الاتحاد 22 ديسمبر 2004
لا يقتصر ما يشكو منه التعليم العالي والبحث العلمي على نقص الحرية عند الباحثين والأكاديميين عموما. فهو يعاني من مشاكل عديدة أخرى تشمل المناهج وطرق التعليم ونقص الوسائل ومناهج البحث وتأهيل الملاكات الإدارية والعلمية معا. لكن يظل الافتقار إلى الحريات الأكاديمية وإخضاع التعليم العالي والبحث العلمي لأجندة إعادة إنتاج النظم السياسية الأقلوية والدفاع عنها هو مفتاح فهم هذه المشكلات جميعا وفي مقدمها استمرار تفاقم الفجوة العلمية والتقنية القائمة بين العالم المتقدم والبلاد العربية. هذا ما كان موضوع مؤتمر الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات في البلاد العربية الذي اختتم أعماله في السادس عشر من هذا الشهر في عمان عاصمة المملكة الأردنية. وقد صدر عن هذا المؤتمر إعلان بلفت أنظار المسؤولين والرأي العام معا إلى مخاطر تجاهل حاجات التنمية العلمية والاستمرار في ربط الاصلاحات المنتظرة في هذا المجال بأجندة الدفاع عن نظم سياسية تفقد أكثر فأكثر سيطرتها على الأوضاع والتطورات الداخلية والخارجية.
وقد أكد الإعلان أن تعطيل مبدأ المنافسة في الكفاءة والمهارة والابتكار في مجالات البحث والتحصيل العلميين لصالح تنمية منطق تكوين الولاءات السياسية وتطويع التعليم العالي لأهداف الصراع على السلطة بما يعنيه ذلك من تحويل المنطومة العلمية إلى ساحة إضافية أو موازية لبناء موازين القوة السياسية هو الذي يفسر ما شهده التعليم في البلاد العربية من تدهور في المستوى العلمي ومن انفصال عن الحاجات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية. وهو الذي يشرح أيضا المفارقة التي تعيشها اليوم المجتمعات العربية، أعني عدم التناسب الواضح بين الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها في ميدان التعليم في العقود الخمسة الماضية والنتائج الهزيلة التي حصلت عليها في جميع الميادين، بما في ذلك في الميادين الاقتصادية والإدارية. فلم تنجح في تأهيل الملاكات المهنية الكفؤة ولا في تطوير التقنيات والخبرات العلمية الضرورية لرفع مردود العمل وتحسين الانتاجية ولا تزال تعتمد اعتمادا كبيرا في تلبية حاجاتها على الخبرة الأجنبية.
وكما نصت على ذلك العديد من الإعلانات الدولية في العقدين الماضيين تعني الحريات الأكاديمية أولا احترام استقلالية المؤسسات التعليمية والعلمية وعدم إخضاع برنامج عملها أو إدارتها أو تنظيم شؤونها لحاجات الصراع السياسي أو بناء السيطرة السياسية. وهو شرط بناء نسق علمي مستقبل قادر على بلورة مشروع علمي يستجيب لحاجات المجتمعات المتجددة والمتنوعة. وتتضمن هذه الاستقلالية مساواة جميع أفراد المجتمع الحاملين للكفاءات أمام فرص الدخول في سلك المجتمع الأكاديمي كمدرسين أو طلبة أو مديرين والاعتراف بحق جميع أعضاء الهيئة الجامعية من أساتذة وطلبة وإداريين في ممارسة نشاطاتهم من دون أي تمييز أو تدخل خارجي أو تقييد من قبل سلطة الدولة أو أي طرف آخر. كما تتضمن تأكيد حق الهيئة الجامعية في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنص عليها مواثيق حقوق الانسان مثل حرية التفكير والضمير والدين والتعبير والاجتماع والانتماء لجمعيات وكذلك الحق في الامن والتنقل بحرية.
وتعني ثانيا أن تعيين أعضاء الهيئة العلمية وترقيتهم ومعاقبتهم ينبغي أن تخضع لقواعد مهنية وأن تتم من جانب هيئات جامعية منتخبة وأنه لا يحق فصل أي أكاديمي من دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه أمام هذه الهيئات، لا أمام محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية كما يحصل غالبا في البلاد العربية.
وتعني ثالثا أن لجميع أعضاء هيئة التعليم الحق في إقامة علاقات تواصل مع زملائهم في الجامعات الأخرى وتطوير تحصيلهم ومهاراتهم العلمية. كما أن لجميع طلبة الجامعات الحق في الحصول على تعليم يتفق وحاجات اندماجهم في الحياة الاجتماعية والعلمية وفي اختيار ميدان دراستهم بحرية والاعتراف الرسمي بمعارفهم وبالخبرات التي اكتسبوها. وعلى جميع الدول والمؤسسات التعليمية أن تحترم حقوق الطلبة الفردية والجمعية وأن تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم بحرية في كل المسائل الوطنية والدولية.
وتعني أخيرا أن لجميع أعضاء الهيئة التعليمية الحق في الانتساب إلى جمعيات بما في ذلك الحق في تكوين نقابات أو الانتساب لنقابات قائمة للدفاع عن مصالحهم. وللنقابات الجامعية والتعليمية الحق في المشاركة في صوغ المعايير المهنية أيضا. كما أن على المؤسسات التعليمية العالية أن تضمن مشاركة الطلبة في هيئاتها الإدارية.
بالتأكيد تترتب على الهيئة الأكاديمية مقابل هذه الحقوق التي تتمتع بها التزامات أخلاقية أيضا من أهمها السعي إلى منع أي تلاعب أو استخدام سلبي للعلم أو التقنية لتحقيق أهداف تضر بالحقوق الانسانية، ومنها أيضا العمل على تخفيف الهوة التقنية بين المجتمعات البشرية وإتاحة الفرصة لجميع الهيئات التعليمية في العالم للمشاركة على مستوى واحد في تحصيل المعارف والاستفادة من ثمراتها. وفي سبيل ذلك يتوجب على الهيئات الجامعية أن تسعى إلى تطوير التعاون العلمي الذي ينبغي أن لا يخضع لقيود الحدود الإقليمية والسياسية أو أي عقبة اخرى.
ومن هذه الالتزامات السهر على أن تستجيب النشاطات العلمية والبحثية للحاجات الاجتماعية ولحاجات المجتمع بأكمله لا لطائفة واحدة فيه. وأن تقوم على أساس احترام المعايير المهنية. ولا تعني الاستجابة للحاجات الاجتماعية الرد على طلبات النظام الاقتصادي فحسب وإنما قيام المؤسسات التعليمية العليا بدورها أيضا في المجالات السياسية والمدنية بما يستدعيه ذلك من تعليم احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للشعوب وشجب أعمال القمع السياسي وانتهاكات حقوق الانسان التي تحصل في بلدانها.
وتكفي مقارنة سريعة بين ما يشير إليه مفهوم الاستقلالية الجامعية والحريات الأكاديمية مع ما تعيشه الجامعات العربية حتى ندرك إلى أي حد أصبحت جامعاتنا أدوات لأسر العقل وتلبيد الشعور وفي النهاية للتعليب الجمعي فلم تعد صالحة للتأهيل ولا للابتكار العلميين. ففي معظم البلاد العربية تفرض الأجهزة السياسية الحاكمة وغالبا الأجهزة الأمنية وصايتها العلنية على الحياة الجامعية, وتتعامل مع أعضاء الهيئة العلمية والإدارية في جميع المستويات حسب منطق الولاء والمحسوبية وتخضع البرامج للحسابات السياسية الضيقة. وهي لا تضع القيود على تداول المعارف فحسب ولكنها تقيد حركة الباحثين في داخل البلاد وخارجها وتصادر الرأي وتستخدم الجامعات والمدارس للدعاية الحزبية أو الايديولوجية. وهو ما يفسر إلى حد كبير الفشل الذريع الذي منيت به السياسات التعليمية العالية العربية والذي يبقي العالم العربي في حالة تبعية مستمرة وواسعة للخبرة العلمية والفنية الأجنبية إلى اليوم بالرغم من شمول جامعات البلاد العربية ملايين الطلبة والأساتذة والباحثين.
لكن ما يبدو وكأنه مسألة بديهية وشرط لبناء منظومة علمية منتجة، أعني احترام استقلالية الجامعات وحرياتها الأكاديمية، يؤلف في الواقع تحديا كبيرا يواجه المجتمعات العربية. فمن جهة أولى ليس من المتوقع أن تتخلى النخب الحاكمة عن سيطرتها القوية على مؤسسات التعليم العالي التي تشكل الخزان الأكبر لقوى الحركة الاجتماعية والفكرية في مجتمعاتنا ومصدر الديناميكية السياسية. ومما يساعدها على ذلك أن السلطات العمومية كانت ولا تزال وستبقى الممول الأول لمنظومة التعليم في جميع البلدان. وهي تستطيع من خلال هذا التمويل أن تتحكم بصورة مباشرة بكل ما يتعلق بتنظيم الهيئة الأكاديمية. ومن جهة ثانية تضغط شروط المعيشة الصعبة التي تعاني منها الطبقات الشعبية والوسطى في البلاد الفقيرة على جميع العاملين وتدفع بقسم كبير من أعضاء الهيئة التعليمية إلى المساومة بسهولة على الحقوق التي لم يتمتعوا بها أبدا من قبل ولا يعرفون قيمتها، خاصة عندما تساهم هذه المساومة في إعفائهم من الواجبات المترتبة عليهم. ومن هنا ليس احترام الحريات الأكاديمية مسألة مجردة ولا هدفا سهل المنال في مجتمعات تعاني مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من نقائص وتشوهات كبيرة. إن تحرير الجامعات ومؤسسات التعليم العالي من وصاية الأجندة السياسية وضمان احترام الحريات الأكاديمية هما موضوع صراع دائم. ولن يمكن حسم هذا الصراع لصالح توسيع دائرة الحريات الأكاديمية واستقلال منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ما لم يحصل تقدم حثيث على جبهتين رئيسيتين. جبهة التحويل الديمقراطي للدولة وللحياة السياسية وجبهة التجديد الثقافي والأخلاقي للمجتمعات، وبشكل خاص للنخب الثقافية والأكاديمية وتحريريها من منطق الخوف والاستسلام والاستزلام.
فليس هناك في اعتقادي أي ضمانة كي لا يتحول التمويل الرسمي للتعليم إلى وسيلة لإخضاعه إلى حاجات السياسة السلطوية إلا خضوع السلطة العمومية نفسها إلى قاعدة التداول الديمقراطي بما يعنيه ذلك ويفترضه من إلغاء إمكانية الاحتكار الدائم للحكم ومن توفير وسائل المراقبة والمحاسبة والتحديد الواضح للمسؤوليات والتغيير السلمي والقانوني للأطر والملاكات الرسمية والخاصة. وبالمثل ليس هناك ضمانة كي لا يساء استخدام الحريات الأكاديمية لتحقيق أهداف غير علمية وغير تربوية بل للحفاظ على هامش الاستقلال الجامعي نفسه إلا بالارتقاء بالوعي الأخلاقي والسياسي لأعضاء الهيئات الأكاديمية من مدرسين وإداريين وقدرتهم على تثمير هذه الحريات وعلى احترام الالتزامات الضمنية التي تنطوي عليها.