفين والناشطين المصريين، الذين كانوا معي قلبا وقالبا، بمناسبة قرار الحكومة المصرية الجديد بناء جدار حديدي عازل على حدودها مع غزة، المحاصرة منذ ثلاث سنوات بهدف تجويع أهلها وفرض الاستسلام عليهم، والتسليم بالمطالب الاسرائيلية. وما يضاعف الأسى أن يدافع بعض المسؤولين المصريين عن بناء الجدار بوصفه مسألة سيادة مصرية كما لو أن مشكلته الوحيدة هي نفي تهمة الامتثال لمطالب السياسة الأمريكية والاسرائيلية، أو كأن السيادة مبرر كاف لأعمال تكاد تندرج إن لم تندرج بالفعل في عداد الجرائم ضد الإنسانية.
كيف يمكن لمصر، وهي واسطة عقد العرب، أن تلعب الدور المنتظر منها والمرتجى في محيطها، إذا كان استكمال حصار غزة والتنكيل بشعبها هو محمول السيادة المصرية ومعيارها؟ وكيف يمكن للعرب أن يتجنبوا سيطرة الدول الأجنبية الإقليمية والدولية إذا تبارت أقطارهم في النفور عمدا، كما أنشد امرؤ القيس، إلى الروم، نكاية بجاراتها وأشقائها ناكري الجميل؟ وأي عروبة يمكن أن تقوم على قاعدة الخديعة والأنانية والطفولية؟
يؤكد درس تركيا، وهذه هي الغاية من استذكاره، أن من يريد استقطاب الآخرين من حوله وحيازة موقع شرعي في محيطه، ولعب دور غير ذاك النابع من التهديد والوعيد، ينبغي أن يظهر، داخل بلاده وخارجها، مقدرة على حمل المسؤولية، وقبل ذلك أن يعرف معنى المسؤولية في قيادة المجتمعات وتكوين التحالفات.
lundi, décembre 21, 2009
هوية فرنسا: الاستثمار الانتخابي لليمين!
الاتحاد 21 ديسمبر 09
lundi, décembre 14, 2009
إحياء نصاب أهل الذمة في أوروبة
وكانت الحكومة الفرنسية قد تبنت في الفترة نفسها تقريبا، بطلب من رئيس الجمهورية ومبادرة من وزير الهجرة إريك بيسون، طرح خطة لنقاش مسألة الهوية الوطنية تهدف كما قال الوزير إلى بلورة اقتراحات تؤدي إلى صوغ برنامج عمل "يرسخ هذه" الهوية و"القيم الجمهورية"، ويعزز افتخار الفرنسيين بانتمائهم للأمة الفرنسية. ومن المفروض أن تعقد اجتماعات على مستوى محافظات فرنسا الـ96 ودوائرها الـ342، إضافة إلى "محافظات ومقاطعات ما وراء البحار" يشارك فيها نواب وأعضاء من مجلس الشيوخ وأعضاء مجالس محلية ووزراء وسياسيون، وفرنسيون من أصول أجنبية، ومنشطو جمعيات وتنظيمات نقابية وشركاء قطاع التعليم، وممثلو الديانات وغيرها، بالإضافة إلى الناس العاديين الذين خصصت لهم الوزارة موقعا لوضع تعليقاتهم فيه.
ما يؤرق قطاعات الرأي العام الأوروبي، الذي يبدو أنه يكتشف مسيحيته بشكل أكبر كلما سعى إلى تأكيد قيمه العقلانية والدفاع عن حداثته العلمانية، هو الحضور المتزايد للإسلام، أناسا ومؤسسات ورموزاً، في الحياة العامة. ويبدو هذا الحضور المتزايد بفعل تطور أوضاع المسلمين أنفسهم واستقرارهم كما لو كان مصدر تهديد للهوية الأوروبية نفسها، ومن ورائها للهوية الوطنية الخاصة بكل قطر من أقطارها. وهذا ما تشير إليه بشكل واضح مبادرة الحكومة الفرنسية الجديدة. والتحدي الذي يواجهه هؤلاء هو كيف يمكن نزع الحجاب عن وجوه المسلمات ووضعه على المسلمين كجماعة، بحيث لا يعود من الممكن رؤيتهم في المشهد العام، بالرغم من وجودهم الذي لم يعد هناك مهرب منه. وحجب الإسلام عن عيون الغربيين يذكر، ويا للمفارقة التاريخية، بنصاب أهل الذمة الذين لم يكن هناك ما يوازي وجود الأقليات القوي فيه، واحتلالهم مناصب ومواقع اقتصادية وعلمية، سوى غيابهم الشكلي، حضورهم، واختفاء معالم حضورهم ورموزهم في الفضاءات العمومية.
والواقع أن من يتحدث في الصراع على الهوية يتحدث عن الصراع على الثقافة، وما تشمله من أنماط تفكير وعيش وسلوك. فليس هناك وجود لهوية من دون ثقافة خاصة مرتبطة بها تغذيها بالقيم والمعايير والمفاهيم والرموز. وكل هوية هي في الأصل هوية ثقافية، وليست الهوية الوطنية سوى تابع لها وأحد مشتقاتها. وهذه الأخيرة لا تعني شيئا آخر إذا فصلت عن الثقافة سوى الجنسية أو التابعية الإدارية كما نقول في لغتنا العربية. ومن الممكن داخل دولة واحدة أن تتعدد الهويات الثقافية، لكن القاسم المشترك الأعظم هو احترام القواعد والمبادئ والقيم الأساسية التي تقوم عليها الحياة السياسية المشتركة. وهذا الاحترام هو المقوم الرئيسي للثقافة الخاصة بالجماعة الوطنية، والتي تجعل منها جماعة وطنية شاملة للجماعات الأهلية. وهي ثقافة لا تتجاوز المبادئ والقواعد والقيم الأساسية.
وفي فرنسا، كما هو الحال في كل الدول والمجتمعات، ثقافات متعددة، تخفي هويات خاصة متعددة أيضا، حتى في دائرة المنتمين لجماعة إثنية واحدة. فللأرستقراطية ثقافتها وللبرجوازية ثقافتها وللطبقة العمالية ثقافتها، وللاشتراكيين ثقافتهم، ولليمين الليبرالي وغير الليبرالي ثقافته أيضا. ولا يمنع وجود هذه الثقافات من تكوين عقد اجتماعي واحد وتنمية حياة مشتركة، ولا يقلل من ذلك وجود التناقضات والتوترات المستمرة بين هذه الهويات جميعا، وأحيانا تفجر الصراعات العنيفة في ما بينها. والسبب في هذا التعايش هو الاعتراف الضمني بأن هناك ما هو عام، أي ما تم التفاهم من حوله كقواعد ضرورية للعيش المشترك، وهناك ما هو خاص، أي ما هو حق في الاختلاف، على مستوى القيم والسلوك والأذواق والاختيارات الشخصية والجمعية. ولا حياة لمجتمع سياسي من دون هذا التمييز الأول بين ثقافة خاصة لا غنى عنها لقيام واستمرار أي هوية جمعية، حزب أو جماعة أو طبقة أو جمعية مدنية أو شخصية حقيقية أو اعتبارية، وهوية عامة تغطي حقل المشترك بين الجميع، وتشكل صلة الوصل بين الجماعات المختلفة، وهي ما نسميه الثقافة الوطنية. والثقافة الوطنية في المجتمعات الديمقراطية هي باختصار ثقافة المواطنة، أي تمثل قيم الحرية والمساواة والأخوة التي تعني حرية الأفراد أيضا في الاختلاف، الثقافي والفكري والإثني، ومساواتهم الأخلاقية والقانونية من وراء هذا الاختلاف، وبالرغم منه، والتزامهم جميعا بالتضامن في ما بينهم في ما يتعلق بالحفاظ على الدولة والنظام الديمقراطي ومصالح البلاد العليا وأمنها واستقرارها. في ما عدا ذلك تشكل حرية الاختلاف وبالتالي وجود هويات خاصة مصدر الشرعية الأول للنظام الديمقراطي.
ينزع اليمين في كل البلدان والمجتمعات إلى المطابقة بين الثقافتين، ثقافة المواطنة التي تتعلق بقيم كبرى تعنى بالشأن العام وتخص حقل المصالح العامة للجماعة ككل، والثقافة الأهلية أو المدنية التي تميز شروط حياة الجماعات وأسلوب تفاعلهم مع بيئتهم الاجتماعية والطبيعية، وتكون شخصيتهم الخاصة. وهو في نزعته هذه لا يعمل في الواقع إلا على تسويد إحدى الثقافات الخاصة، ثقافته هو، وفرضها على الجميع بوصفها ثقافة كونية جامعة. وهدفه غير المعلن الحفاظ على الوضع القائم وتجميد حركة التاريخ. وهذه هي في الحقيقة رسالته الفكرية وأساس وجوده أيضا كتيار محافظ.
بالعكس، تنزع التيارات التحررية التي تعكس أفكار وتطلعات نخب أو جماعات صاعدة تسعى إلى تغيير أوضاعها الدونية والخروج من تحت السيطرة أو الهيمنة الطبقية أو الخارجية، إلى زعزعة الثقافة التقليدية الراسخة، وإضعافها من خلال فصلها عن الثقافة الوطنية، أي العمومية التي تؤسس للاجتماع السياسي والدولة، وإبراز خصوصيتها أو طابعها النسبي والجزئي. وهي في نزعتها هذه تميل إلى فتح مفهوم الثقافة العمومية، وإدخال عناصر جديدة إليها، من ثقافتها الخاصة. هذا ما قامت به الثورة الفرنسية عندما أعلنت الجمهورية وأسست لثقافة المواطنية التي أكدت قيم الحرية والمساواة والأخوة لجميع مواطني البلاد، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم وجنسهم ومكان ميلادهم، في مواجهة قيم التراتبية الطبقية والسلطة المطلقة والهيمنة العقائدية للكاثوليكية.
ما تسعى إليه التيارات اليمينية التي تقف من وراء الحملات المتعددة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين، هو ردع الجاليات الإسلامية وإجبارها على التستر على وجودها، وعدم التظاهر بما يبرز حضورها المادي أو الرمزي، حفاظا على الوضع القائم، وتحسبا لتزايد دور المسلمين، حتى لو استدعى ذلك التراجع عن القيم الجمهورية والديمقراطية التي بنيت عليها سمعة أوروبا وازدهارها المادي والأدبي معا. وهذا من علامات أزمة الوعي الأوروبي في عالم تقلب العولمة توازناته الراسخة التي كرست لأكثر من ثلاثة قرون الهيمنة الثقافية والسياسية الغربية.