vendredi, février 15, 2008

في مخاطر الاستهتار بحق المعارضة وهدر القانون

الجزيرة نت فيفرييه 08
الحياة السياسية في العديد من البلاد العربية مأساة حقيقية، يخاطر فيها المرء بدفع سنوات طويلة من عمره في السجون والمعتقلات لممارسة نشاطات لا تتجاوز التعبير السلمي عن الرأي أو المشاركة في ندوة أو اجتماع غالبا ما يحصل داخل أسوار قاعات الاستقبال الشخصية، بينما يحتل الحزب الحاكم وأجهزته دوائر الدولة من القمة إلى القاعدة ويسيطر، بترتيبات شبه قانونية أو قانونية مزيفة، على جميع المؤسسات الأهلية النقابية وغير النقابية، ولا يترك مساحة داخل أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة حتى للتعبير عن اختلاف وجهات النظر داخل صفوف الحزب أو الإئتلاف الحاكم نفسه.
يعتقد الكثير من المسؤولين أن قهر حركات المعارضة وأعضائها لا يؤثر كثيرا على حياة البلاد ما دام الأمر لا يتعلق إلا بمجموعة قليلة من الأفراد الذين يرفضون الانصياع للأمر الواقع، ويصرون على الاشتغال في قضايا، أدرك الجمهور الواسع أن لا أمل في الاشتغال بها، ولم يعد لممارستها، والمقصود هنا بالتأكيد السياسة، أي قاعدة شرعية. و ربما اعتقد بعضهم أن هذا القهر، بأي ذريعة جاء، يصب في النهاية في مصلحة المجتمع بقدر ما يجنب البلاد مشاكل التنازع السياسي والتنافس على السلطة، ويضمن مناخا هادئا لجذب الاستثمارات والعناية بالتنمية الاقتصادية. فهو ثمن بخس لكسب المزيد من سنوات الاستقرار وضمان التحكم بمستقبل البلاد ومصيرها بعيدا عن تيارات التوتر الداخلية والنفوذ الخارجية.
لكن الواقع غير ذلك تماما. وبصرف النظر عما تمثله هذه السياسة من اعتداء على حقوق الأفراد الشخصية - فنحن نفترض أنهم مناضلون يعرفون منذ انخراطهم في عملهم أنهم اختاروا طريق التضحية ونكران الذات - من الواضح اليوم أن هذه السياسة أصبحت تدفع بالدول بشكل أكبر إلى الوقوع في المخاطر التي تسعى إلى تجنبها بالضبط، أي إلى الاحباط والتوتر والانقسام في الداخل، وانهيار الثقة الخارجية بمستقبل واضح ومستقر للبلاد. فهي تظهر أكثر فأكثر للرأي العام، العربي والعالمي، الطبيعة الاحتكارية والانفرادية للسلطة القائمة، وطلاقها الكامل، في سبيل تأكيد نفسها وفرض احترامها على مجتمعها، مع المباديء المدنية والسياسية الرئيسية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية ولا سياسية في أي مجتمع معاصر. أعني مبدأ الشرعية واحترام الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية لجميع الأفراد. ولعل أخطر ما تشير إليه هو أن السلطة لا تقوم في هذه البلاد على مبدأ ولا نظام، وإنما هي سلطة تعسفية واعتباطية، يتصرف فيها القابض على زمام الأمر أو يستطيع أن يتصرف ويبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وأينما شاء. فهي تعطي للعالم صورة عن مجتمعات بدائية لا تخضع في سلوكها لقانون آخر سوى قانون الغلبة والاستئثار. وهي تعيد تربية مجتمعاتها بالفعل على حسب قاعدة الغلبة والاستئثار التي تتحول إلى قانون مستبطن ومتمثل من قبل جميع الأفراد والفئات.
والحال أن منطلق تكوين الأمم والدول والشعوب هو تأكيد قانون الحق مقابل حكم القوة. ذلك أنه من دون حق يعلو على القوة ليس هناك أمل في بناء أي علاقات ايجابية ومثمرة بين الأفراد. وهذا هو الذي ميز منذ البداية مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وجعله منتجا لثقافة وحضارة ومدنية. ولم تنشأ الدولة في العصر الحديث وتستقطب ولاء الناس وتتحول إلى مركز رابطة سياسية، أي أمة، بديلا عن السلطنة وحكم العصبية الطبيعية أو قوة الاستيلاء، إلا بقدر ما أصبح مفهومها متطابقا مع مفهوم الحق أو قانون الحق، وتكريس سلطة القانون وضمان ممارسة هذه السلطة بما يعزز كل يوم بشكل أكبر مفهوم الحق والعدل والانصاف والمساواة، ويحد من إقامة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد على قاعدة القوة والغلبة الطبيعية، أي الحيوانية.
هذا هو الذي يفرق في الواقع بين الحضارة والبربرية، أي بين العنف الذي تمارسه سلطة سياسية شرعية، باسم القانون وتطبيقا له بالفعل، والذي يشكل أساس المدنية والسلام والاستقرار الاجتماعيين، بقدر ما يلغي الحاجة إلى استخدام الخواص للقوة، والعنف الذي تمارسه ميليشيات خاصة كانت تخضع في القرون الوسطى للاقطاعيين وتمكنهم من فرض الخضوع وعمل السخرة على الفلاحين الأقنان، وتمارسه اليوم الميليشيات المتنافسة على السلطة والموارد في البلاد العديدة التي انهارت فيها الدولة وأصبحت نهبا لأصحاب المشاريع الشخصية والخاصة من هواة الحرب والقتال. وهو الذي يفرق بين السلطة القائمة على مؤسسات تعمل بموضوعية وثبات، والسلطة الشخصية المستندة إلى إرادة الحاكم الفرد وتفضيلاته وأهوائه ومشاعره الذاتية. فبدل أن يكون الحاكم أو صاحب السلطة والمسؤولية خادما للدولة وأداة في يدها لتحقيق مطالب العدل القائم على تطبيق قواعد قانونية متساوية وموضوعية، أي لا تتبدل حسب وضع الشخص وأصله، تتحول الدولة ومؤسساتها من إدارة وشرطة وجيش وحكومة وبرلمان وقضاء إلى أدوات في خدمة إرادة شخصية تنزع بطبيعة سلطتها المطلقة إلى تبني سياسة العظمة والسمعة الذاتية، وتقود حتما إلى الاستبداد.
يهدف هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة في البلاد العربية وغيرها إلى الحؤول دون ظهور أي قوى واعية ومنظمة بديلة، وتحطيم أي قوى ناشئة مهما كانت جنينية. والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من توليد أي نخب سياسية يمكن أن تشكل تحديا في يوم ما للنخبة الحاكمة. وهذا ما تشهده مجتمعاتنا العربية تماما. فعلى مدى نصف قرن، لم تكف آلة التعقيم عن تصفية أي نواة نخب سياسية جديدة نشأت في سياق تفاقم الأزمات والتناقضات الداخلية أو تبدل السياقات الخارجية. وقد طورت لتحقيق ذلك ترسانة هائلة من الدعاية الايديولوجية والتلاعب بالتمايزات الدينية والقومية، وتأبيد القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والحكم بالطرق العسكرية والأمنية والإدارية، التي لا تقيدها فيها قوانين، ولا تلزمها دساتير، ولا تضطرها لإخضاع عملها لأي قواعد مرعية ثابتة سوى إرادة الحاكم وحاجة السلطة لتأكيد قوتها وإبراز عظمتها أو تلقين من يطمح إلى معاداتها أو حتى تجاهلها درسا في القسوة والانتقام. هكذا أصبحت حالة الطواريء هي الحالة العادية وصارت العودة إلى الحالة الطبيعية التي يسود فيها القانون وتحترم فيها حقوق الأفراد مشروع ثورة سياسية حقيقية.
يضمن غياب القانون للحاكم أن يقضي على خصومه من دون أن يتحمل أي مسؤولية، وأن يحرم المجتمع من إمكانية توليد نخب بديلة سياسية، وأن يلقن الأفراد الذين يرفضون الخضوع للأمر الواقع درسا لا ينسى في ضرورة الإذعان والانصياع لحكم القوة. ويحلم بسبب ذلك بأن يبقى على سدة السلطة من دون رقيب، وأن لا يكون لحكمه حدا زمنيا واضحا ولا معقولا، أي بأن يتحول حكمه إلى قضاء وقدر. وهو غالبا ما ينجح في ذلك، لكن مقابل تكليف المجتمع ثمنا باهظا قد لا ينجح في تحمله. فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الحكم وتلك الإدارة هي خراب البلدان وجعل شروط الحياة الإنسانية والمدنية الطبيعية مستحيلة في البلاد. فأول ما يتأثر بغياب القانون والحق هو الاستثمار، عند الأفراد والجماعات معا، ليس بالمعنى الشائع والضيق اليوم لاستثمار رؤوس الأموال ولكن، أكثر من ذلك بكثير، بمعنى الاستعداد للانخراط الايجابي في العالم، مما لا غنى عنه لحث الأفراد على بذل الجهد وشحذ الإرادة والإجادة والإبداع.
والحال، لا تجد النخب المتكونة والمحرومة من فرص تحقيق ذاتها والمشاركة في تقرير مصيرها، في مجتمعات يغيب عنها منطق الحق وحكم القانون، سوى الرحيل نحو فضاءات أرحب تستطيع أن تثمر مواهبها فيها بشكل أفضل، أو الانخراط في سياسة المواجهة الانتحارية القاتلة. بينما تصبح الاستقالة الوطنية والإنسانية هي القاسم المشترك للنخب المندمجة في النظام والطامحة إلى الاندراج في مشروع سلطة يكاد ينحط إلى مستوى المؤامرة على مصير شعب والتعاون على سلبه سيادته وحقوقه وموارده. وهكذا بينما تتجمع مواهب المجتمع وصفوة أعضائه الأكثر استعدادا لبذل الجهد والتضحية في الخارج، تفرض شروط الإذعان والانصياع على النخب الباقية التقزيم الذاتي، السياسي والفكري والأخلاقي، بل التجرد من القيم الوطنية والإنسانية معا، وتحل المنافسة بين أفرادها على احتلال مواقع الحظوة عند الحاكمين محل المنافسة على حمل المسؤوليات العمومية والنجاح فيها، ويسود التصفيق والتسبيح بحمد الحاكم وتمجيده محل الاجتهاد والجد في تكوين الكفاءات وتحسين الخبرات والمهارات.
ليس من الصعب أن يتحول الحاكم في مثل هذا النظام القائم على قاعدة الالحاق الشخصي والاستتباع والانصياع، إلى ملك إله، ويترسخ عنده الاعتقاد بامتلاك رسالة كونية أو شبه كونية انتدب لتحقيقها، سواء أرادت الغالبية من المجتمع ذلك أم لا. وهو ما يفسر عودة نظمنا إلى تقاليد وممارسات العهود البائدة التي اعتقدنا أنها ذهبت إلى الأبد، أعني عهود السلاطين الذين يتصرفون ببلادهم وعبادهم كما لو كانوا أتباعا لهم، ولا يطلبون من رعاياهم مشاركة ولا مشورة سوى الدعاء لهم في المساجد والجامعات، والتسبيح بحمدهم ومديح أفعالهم وأقوالهم في وسائل الإعلام. وهم يرون في هؤلاء الرعايا عبئا عليهم، ولا يشعرون تجاههم بأي واجب أو التزام، بل يتوجب على هؤلاء في نظرهم تقديم فروض الطاعة اليومية والتعبير عن تبجيلهم وامتنانهم للحاكمين لتوفيرهم شروط إبقائهم على قيد الحياة. وينعكس تأليه الحكام وتقديسهم تلقائيا ومباشرة في تبخيس قيمة الأفراد أمام أنفسهم، وتحويلهم بل تحولهم الطوعي إلى عبيد وأرقاء وأقنان. فهم يشعرون حقا بعد فترة من الزمن بأنهم مدينون بوجودهم وحياتهم وأمنهم واستقرارهم وحلهم وترحالهم لصاحب أمرهم، الذي هو في الوقت نفسه ولي نعمتهم ومربيهم ومعلمهم. هو وحده الذي يستحق الشكر والعبادة، وهم جميعا، من أعلى الهرم إلى أسفله، عيال لا عقل ولا إرادة لهم، ولا صلاح لأمرهم إلا برضى سيدهم وكرمه وغفرانه.
غياب القانون بمعنى وجود مفهوم للحق واحترام الحقوق، هو جوهر نظام العرب السياسي الراهن، وهو القاعدة التي يقوم عليها استمرار السلطة الراهنة وتجديد النظام. وكما يفسر الخراب العام الذي تعيشه البلاد في جميع ميادين النشاط الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي والفكري، وتنامي مشاعر الاحباط والبؤس وانعدام الثقة والمسؤولية معا عند الغالبية العظمى من فئات المجتمع وأفراده، يفسر أيضا استقطاب المجتمع بين أباطرة مؤلهين، من ذوي السلطة والمال والجاه، الذين يفعلون ما يريدون، ويأمرون، ولا يسألون عما يفعلون، وعبيد محرومين، لا يملكون مالا ولا سلطة ولا عطفا ولا جاها، لا قيمة لهم ولا احترام.

mercredi, février 13, 2008

لوكالة آكي حول القمة العربية في مارس في دمشق

برهان غليون لـ آكي: توظيف القمم العربية للضغط على الحكومات أمر مضر
دمشق (12 شباط/ فبراير) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباءاستبعد المفكر والباحث السوري برهان غليون أن تقوم السعودية ومصر بمقاطعة مؤتمر القمة نهاية الشهر المقبل في العاصمة السورية دمشق، مؤكداً أن توظيف اجتماعات القمة كوسائل للضغط على الحكومات "أمر مضر للعرب عموماً"، ودعا إلى نقل نتائج القمة والخلافات فيها إلى الرأي العام "حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، على حد تعبيره وأشار غليون، الأستاذ في علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، في تصريح لوكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، إلى أنه كان هناك بالفعل رهان كبير على أن يدفع انعقاد مؤتمر القمة العربية المقبل في دمشق الحكومة السورية إلى "تطرية يدها" في لبنان والتشجيع على تسوية هناك تسمح بانتخاب العماد ميشيل سليمان رئيساً للجمهورية. وقال "ربما شكل التلويح باحتمال مقاطعة الرياض والقاهرة لهذا المؤتمر أحد أوراق الضغط التي استخدمت لحث النظام السوري على القبول بتسوية ولو جزئية ومؤقتة في لبنان"، ومع ذلك، تابع غليون، "لا أعتقد أن هاتين العاصمتين ستقاطعان المؤتمر بالفعل، وأنا لست مع هذه المقاطعة.. ولا ينبغي أن يكون الخلاف بين الحكومات، مهما كانت درجته، سبباً في تجميد الاتفاقات أو الاستحقاقات القانونية سواء أتعلق الأمر بالقمة العربية أم بغيرها".
وجدد غليون "أعتقد أن من المضر للعرب عموماً أن تستخدم اجتماعات القمة كوسائل للضغط مهما كان السبب، لأن نتيجة ذلك ستكون تعطيل هذه المؤتمرات والتضحية بالاتفاقات والقرارات التي صوتت عليها الجامعة العربية بصعوبة في الماضي لا أكثر"، على حد تعبيرهوبالمقابل رأى الباحث السوري أنه "على الدول العربية حضور جميع الاجتماعات، واستغلالها لطرح مسائل الخلاف والتوصل إلى حلول بشأنها، وربما الخروج بتصريح للرأي العام العربي يشير إلى الاختلاف ويقر بفشل التوصل لحل له، أي يعكس ما حصل بالفعل"، وأوضح "مثل هذا الموقف يعبر عن احترام أكبر للرأي العام العربي وعن شعور أقوى بالمسؤولية تجاهه وتجاه المشاكل العالقة بين الدول والحكومات العربية". وتابع "أما رفض حضور المؤتمرات بسبب وجود الخلافات فهو غير مبرر مثله مثل الخروج من المؤتمر بالتغطية على الخلافات أمام الرأي العام وتبويس اللحى العربي التقليدي، باختصار، الاستحقاقات السياسية العربية ينبغي أن تحترم في وقتها ومكانها، والخلافات ينبغي أن تنقل للرأي العام حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، وحول ما يتردد عن ضغط غربي على بعض الدول العربية لحثها على مقاطعة هذه القمة، قال "من المحتمل أن تمارس أوروبا مثل هذا الضغط، كما من الممكن أن تمارسه الولايات المتحدة، ذلك أن ما يهم الدول الأجنبية هو الوصول إلى أهدافها، ولا يهمها الحفاظ على الحد الأدنى من وحدة الصف العربي، وما بالك بالحفاظ على مستقبل التعاون أو تكوين كتلة عربية"، وأضاف "نحن نسعى بالعكس إلى ألا تكون الخلافات بين الدول العربية سبباً في شل الجامعة العربية وتحويل البلاد العربية إلى توابع للدول الكبرى تستخدمها لتطبيق أجنداتها القومية" الخاصة
وأعرب غليون عن أمله "أن ننجح بدفع الحكومات العربية إلى احترام التزاماتها السياسية والارتقاء إلى درجة من الجدية في معالجة مسائل الاختلاف الطبيعية وغير الطبيعية، في تعزيز الأمل بإمكانية تكوين أجندة سياسية عربية مشتركة، أي سياسة عربية في مواجهة الاختراقات الدولية والإسرائيلية المتزايدة لسياسات وأمن الدول العربية" على حد قولهوحول المطلوب من سورية لتقنع الدول العربية المشاركة في قمتها، قال "ليس من المطلوب من أي عاصمة عربية أن تتخلى عن سياستها أو تغير أجندتها القطرية في سبيل ضمان احترام الاستحقاقات المتعلقة بمؤتمرات القمة، فهذه سياسة سلبية ينبغي التخلي عنها"، وتابع "المطلوب من أي عاصمة لديها أجندة مختلفة عن الإجماع العربي أن تثبت للأقطار الأخرى أن السياسة التي تتبناها لا تتناقض مع مصالح الدول العربية الأخرى، وأن تبحث عن نقاط اللقاء التي تضمن استمرار الحد الأدنى من اتساق المصالح والمواقف العربية المشتركة. فكما أنه لا قيمة ولا شرعية لسياسة قطرية تدفع إلى تمزيق الكتلة العربية، ليس هناك أيضاً قيمة ولا شرعية لسياسة عربية مشتركة لا تأخذ بالاعتبار مصالح الدول القطرية الأساسية"، ورغم أنه قلل من أهمية القمم العربية، إلا أنه وفي سياق عرضه لقراءته للمرحلة القادمة (ما بعد القمة) فيما لو لم تشارك دول عربية رئيسية فيها، وقال غليون "لا أعتقد أن القمم العربية في ظروف الشقاق العربي والإقليمي العميق القائم سوف تفضي إلى شيء مهم وأساسي، سواء حضر الجميع أم غابوا.. لا يمكن للجامعة العربية أن تقدم خدمة للأقطار العربية وتكون إطاراً فعالاً للعمل العربي المشترك ومصدر سياسة عربية موحدة ما لم تنجح الدول العربية في تغيير توجهاتها الاستراتيجية وتقرر بالفعل التوجه نحو بناء سياسة عربية واحدة.. ونحن لا نزال بعيدين جداً عن هذا"، وتابع "وما دامت التحالفات الخارجية للأقطار العربية هي التي تحدد اليوم، بشكل أكبر، في سورية والقاهرة والرياض وغيرها، استراتيجيات الأمن القطري الحقيقية، فلن يكون هناك أمل في التوصل إلى أي اتفاق"، على حد وصفه.
وختم غليون "لكن من المفيد في نظري تأكيد الالتزام بمؤتمرات القمة حسب مواعيدها وأجنداتها حتى نرسخ تقاليد سياسية وقانونية ضرورية للتقدم في المستقبل، ونضمن بناء مؤسسات تعيش وتتحرك بالرغم من الخلافات السياسية بين الحكومات والنظم القائمة. ولذلك أرى في انعقاد المؤتمر ذاته بحضور الجميع معنى أهم مما ينجم عنه من إنجازات بغياب البعض أو مقاطعة البعض" الآخر

لوكالة آكي حول القمة العربية

برهان غليون لـ آكي: توظيف القمم العربية للضغط على الحكومات أمر مضر
دمشق (12 شباط/ فبراير) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباءاستبعد المفكر والباحث السوري برهان غليون أن تقوم السعودية ومصر بمقاطعة مؤتمر القمة نهاية الشهر المقبل في العاصمة السورية دمشق، مؤكداً أن توظيف اجتماعات القمة كوسائل للضغط على الحكومات "أمر مضر للعرب عموماً"، ودعا إلى نقل نتائج القمة والخلافات فيها إلى الرأي العام "حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، على حد تعبيره وأشار غليون، الأستاذ في علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، في تصريح لوكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، إلى أنه كان هناك بالفعل رهان كبير على أن يدفع انعقاد مؤتمر القمة العربية المقبل في دمشق الحكومة السورية إلى "تطرية يدها" في لبنان والتشجيع على تسوية هناك تسمح بانتخاب العماد ميشيل سليمان رئيساً للجمهورية. وقال "ربما شكل التلويح باحتمال مقاطعة الرياض والقاهرة لهذا المؤتمر أحد أوراق الضغط التي استخدمت لحث النظام السوري على القبول بتسوية ولو جزئية ومؤقتة في لبنان"، ومع ذلك، تابع غليون، "لا أعتقد أن هاتين العاصمتين ستقاطعان المؤتمر بالفعل، وأنا لست مع هذه المقاطعة.. ولا ينبغي أن يكون الخلاف بين الحكومات، مهما كانت درجته، سبباً في تجميد الاتفاقات أو الاستحقاقات القانونية سواء أتعلق الأمر بالقمة العربية أم بغيرها". وجدد غليون "أعتقد أن من المضر للعرب عموماً أن تستخدم اجتماعات القمة كوسائل للضغط مهما كان السبب، لأن نتيجة ذلك ستكون تعطيل هذه المؤتمرات والتضحية بالاتفاقات والقرارات التي صوتت عليها الجامعة العربية بصعوبة في الماضي لا أكثر"، على حد تعبيرهوبالمقابل رأى الباحث السوري أنه "على الدول العربية حضور جميع الاجتماعات، واستغلالها لطرح مسائل الخلاف والتوصل إلى حلول بشأنها، وربما الخروج بتصريح للرأي العام العربي يشير إلى الاختلاف ويقر بفشل التوصل لحل له، أي يعكس ما حصل بالفعل"، وأوضح "مثل هذا الموقف يعبر عن احترام أكبر للرأي العام العربي وعن شعور أقوى بالمسؤولية تجاهه وتجاه المشاكل العالقة بين الدول والحكومات العربية". وتابع "أما رفض حضور المؤتمرات بسبب وجود الخلافات فهو غير مبرر مثله مثل الخروج من المؤتمر بالتغطية على الخلافات أمام الرأي العام وتبويس اللحى العربي التقليدي، باختصار، الاستحقاقات السياسية العربية ينبغي أن تحترم في وقتها ومكانها، والخلافات ينبغي أن تنقل للرأي العام حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، وحول ما يتردد عن ضغط غربي على بعض الدول العربية لحثها على مقاطعة هذه القمة، قال "من المحتمل أن تمارس أوروبا مثل هذا الضغط، كما من الممكن أن تمارسه الولايات المتحدة، ذلك أن ما يهم الدول الأجنبية هو الوصول إلى أهدافها، ولا يهمها الحفاظ على الحد الأدنى من وحدة الصف العربي، وما بالك بالحفاظ على مستقبل التعاون أو تكوين كتلة عربية"، وأضاف "نحن نسعى بالعكس إلى ألا تكون الخلافات بين الدول العربية سبباً في شل الجامعة العربية وتحويل البلاد العربية إلى توابع للدول الكبرى تستخدمها لتطبيق أجنداتها القومية" الخاصةوأعرب غليون عن أمله "أن ننجح بدفع الحكومات العربية إلى احترام التزاماتها السياسية والارتقاء إلى درجة من الجدية في معالجة مسائل الاختلاف الطبيعية وغير الطبيعية، في تعزيز الأمل بإمكانية تكوين أجندة سياسية عربية مشتركة، أي سياسة عربية في مواجهة الاختراقات الدولية والإسرائيلية المتزايدة لسياسات وأمن الدول العربية" على حد قولهوحول المطلوب من سورية لتقنع الدول العربية المشاركة في قمتها، قال "ليس من المطلوب من أي عاصمة عربية أن تتخلى عن سياستها أو تغير أجندتها القطرية في سبيل ضمان احترام الاستحقاقات المتعلقة بمؤتمرات القمة، فهذه سياسة سلبية ينبغي التخلي عنها"، وتابع "المطلوب من أي عاصمة لديها أجندة مختلفة عن الإجماع العربي أن تثبت للأقطار الأخرى أن السياسة التي تتبناها لا تتناقض مع مصالح الدول العربية الأخرى، وأن تبحث عن نقاط اللقاء التي تضمن استمرار الحد الأدنى من اتساق المصالح والمواقف العربية المشتركة. فكما أنه لا قيمة ولا شرعية لسياسة قطرية تدفع إلى تمزيق الكتلة العربية، ليس هناك أيضاً قيمة ولا شرعية لسياسة عربية مشتركة لا تأخذ بالاعتبار مصالح الدول القطرية الأساسية"، ورغم أنه قلل من أهمية القمم العربية، إلا أنه وفي سياق عرضه لقراءته للمرحلة القادمة (ما بعد القمة) فيما لو لم تشارك دول عربية رئيسية فيها، وقال غليون "لا أعتقد أن القمم العربية في ظروف الشقاق العربي والإقليمي العميق القائم سوف تفضي إلى شيء مهم وأساسي، سواء حضر الجميع أم غابوا.. لا يمكن للجامعة العربية أن تقدم خدمة للأقطار العربية وتكون إطاراً فعالاً للعمل العربي المشترك ومصدر سياسة عربية موحدة ما لم تنجح الدول العربية في تغيير توجهاتها الاستراتيجية وتقرر بالفعل التوجه نحو بناء سياسة عربية واحدة.. ونحن لا نزال بعيدين جداً عن هذا"، وتابع "وما دامت التحالفات الخارجية للأقطار العربية هي التي تحدد اليوم، بشكل أكبر، في سورية والقاهرة والرياض وغيرها، استراتيجيات الأمن القطري الحقيقية، فلن يكون هناك أمل في التوصل إلى أي اتفاق"، على حد وصفعوختم غليون "لكن من المفيد في نظري تأكيد الالتزام بمؤتمرات القمة حسب مواعيدها وأجنداتها حتى نرسخ تقاليد سياسية وقانونية ضرورية للتقدم في المستقبل، ونضمن بناء مؤسسات تعيش وتتحرك بالرغم من الخلافات السياسية بين الحكومات والنظم القائمة. ولذلك أرى في انعقاد المؤتمر ذاته بحضور الجميع معنى أهم مما ينجم عنه من إنجازات بغياب البعض أو مقاطعة البعض" الآخر

vendredi, février 01, 2008

الطريق من غزة وإليها

الاتحاد 30 جنفييه 08


وصف يوري أفنيري سقوط معبر رفح على أيدي الفلسطينيين المحاصرين منذ سبعة أشهر بأنه حدث تاريخي يساوي في مغزاه سقوط جدار برلين. وكان هذا الجدار قد أقيم في وسط ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ليكرس تقسيم القوتين العظميين المنتصرتين في هذه الحرب، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، العالم إلى مناطق نفوذ لهما، وضمان استمرار النظام ثنائي القطبية الذي قام على هذا الاقتسام. ومن المعروف أن سقوط جدار برلين قد شكل ضربة قاضية لاتفاقيات يالطا التي ولد منها، في 12 فبراير 1945، النظام الجديد، وأنهى بالمناسبة نفسها تقسيم أوروبة بين كتلة شرقية وكتلة غربية، كما دق جرس إعادة توحيد ألمانيا الفدرالية وتطبيع العلاقات بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، وفي مقدمها عدوتها التاريخية فرنسا. وكان ذلك إشعارا بقرب مخاض توحيد أوروبة وولادة الاتحاد الأوروبي الذي يشكل اليوم أحد أهم التكتلات الدولية الناجحة في العالم.
لست متاكدا من أنه سيكون لفتح معبر رفح الدوي نفسه الذي قاد إلى انهيار النظام الأوروبي بل والعالمي القديم وولادة نظام جديد مكانه. لكن ليس هناك شك في نظري في أن فتح هذا المعبر بالقوة الشعبية ذاتها التي أسقط بها جدار برلين قد أعلن كما لم يحصل في أي وقت سابق إفلاس سياسة إسرائيل الفلسطينية وانهيار دفاعاتها التي أقامتها لعزل الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه وحرمانه من حقوقه الوطنية. وفي ما وراء ذلك يحمل هذا الإفلاس في طياته إفلاس النظام الإقليمي الذي نشأ من تطبيق اتفاقيات يالطا المحلية، أقصد اتفاقيات كمب ديفيد الشهيرة (17 سبتمبر 1978) التي أنهت سياسيا حرب أكتوبر 1973 وفككت المعسكر العربي وكرست انسحابه من المواجهة الاسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده أمام إسرائيل منتصرة وعاتية، حليفة استراتيجية للولايات المتحدة. وهو ما مهد لانتصار التيارات المتطرفة في المشروع الاسرائيلي وتبوء اليمين القومي والديني والعنصري الداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهويد جميع أراضي فلسطين وإلحاقها بالدولة العبرية، سدة السلطة في إسرائيل من دون انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا الوضع نفسه هو الذي سيشجع الاتجاهات الامبرطورية في الإدارة الأمريكية ويغذي، منذ وصول بوش الابن إلى السلطة في واشنطن، الحلم الأمريكي بالسيطرة الانفرادية والمباشرة على الشرق الأوسط وإلحاق جميع الدول العربية باستراتيجيتها الدولية.
لا يعني هذا الإفلاس انهيار هذا النظام الإقليمي ولا سقوط الاتفاقيات التي قام عليها ولكنه يمهد لحقبة قادمة من التخبط والانشقاق والتصدع داخل هذا النظام في أكثر من مكان ومستوى، والتي ستنتهي بتقويضه واستبداله بنظام آخر، من المبكر اليوم تحديد معالمه أو التأمل فيه نظرا للسيولة الكبيرة التي تتسم بها علاقات القوى المحلية والإقليمية. ومن بوادر هذا التصدع وأهمها في اعتقادي تفتت جدار العزل العنصري الذي تستند إليه بقوة سياسة إسرائيل التوسعية والاستعمارية العدوانية. ولا أعني بجدار العزل العنصري الجدار المادي الذي بنته سلطات الاحتلال في السنوات الماضية في الضفة الغربية لتكريس قطع الصلات تماما مع الفلسطينيين، وإجبارهم على العيش في معزل لا إنساني، وإنما ذاك الجدار الكامن في الفكر والشعور الاسرائيليين عموما، أعني العنصرية ذاتها التي نمت وترعرعت هي نفسها في حضن الاحتلال، وصارت العامل الأهم في إعادة إنتاجه أيضا. ومنذ الآن سوف تتعالى أصوات عديدة، في إسرائيل والعالم أجمع، أسكتها في العقود الماضية اليأس والاستسلام للأمر الواقع، لتعلن رفضها لسياسة الميز العنصري والحكم على شعب كامل بالحصار الدائم والموت. ومثل ما فرضت الأحداث على القاهرة العودة عن قرار إعادة إغلاق الحدود مع فلسطين، سوف تفرض على إسرائيل التراجع عن سياسة العزل والتجويع الجماعي والتنكيل بالسكان. وفي موازاة ذلك ستسقط أيضا مبررات بناء الجدار العازل الكبير في الضفة الغربية، بقدر ما سيكتشف الرأي العام، في إسرائيل والعالم أجمع، عجز سياسات القمع واستخدام القوة عن تشكيل مخرج أو حل للاحتلال، أي أن تكون بديلا عن الحل الحقيقي الذي هو ببساطة إنهاء الاحتلال بما يعنيه ويتضمنه من سياسات استعمارية واستيطانية.
لكن سقوط هذا الجدار، وما يعنيه من أخراج القضية الفلسطينية من الطريق المسدود يتوقف، منذ الآن وإلى حد كبير، على ما سيحصل في فلسطين وداخل الصف الفلسطيني نفسه. فلن يكون لإسقاط جدار العزل العنصري الاسرائيلي قيمة إذا استمر بإزائه جدار العزل والانقسام والتفتت السياسي الفلسطيني، الذي لم يفصل الضفة عن القطاع فحسب ولكنه فصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر كالأعداء. ويستدعي هذا تجاوز الاستراتيجيات الحزبية وإعادة بناء الجبهة الوطنية كمقدمة لإعادة توحيد الأرض والشعب الفلسطينيين. وفي هذا المجال تقع على حركة حماس مسؤوليات استثنائية في التحرر من أوهام الاستمرار في بناء دولة مستقلة في غزة والقبول بتنازلات وتضحيات كبيرة في سبيل إعادة الصدقية للسلطة ولمنظمة التحرير، أي للوحدة ا لفلسطينية، والمراهنة على الصراع من داخلهما ومع جميع قطاعات الرأي الفلسطيني لتعديل السياسة الفلسطينية وتقويمها. كما يتوقف على ما سيحصل داخل الدول العربية أيضا، من مبادرات شعبية وردود أفعال تقطع الطريق على إمكانية استعادة المبادرة من قبل النظام الإقليمي الناشيء في حضن اتفاقات كمب ديفيد ومتعلقاتها.
لقد نجح تدمير جدار برلين في تقويض النظام الدولي القديم، وإسقاط نظام القهر السوفييتي الذي قام عليه، بقدر ما قدمت الأوضاع القارية لشعوب أوروبة الشرقية النازعة للانعتاق فرصا للتقدم والاندماج في عملية إعادة بناء إقليمية شاملة رعتها الدول الديمقراطية القوية القائمة. وهو ما يفسر السرعة التي جرى فيها بناء الاتحاد الأوروبي أيضا في غضون سنوات من انهيار الجدار. وفي الشرق الاوسط لن ينجح فتح معبر رفح في كسر حصار غزة ما لم يتحول إلى إشارة الإنطلاق لكسر الحصار المفروض داخل البلاد العربية نفسها على الشعوب، وهدم جدران العزل المشادة في عموم المنطقة بوسائل ومناهج تختلف قليلا او كثيرا عن الوسائل والمناهج الاسرائيلية الفجة، وفتح المعابر الآمنة بين بلدانها وشعوبها.
لكن مهما كان الحال، يشكل ما حدث على معبر رفح إشارة إضافية إلى الاتجاه الجديد الذي تسير إليه الاحداث في المنطقة، وأعني به اتجاه عودة الشعوب، بعد تغييب طويل، إلى الانخراط في الحياة العمومية وانتزاع المبادرة من النظم والقوى الأجنبية معا. ولا ينفصل نمو هذا الاتجاه عما جرى ولا يزال يحصل في المنطقة من تغيرات عميقة تحصل في العمق، ربما كان أبرز أحداثها في السنوات القليلة الماضية انهيار الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية وإخفاق الاستراتيجية الاسرائيلية. الأولى بسبب نزعتها الانفرادية الامبرطورية التي وحدت في مواجهتها جميع دول العالم وشعوبه، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه، والثانية بسبب تسممها بالفكرة الاستعمارية الاستيطانية وإمعانها في إنكار الحقوق الفلسطينية ومراهنتها الكلية على مراكمة القوة واستخدام العنف لتحقيق أهدافها اللاأخلاقية.

mercredi, janvier 30, 2008

حتى يمكن فك الحصار عن غزة

الاتحاد 30 جنفييه 08
وصف يوري أفنيري سقوط معبر رفح على أيدي الفلسطينيين المحاصرين منذ سبعة أشهر بأنه حدث تاريخي يساوي في مغزاه سقوط جدار برلين. وكان هذا الجدار قد أقيم في وسط ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ليكرس تقسيم القوتين العظميين المنتصرتين في هذه الحرب، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، العالم إلى مناطق نفوذ لهما، وضمان استمرار النظام ثنائي القطبية الذي قام على هذا الاقتسام. ومن المعروف أن سقوط جدار برلين قد شكل ضربة قاضية لاتفاقيات يالطا التي ولد منها، في 12 فبراير 1945، النظام الجديد، وأنهى بالمناسبة نفسها تقسيم أوروبة بين كتلة شرقية وكتلة غربية، كما دق جرس إعادة توحيد ألمانيا الفدرالية وتطبيع العلاقات بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، وفي مقدمها عدوتها التاريخية فرنسا. وكان ذلك إشعارا بقرب مخاض توحيد أوروبة وولادة الاتحاد الأوروبي الذي يشكل اليوم أحد أهم التكتلات الدولية الناجحة في العالم.
لست متاكدا من أنه سيكون لفتح معبر رفح الدوي نفسه الذي قاد إلى انهيار النظام الأوروبي بل والعالمي القديم وولادة نظام جديد مكانه. لكن ليس هناك شك في نظري في أن فتح هذا المعبر بالقوة الشعبية ذاتها التي أسقط بها جدار برلين قد أعلن كما لم يحصل في أي وقت سابق إفلاس سياسة إسرائيل الفلسطينية وانهيار دفاعاتها التي أقامتها لعزل الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه وحرمانه من حقوقه الوطنية. وفي ما وراء ذلك يحمل هذا الإفلاس في طياته إفلاس النظام الإقليمي الذي نشأ من تطبيق اتفاقيات يالطا المحلية، أقصد اتفاقيات كمب ديفيد الشهيرة (17 سبتمبر 1978) التي أنهت سياسيا حرب أكتوبر 1973 وفككت المعسكر العربي وكرست انسحابه من المواجهة الاسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده أمام إسرائيل منتصرة وعاتية، حليفة استراتيجية للولايات المتحدة. وهو ما مهد لانتصار التيارات المتطرفة في المشروع الاسرائيلي وتبوء اليمين القومي والديني والعنصري الداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهويد جميع أراضي فلسطين وإلحاقها بالدولة العبرية، سدة السلطة في إسرائيل من دون انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا الوضع نفسه هو الذي سيشجع الاتجاهات الامبرطورية في الإدارة الأمريكية ويغذي، منذ وصول بوش الابن إلى السلطة في واشنطن، الحلم الأمريكي بالسيطرة الانفرادية والمباشرة على الشرق الأوسط وإلحاق جميع الدول العربية باستراتيجيتها الدولية.
لا يعني هذا الإفلاس انهيار هذا النظام الإقليمي ولا سقوط الاتفاقيات التي قام عليها ولكنه يمهد لحقبة قادمة من التخبط والانشقاق والتصدع داخل هذا النظام في أكثر من مكان ومستوى، والتي ستنتهي بتقويضه واستبداله بنظام آخر، من المبكر اليوم تحديد معالمه أو التأمل فيه نظرا للسيولة الكبيرة التي تتسم بها علاقات القوى المحلية والإقليمية. ومن بوادر هذا التصدع وأهمها في اعتقادي تفتت جدار العزل العنصري الذي تستند إليه بقوة سياسة إسرائيل التوسعية والاستعمارية العدوانية. ولا أعني بجدار العزل العنصري الجدار المادي الذي بنته سلطات الاحتلال في السنوات الماضية في الضفة الغربية لتكريس قطع الصلات تماما مع الفلسطينيين، وإجبارهم على العيش في معزل لا إنساني، وإنما ذاك الجدار الكامن في الفكر والشعور الاسرائيليين عموما، أعني العنصرية ذاتها التي نمت وترعرعت هي نفسها في حضن الاحتلال، وصارت العامل الأهم في إعادة إنتاجه أيضا. ومنذ الآن سوف تتعالى أصوات عديدة، في إسرائيل والعالم أجمع، أسكتها في العقود الماضية اليأس والاستسلام للأمر الواقع، لتعلن رفضها لسياسة الميز العنصري والحكم على شعب كامل بالحصار الدائم والموت. ومثل ما فرضت الأحداث على القاهرة العودة عن قرار إعادة إغلاق الحدود مع فلسطين، سوف تفرض على إسرائيل التراجع عن سياسة العزل والتجويع الجماعي والتنكيل بالسكان. وفي موازاة ذلك ستسقط أيضا مبررات بناء الجدار العازل الكبير في الضفة الغربية، بقدر ما سيكتشف الرأي العام، في إسرائيل والعالم أجمع، عجز سياسات القمع واستخدام القوة عن تشكيل مخرج أو حل للاحتلال، أي أن تكون بديلا عن الحل الحقيقي الذي هو ببساطة إنهاء الاحتلال بما يعنيه ويتضمنه من سياسات استعمارية واستيطانية.
لكن سقوط هذا الجدار، وما يعنيه من أخراج القضية الفلسطينية من الطريق المسدود يتوقف، منذ الآن وإلى حد كبير، على ما سيحصل في فلسطين وداخل الصف الفلسطيني نفسه. فلن يكون لإسقاط جدار العزل العنصري الاسرائيلي قيمة إذا استمر بإزائه جدار العزل والانقسام والتفتت السياسي الفلسطيني، الذي لم يفصل الضفة عن القطاع فحسب ولكنه فصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر كالأعداء. ويستدعي هذا تجاوز الاستراتيجيات الحزبية وإعادة بناء الجبهة الوطنية كمقدمة لإعادة توحيد الأرض والشعب الفلسطينيين. وفي هذا المجال تقع على حركة حماس مسؤوليات استثنائية في التحرر من أوهام الاستمرار في بناء دولة مستقلة في غزة والقبول بتنازلات وتضحيات كبيرة في سبيل إعادة الصدقية للسلطة ولمنظمة التحرير، أي للوحدة ا لفلسطينية، والمراهنة على الصراع من داخلهما ومع جميع قطاعات الرأي الفلسطيني لتعديل السياسة الفلسطينية وتقويمها. كما يتوقف على ما سيحصل داخل الدول العربية أيضا، من مبادرات شعبية وردود أفعال تقطع الطريق على إمكانية استعادة المبادرة من قبل النظام الإقليمي الناشيء في حضن اتفاقات كمب ديفيد ومتعلقاتها.
لقد نجح تدمير جدار برلين في تقويض النظام الدولي القديم، وإسقاط نظام القهر السوفييتي الذي قام عليه، بقدر ما قدمت الأوضاع القارية لشعوب أوروبة الشرقية النازعة للانعتاق فرصا للتقدم والاندماج في عملية إعادة بناء إقليمية شاملة رعتها الدول الديمقراطية القوية القائمة. وهو ما يفسر السرعة التي جرى فيها بناء الاتحاد الأوروبي أيضا في غضون سنوات من انهيار الجدار. وفي الشرق الاوسط لن ينجح فتح معبر رفح في كسر حصار غزة ما لم يتحول إلى إشارة الإنطلاق لكسر الحصار المفروض داخل البلاد العربية نفسها على الشعوب، وهدم جدران العزل المشادة في عموم المنطقة بوسائل ومناهج تختلف قليلا او كثيرا عن الوسائل والمناهج الاسرائيلية الفجة، وفتح المعابر الآمنة بين بلدانها وشعوبها.
لكن مهما كان الحال، يشكل ما حدث على معبر رفح إشارة إضافية إلى الاتجاه الجديد الذي تسير إليه الاحداث في المنطقة، وأعني به اتجاه عودة الشعوب، بعد تغييب طويل، إلى الانخراط في الحياة العمومية وانتزاع المبادرة من النظم والقوى الأجنبية معا. ولا ينفصل نمو هذا الاتجاه عما جرى ولا يزال يحصل في المنطقة من تغيرات عميقة تحصل في العمق، ربما كان أبرز أحداثها في السنوات القليلة الماضية انهيار الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية وإخفاق الاستراتيجية الاسرائيلية. الأولى بسبب نزعتها الانفرادية الامبرطورية التي وحدت في مواجهتها جميع دول العالم وشعوبه، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه، والثانية بسبب تسممها بالفكرة الاستعمارية الاستيطانية وإمعانها في إنكار الحقوق الفلسطينية ومراهنتها الكلية على مراكمة القوة واستخدام العنف لتحقيق أهدافها اللاأخلاقية.

mercredi, janvier 16, 2008

الليبرالية وتجديد ثقافة العرب السياسية

الاتحاد 16 كانون الثاني 08
اخذ علي البعض في مقال سابق استخدام صفة الليبرالية للتعبير عن التوجه العام الذي مثلته وتمثله المعارضة السورية التي ائتلفت في إطار إعلان دمشق. وكنت قد كتبت بالفعل أن نجاح المعارضة الديمقراطية في عقد مجلسها الموسع في الأول من ديسمبر الماضي، بالرغم من الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي تمنع التعبير عن أي شكل من أشكال المعارضة، سواء كان باليد أو باللسان أو بالقلب، يؤكد أن حركة المعارضة ليست طفرة سطحية وإنما تعبر عن موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية، في مقدمها ولادة نخبة ليبرالية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية الشمولية على الصعيد الدولي، وتحول البلاد نحو اقتصاد السوق، وما ينجم عنه من تمايزات وتوترات طبقية جديدة، وعطش الجمهور إلى لغة تقطع مع أدبيات البيرقراطية الحاكمة التي فقدت صدقيتها وترفض أن تخضع سيطرتها الطويلة لأي استفتاء شعبي. فقد وجد بعض ممثلي اليسار في هذا الاستخدام تهمة أو ما يشبه التهمة باليمينية. ورد رياض الترك قائلا نحن لسنا ليبراليين وإنما عقلانيين. وشك الليبراليون في أن يكون وراء هذا الاستخدام اتهام يساري لهم وللمعارضة بالمراهنة على الضغوط الأجنبية أو للتفاهم مع القوى الغربية لتحقيق الديمقراطية. ولا يخفى ما تتعرض له الليبرالية عادة من انتقادات من قبل التيارات الاسلامية على اختلافها.
وقد لفتت ردود الأفعال هذه نظري إلى مسألة استخدام المصطلحات في لغتنا السياسية الراهنة التي لا تزال قيد الإنشاء. وأعتقد أننا لن ننجح في بناء كلام أو خطاب متسق في السياسة، ولا بلورة لغة سياسية مفهومة من الجميع، لا تكون مصدر سوء تفاهم متجدد، من دون أن نتغلب على صعوبتين رئيسيتين يعملان كفخ لإمكانية التفاهم، ويحولان دون الفهم والتواصل بين المتخاطبين. الأولى ناجمة عن التعددية الدلالية الطبيعية الكامنة في كل مصطلح، من حيث هو تركيب تراكمي يشبه تماما تركيب الأرض الجيولوجي، لطبقات من المعاني والدلالات الخاصة بالحقب المختلفة التي استخدم فيها، وللسياقات التي شرطت استخدامه. والصعوبة الثانية الأكبر ناجمة عن الانحياز الذي يدفع القاريء إلى اختيار هذه الدلالة أو تلك للمفهوم، وتفسيره حسب ما يخدم مصالحه الايديولوجية أو السياسية، ليبني عليه موقفه الخاص. فالصعوبة الاولى ابستمولوجية بامتياز، يمكن تجاوزها بالتمرن على النظر العلمي والنقدي، بينما الصعوبة الثانية سياسية بالمعنى العميق للكلمة، تنبع من أن الخطاب، أي خطاب، لا يمكن أن يتجاوز شرط الصراع القائم بين الأفراد والجماعات على الموارد المختلفة، وبالتالي نزعة هؤلاء إلى إخضاع المصطلحات إلى حاجات بناء خطاب ينسجم مع طموحاتهم في الوصول إلى المكانة التي يحلمون بها، أو يعكس هذه المكانة ويكرسها من خلال تعميم الدلالة وضبط المعنى أو السيطرة عليه في مواجهة "معاني" الآخرين "الخصوم" وخطاباتهم أيضا.
ومن هذه المصطلحات الرائجة اليوم، والتي تشكل شركا للفكر بقدر ما تمثل ضرورة لفهم الواقع الدولي والمجتمعي الراهن، مصطلح الليبرالية. فهي تصف سياسة سائدة تؤكد على نجاعة منطق السوق في تنظيم الحياة الاجتماعية والدولية، في مواجهة سياسات التخطيط الحكومية أو إخضاع العملية الاقتصادية لمنطق سياسي أو أخلاقي قادم من خارجها. كما تصف موقفا فكريا وسياسيا يعبر عن فكر أولئك الذين قادوا منذ القرن الثامن عشر حركة التحرر من وصايات الدولة والكنيسة التي كبلت الأفراد وأجهزت على حرياتهم الفردية، وبالتالي حقوقهم الطبيعية. ففي الحالة الأولى تتساوى الليبرالية مع سياسة تحرير التجارة وإطلاق يد رأس المال من دون قيود والاحتكام إلى قانون المنافسة الاقتصادية. وهو ما يمكن وصفه بالرأسمالية المتجردة من أي قيود أو وصاية اجتماعية. وفي الحالة الثانية تتساوى الليبرالية مع الديمقراطية من حيث أنها دعوة كل فرد إلى التحرر من الوصايات الخارجية، وإلى تحمل المسؤولية إزاء نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه، ومقاومة كل أشكال تقييد الحرية وانتهاك حقوق الانسان، من أي مصدر جاءت، بما في ذلك رأس المال والسلطة الاقتصادية. وتتضمن الفلسفة الليبرالية بهذا المعنى فرضية تقول بإمكانية المراهنة على قدرة الأفراد في تطوير ملكاتهم والدفاع عن مصالحهم والتفاهم والتواصل في ما بينهم إذا أزيلت من طريقهم عوامل القهر والقمع التي كانت من سمات النظم الدولوية التقليدية.
والموقفان، كما اكتشف ذلك ماركس، لا يتفقان. فكلاهما ينفي الآخر. ولا يمكن تجاوز التناقض الجذري الذي يميز العلاقة بينهما إلا بالدمج الافتراضي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، أي إلا باعتبار الديمقراطية التعبير السياسي عن الرأسمالية، والاعتقاد بأن حرية السوق وحرية الفرد السياسية أمران مترابطان ومتماهيان تماما. وهذا هو أساس تحويل الليبرالية إلى ايديولوجية طبقة اجتماعية. وكما أثارت المطابقة بين الحرية السياسية والسياسات الرأسمالية اليمينية في مرحلة صعودها الأولى، ردود فعل قوية، عبرت عنها الايديولوجيات اليسارية الثورية التي وحدت بين الحريات الفردية والسيطرة الرأسمالية. يثير انبعاثها اليوم، ردود أفعال مشابهة لدى الجماعات القومية الاتنية والدينية، التي تمثل الاسلاموية أحد أهم تنويعاتها، بقدر ما تبدو الديمقراطية مرتبطة فيها بالأمبريالية أو بالسيطرة الأجنبية.
وبالمثل، ليس هناك ارتباط حتمي بين نزعة الحرية والانعتاق التي تعبر عنها الليبرالية ونزعة العداء للدين، حتى لو أن وجود الأخيرة ما كان ممكنا من دون نشوء النزعة العقلية والانسانية. ولا بينها والبرامج الاجتماعية اليمينية، ولا الرأسمالية كمنظومة اقتصادية، حتى لو أنها لم تكن ممكنة من دون تطور المجتمع الصناعي الذي حملته الرأسمالية. فالفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، وكانت ولا تزال الملهم الرئيسي لحركات مقاومة الرأسمالية ومناهضتها. وبعكس ما هو شائع اليوم، لم تأت الفكرة اليسارية كنقيض لقيم الليبرالية، وإنما جاءت من داخلها، وباسم تحقيقها الفعلي، أعني قيم الحرية والانعتاق الكامل للفرد من الاستلابات المادية والايديويولوجية المتمثلة في نظر ماركس في سيطرة الملكية الخاصة والاستغلال الطبقي والوعي الزائف. وهذا ما سعى ماركس إلى إبرازه موجها نقده إلى الرأسمالية، التي فتكت بقيم الليبرالية وخانتها بقدر ما أسست لديكتاتورية رأس المال وأصحابه، وليس لليبرالية ذاتها. ولم يكن لمشروعه الشيوعي غاية أخرى سوى التحقيق الفعلي لقيم الليبرالية وغاياتها. هكذا كان ماركس سليل الفكر الليبرالي وثمرته. ولا يغير ذلك أنه كان مفجره أيضا بقدر ما دفع طروحاته النسبية إلى حدودها القصوى.
كذلك، ليس هناك أي علاقة حتمية بين الليبرالية والتبعية للغرب أو للسيطرة الأجنبية والخضوع للمؤسسات الدولية الرأسمالية كما يبدو لنا اليوم. فقد اهتم الليبراليون الأوائل ببناء الأسواق القومية باعتبارها مفرخة للرأسماليات الوطنية. وكان دفاعهم عن السيادة مرتبطا بايمانهم بأن الدولة لا تخضع لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الإرادة العامة للمواطنين المكونين لها.
والقصد أن أشكال تحقيق الليبرالية في التاريخ تخضع لشروط وجود وحياة المجتمعات والبلدان والنخب الحاكمة وتراثها، أكثر مما تعبر عن اتساق الفكرة نفسها. ولهذا سوف يقدم لنا التاريخ ليبراليين من كل الأصناف، منهم من يتبع سياسات قومية تركز على حماية السوق الداخلية من المنافسة الأجنبية. وآخرون يؤكدون على دعم سياسات امبريالية واليوم عولمية تهدف إلى توسيع هامش المبادرة الاقتصادية. وفريق ثالث، خاصة في البلدان الفقيرة والتابعة، ينزع، بسبب وجوده المأزوم وضعف القاعدة المادية لنظامه، إلى المراهنة على المعونة وأحيانا الحماية الخارجية. لكن ليست هذه السياسات جميعا جزءا من الفلسفة الليبرالية ولا امتدادا ضروريا لها. فالليبرالية غير الليبراليين ولا ينبغي تخفيضها إلى مستوى ممارساتهم التاريخية، تماما كما أنه لا ينبغي توحيد الفكرة القومية آليا مع أي سياسة تمارسها هذه النخبة القومية أو تلك. وهو ما ينطبق أيضا على الفكرة الاشتراكية والاسلامية. وبالمثل ليس لليبرالية كفلسفة مدنية وسياسية علاقة ضرورية مع اقتصاد السوق. فهو سابق عليها، وإنما هناك سوق رأسمالية، وسياسات اقتصادية تتغير معالمها وآليات عملها أيضا من حقبة لأخرى ومن بلد لآخر، تتخذ من الليبرالية غطاءا ايديولوجيا ومصدر شرعية لها.
وفي اعتقادي إن الليبرالية من حيث هي فلسفة أخلاقية وسياسية، لم تفقد مكانتها كمصدر للقيم الرئيسية التي تحرك مجتمعاتنا وتوجه ثقافة عصرنا. فهي تكمن في قلب الحداثة من حيث هي تحرير وانعتاق للإنسان. وما سوف ينشأ من ثقافات سياسية، تقلل من أهمية الحريات الفردية، أو لا توليها أي أهمية، ولا تعتبر أن لها أي أسبقية منطقية أو سياسية في تحقيق أهداف الجماعات وبناء نظمها السياسية، مثل الثقافة الشمولية والعصبية الجمعية القومية أو غير القومية، وفي أيامنا الراهنة الرؤية الاسلاموية، ليست جميعا سوى أشكال من ثقافة المقاومة والاعتراض والاحتجاج على الثقافة الليبرالية السائدة وقيمها. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن لا يكون تاريخ الاجتماع السياسي الحديث سوى سجل الصراع بين ثقافة الليبرالية السائدة من جهة وايديولوجيات الاحتجاج التي تسعى إلى تقييدها أو إخضاعها لمنطق آخر غير منطق التطابق المفترض بين اقتصاد السوق ودولة الحرية، ولمعايير تنبع من الحرص على الانسجام والتكافل الاجتماعيين. وهو ما سوف يتجسد في تناوب حقبتين جيوثقافيتين على التوالي، ليبرالية وضد ليبرالية. فبقدر ما تقود الحقبة الليبرالية التي تراهن على توسيع هامش استقلالية الأفراد إلى نمو قيم الفردية، وتعمق في سياق ذلك نزعة الأنانية وتراجع آليات التضامن والتكافل المجتمعي، تمهد الأرض لعودة أشكال من الدولة الشمولية المتماهية مباشرة مع الجماعة القومية أو الدينية كجماعة عضوية، والمعادية للاستقلالية الفردية. وليس هناك شك في نظري أن العالم يعيش اليوم انبعاثا ليبراليا، نشأ كرد فعل على ما عرفته الثقافات الشمولية على مختلف أنواعها، القوموية والشيوعية والاشتراكية الوطنية، من هدر لاستقلال الأفراد وتضحية بحرياتهم واستقلالهم الفكري والسياسي الذي قاد بالضرورة إلى انحطاط شامل في النظام المجتمعي بأكمله. وهذا الانبعاث يشرط تفكيرنا جميعا، ويحدد أفق عملنا ونشاطنا.
فنحن اليوم، يساريين ويمينيين، إسلاميين وقوميين، اشتراكيين ورأسماليين، ليبراليون بالمعنى السياسي والثقافي، أي تحرريون نؤمن بأن ضمان الحريات الفردية ودولة القانون شرط ضروري لبناء منظومتنا السياسية والاجتماعية المدنية أيضا، بصرف النظر عن برامجنا الاجتماعية والقومية الخاصة وأهدافنا. بهذا المعنى أصبحت الليبرالية، بوصفها ثقافة الحرية، معيارا مشتركا لفكرنا السياسي، وقاسما مشتركا يجميع بيننا. وهي تمثل اليوم، بعد انهيار الصيغ الدولوية التي سيطرت في الحقبة الماضية، مرجعية الحقبة التاريخية التي نعيش، في كل مكان. ومن يرفض التفاعل مع هذه المرجعية، إسلاميا كان أم قوميا أم يساريا أم يمينيا، يدين نفسه بالعزلة والانكفاء والديناصورية.
بالمقابل، لا أعتقد أن لدينا في العالم العربي فكر ليبرالي مكتمل، بأي معنى من هذه المعاني، ولا اقتصاد ولا حزب وبالاحرى حكم ليبرالي. وما نعرفه منها في مجتمعاتنا لا يتعدى ممارسات شبكات مصالح ورجال أعمال تنتمي بشكل أكبر إلى منطق الصراع الوحشي وغير المضبوط على الموارد أكثر مما تعبر عن قيم الليبرالية، حتى في أسوأ تعبيراتها يمينية، وسياسات حكومية فوضوية، ونزوعات فكرية شبه ليبرالية تربط بين السياسات التخصيصية، والتبعية الاستراتيجية للغرب، والدفاع عن نظم سياسية مؤسسة على الاقصاء والاحتكار، وإعدام الحريات الفردية والجمعية، والتلاعب بالإرادة الشعبية. وتكاد هذه التوجهات جميعا، لسوئها الواضح وعواقبها المأساوية، تخجل من الافصاح الصريح عن ذاتها، أو من إعطاء نفسها اسما صريحا حتى لا تؤخذ بتهمة الخيانة الفكرية، وتجهد كي تبقي ليبراليتها المجهضة والمشوهة، متخفية تحت رداء من الطروحات الايديولوجية الاسلامية أو القومية أو العلمانية.
من هنا، يبدوا لي أن الهجوم الدائم لبعض تيارات لاسلام السياسي واليسار العربي على الليبرالية لا يمس بسوء سياسات الرأسمالية المتوحشة التي تعرفها اليوم مجتمعاتنا، ولا التبعية البنيوية التي تستبطنها، كما يعتقد أصحابها، وإنما تستخدم بشكل رئيسي لقطع الطريق على روح التحرر والانعتاق الناشئة، التي توحدها خطأ مع الرأسمالية والسيطرة الاجنبية. ولا تستفيد من هذا الهجوم اليوم سوى النظم التسلطية التي تريد أن تقتل هذه الروح في مهدها. ولن تكون ثمرة تسفيه الليبرالية ودفن أفكارها وفلسفتها سوى الحكم على مجتمعاتنا بالغرق أكثر في الرثاثة الثقافية والإستغراق في اجترار التراث والحياة فيه.
لا يعني ذلك الكف عن نقد الليبرالية، تماما كما لا يعني تقديس الحداثة وقيمها، وإنما التمييز في هذا النقد، من جهة أولى بين معاني الليبرالية ووجوهها المختلفة، حتى لا نرمي الوليد مع ماء الولادة، ومن جهة ثانية بين الفكرة الأصلية وتطبيقاتها على يد هذه النخبة أو تلك. وكما ان من المفيد أن نفصل بين الليبرالية السياسية التي تؤسس للديمقراطية، والليبرالية الاقتصادية، كما أخذت تشيع منذ خطف اليمين الرأسمالي فكرة الحرية الفردية ودمجها مع سياسات اجتماعية لا تأخذ بالاعتبار إلا مصالح تراكم رأس المال، من المفيد كذلك أن نفصل الليبرالية عن التبعية للدول الغربية، ولا نعتبر أي ليبرالي حليفا كامنا للقوى الاستعمارية، كما يفعل كثير منا اليوم. فمن دون تمثل الليبرالية، أي استيعاب قيمها ومفاهيمها ونقدها معا، لن يكون بإمكاننا، مهما فعلنا، تجاوزها، وأهم من ذلك سيكون من المستحيل علينا أن ننجح في تخصيب ثقافتنا البالية وبناء حياة فكرية حقيقية وتجديد أسس حياتنا السياسية.

dimanche, janvier 06, 2008

الجماعة والجماعة السياسية والمواطنة

تعليق على ورقة المستشار طارق البشري
الجماعة السياسة والمواطنة من منظور إسلامي
ندوة القومية والدين، الاسكندرية، 11-12 ديسمبر 2007

يقدم لنا المستشار طارق البشري في ورقته رؤية منفتحة لمسألة المواطنية في منظور ما أصبح يسمى الاسلام السياسي، بجميع تياراته، تمييزا له عن الاسلام الذي لا يمكن أن يحتكر أي شخص او تيار سياسي حق الكلام باسمه أو تفسير نصوصه الأساسية. بيد أن هذا الانفتاح لا يمنع من أن مسائل كثيرة لا تزال تحتاج إلى مناقشة وتطوير في هذه الرؤية الاسلاموية للمواطنية. وأكتفي هنا بالإشارة إلى نوعين منها، تتعلق الأولى بمفهوم الجماعة والجماعة السياسية نفسها، وهو ما يستمد منه مفهوم المواطنية معناه، وتتعلق الثانية بمسألة مرجعية الدولة الاسلامية أو المرجعية الاسلامية للدولة.
1- في مفهوم الجماعة والجماعة السياسية
يعرف المستشار الجماعة السياسية بأنها "... مجموعة من البشر تتحدد بوصف لصيق يشملها ويميزها عن غيرها من المجموعات، وهي مرشحة لأن تقوم على أساسها الدولة، وإذا كانت المواطنة هي صفة الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية قامت على أساسها الدول، وبحسبان أن المواطن هو الطرف المقابل للدولة، فقد وجب النظر في مدى ما تنتجه المواطنة للمندرجين في وصفها من حقوق متساوية".
من الواضح أن هذا التعريف يربط بشكل تلقائي بين مفهوم الجماعة عموما ومفهوم الجماعة السياسية، فلا يلحظ أي تمييز بين أنماط الجماعات السياسية، تلك التي تقوم على أساس رابطة الدين وتعطي مفهوم الأخ المؤمن، وتلك التي تقوم على رابطة السياسة وتعطي مفهوم المواطنية. والحال، ليس جميع الجماعات جماعات سياسية، وليست كلها مؤهلة لتوليد جماعة سياسية، وليست الجماعات السياسية الناجمة عنها متشابهة في معناها ومضمون سياسيتها. والقصد أن نصاب السياسة ليس واحدا، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. نصاب السياسة في العصر الوسيط ليس هو في العصر الحديث. وهو ليس في العصر الوسيط بالمضمون ذاته في القطر الأثيني والقطر المصري أو العراقي. بمعنى آخر، لا تتأسس الدولة، محور السياسة وغايتها، على الأركان ذاتها في كل حقبة وكل مكان. فقد تقوم الدولة على الدين، كما يمكن أن تقوم على القومية، كما يمكن أن تقوم على القانون، وتكون دولة ديمقراطية قانونية. ونصاب السياسة، أي مشمولاتها من مجالات وطرائق ووسائل وغايات، ليست واحدة في كل الحالات. وما نسميه دولة في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية ليس له علاقة بمفهوم الدولة الحديثة، كما نعرفه في العصر الراهن، وإن كان يشكل نمطا من أنماط الكيانات السياسية.
قد تكون الرابطة الدينية أساسا لرابطة سياسية، وقد تتطابق جماعة الدين مع جماعة الدولة، أو الجماعة السياسية، لكن هذا ليس شرطا، ولا يمثل الحالة السائدة في التاريخ. وهو في العصر الحديث أكثر ندرة من أي فترة سابقة. فلا توجد اليوم جماعة دينية متطابقة تماما مع الجماعة السياسية، ولا يستثنى من ذلك الدول القائمة صراحة على الرابطة الدينية، مثل إسرائيل وباكستان. وبالعكس لا تقوم السياسة اليوم، من حيث هي تحقيق لسلطة ودولة، من خارج الرابطة السياسية. ذلك أن السلطة والدولة الحديثتين تستدعيان كشرط لهما تراجع أسبقية علاقات العصبية الطبيعية أو شبه الطبيعية لصالح نشوء علاقة مواطنية قائمة على وحدة القانون ومساواة المواطنين أمامه معا.
وليست العلاقة بين الجماعة السياسية والدولة واحدة في كل الأنماط السياسية. فعلاقة الدولة بالجماعة الدينية في الحقبة الاسلامية ليست من النوع ذاته الذي يحكم علاقة الدولة الحديثة بالأمة. فالدولة في النمط الأول مضافة إلى الجماعة من خارجها، أو آلة قهر خاصة تسندها شرعية دينية مستمدة من مطابقة تشريعاتها، فعليا أو شكليا، لأحكام الشريعة الدينية أو ما يعتقد أنه كذلك. أما الدولة الحديثة، في شكلها المكتمل الديمقراطي، فهي دولة معبرة عن الجماعة ومنبثقة عنها. بل هي الجماعة ذاتها وقد تجسدت في شكل مؤسسي منظم. وهي تستمد شرعيتها من نفسها، أي من آلية التمثيل الديمقراطي نفسه المعبر عنه في مجلس تشريعي منتخب. في الحالة الأولى تكون الدولة سلطانية، خاضعة للعصبية التي تستبد بسلطتها وتسيطر عليها، وتخضع من خلالها المجتمع لنظام ثابت. وفي الحالة الثانية تكون دولة أمة، تعكس نشوء رابطة سياسية تجمع بين مواطنين، وتترجم إرادتهم في العيش المشترك، وترجع إليهم في كل ما يتعلق بمصالحهم العامة والخاصة، وتعمل من خلال مباديء دستوية وقانونية واضحة ومضبوطة، من حيث أسلوب التشريع وضبط أصوله وقواعد عمله وتعديله.
وكما يتطلب تحديد مفهوم الجماعة التدقيق في الدلالات المختلفة لمصطلح الدولة، السلطانية والديمقراطية، يتطلب تحديد مفهوم الدولة التدقيق في استخدام مصطلح الامة. فالأمة بالمعنى الديني، وهنا الأمة الاسلامية، ليست هي نفسها المقصودة بالمعنى الوضعي، أي الأمة الحديثة المواطنية. فعندما نتحدث عن الامة أو الجماعة السياسية اليوم فنحن لا نشير إلى الجماعة الدينية، أو إلى الجماعة الدينية بوصفها جماعة سياسية، ولكن إلى رابطة سياسية مختلفة كليا عن الرابطة الدينية، من دون أن تكون نقيضا لها أو في صراع معها. وهذا التمييز مهم جدا في نقاشنا حول الأوضاع العربية الراهنة التي لا تتطابق الدول القائمة فيها مع الجماعة الدينية بأي شكل. وعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن إجماع الأمة، من منظور الفقه الاسلامي، ونعني به إجماع الأكثرية الإسلامية في هذا البلد أو ذاك، فنحن ننفي وجود الأمة بالمعنى السياسي، ونرد الرابطة السياسية الجديدة، ربما من دون أن ندري، إلى الرابطة الدينية، ونجعل من غير المسلمين حتما مواطنين مختلفين أو مغايرين، يمكن أن نفكر بأفضل السبل لمعالجة مشكلتهم وضمان العدالة تجاههم، وحتى المساواة، إلا أننا ندمر معنى الأمة بالمعنى الحديث الذي يعني الرابطة السياسية المستندة إلى وجود دولة وسلطة مركزية موحدة وقانون، تتعامل مع المجتمع كأفراد لهم حقوق وعليهم واجبات، أي كأفراد متساوين أمام القانون، ولا تنظر في اعتقاداتهم سواء أكانت دينية أو غير دينية، ولا يهمها إصلاح هذه الاعتقادات أو التدخل في شؤونها. هذا مفهوم آخر للأمة يشير إلى رابطة سياسية قانونية تجمع بين الأفراد بصرف النظر عن اعتقاداتهم، يختلف كليا عن مفهوم الأمة بمعنى الجماعة الدينية التي تؤلف بين أفراد ينتمون إلى عقيدة واحدة هي محور إئتلافهم، وبالتالي وبالضرورة مرجعهم في كل ما يصدر عنهم ويؤسس لوجودهم، بما في ذلك الدولة التي ينضوون تحت جناحها.
وربما كان من الأنسب لإزالة الالتباس استخدام مصلح الرابطة السياسية التي تمر حتما عبر الدولة، سواء أكانت قائمة فعلا أو في مسار التكوين، كما هو الحال لدى الحركات القومية الحديثة. فكما ذكرت ليست سياسية أو منتجة لنصاب سياسي وبالتالي لدولة أي جماعة أو رابطة بين الأفراد. رابطة الدين والعقيدة والعصبية القبلية والعائلية ليست رابطة سياسية، وليست منتجة تلقائيا، مهما توسعت دائرة نفوذها وانتشارها، لرابطة سياسية. حتى تتحول كل منها أو بعضها إلى رابطة سياسية لا بد أن تطرأ عليها، أو تكون قد طرأت عليها، تحولات عميقة، أي حصلت فيها طفرة، تنتقل بموجبها روح التكافل من إطار العصبية المرتبطة بمشاعر القرابة العضوية، العقيدية أو الدموية، إلى إطار الوعي السياسي بمصير مشترك مرتبط بوجود الدولة، وبالوجود معا داخل الدولة، وبالمسؤولية عنها. لذلك لا تنفصل الأمة بالمعنى السياسي الحديث عن وجود الدولة، ولا يمكن التفكير فيها خارجها. وحتى عندما يكون الوعي السياسي مرتبطا بمشروع أمة تتجاوز حدود الكيانات السياسية القائمة، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية، فإن فكرة الأمة لا تستقيم من دون التفكير بدولة الوحدة. بل إن مبرر وجود القومية العربية وهدفها هو تكوين الدولة الواحدة. فالأمة بالمعنى السياسي، أي كرابطة بين أفراد يوحدهم الولاء للدولة القائمة والخضوع لقوانينها، لا تنفصل عن الدولة بالمعنى الوضعي، أي كنتاج إرادة الأفراد واختياراتهم، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك المباديء والقوانين التي تقوم عليها.
وعدم التمييز بين مفهوم الأمة بالمعنى الديني والمعنى السياسي هو الذي منع المستشار من إدراك أن الحديث عن أكثرية وأقلية دينيتين، حتى في إطار الدفاع عن مبدأ المساواة، لا معنى له في إطار المفهوم الوطني للدولة. إذ متى ما طبقت فكرة الأمة بالمعنى الحديث الذي يجعل منها التجسيد السياسي لإرادة أعضائها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم، تساوى أفرادها امام القانون، وأصبحوا شركاء متساوين في مشروع أو شركة واحدة هي الدولة، ومنتمين لقانون هو ثمرة اختيارهم وإرادتهم الحرة، ولم تعد الاعتقادات الدينية مكانا للتعريف داخل الدولة وعلى مستواها، حتى إن استمرت محددا أساسيا على مستوى الحياة المدنية والأهلية. وتنتفي في هذه الحالة الحاجة إلى التذكير بالنسبة العددية لهذه الجماعة أو تلك إلى مجموع السكان، ولا يعود لهذه النسبة أيضا أي قيمة في تحديد العلاقة بين الفرد المواطن والدولة. فليس للمسلم أو لا ينبغي أن يكون له، في منظور الدولة الديمقراطية القائمة على المساواة في المواطنية، مزايا خاصة في علاقته بالدولة تترتب على انتمائه إلى جماعة تشكل أكثرية دينية، ولا للمسيحي واجبات مختلفة أو أكثر لأنه ينتمي إلى جماعة تمثل أقلية دينية. بمعنى آخر ليس للحديث عن أقليات واكثريات دينية أي معنى في ميدان العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد، ولا بالتالي للكلام في المساواة بين الجماعات الدينية أو إنصاف جماعة ضد أخرى، بسبب حجمها أو موقعها، اللهم إلا على سبيل احترام خصوصية بعض الجماعات الثقافية.

2- مسألة مرجعية الدولة الاسلامية
في هذه المسألة أيضا، يبدو لي أن من الصعب جدا، انطلاقا من منطق الفكر السياسي الحديث، فهم الاستنتاج الذي يتوصل إليه سيادة المستشار عندما يكتب مثلا في نهاية بحثه:
" والحال أن الدستور عندما يؤكد على إسلامية الدولة، فهو يؤكد أيضًا على حقوق المساواة بين المواطنين جميعًا، ويؤكد الحقوق المتساوية المستقاة من مبدأ المواطنة، وهو بهذا الجمع بين النصّ على إسلامية الدولة وأن مرجعيتها هي مبادئ التشريع الإسلامي، والنصّ على المساواة بين المواطنين، إنما يكون قد اعتمد من وجهات النظر الإسلامية ما يؤكد على المساواة بين المواطنين، ويكون قد أقرّ بأن المساواة بين المواطنين هي مما يعتمده من المبادئ المستندة إلى الفقه الإسلامي. والمعروف في أصول الفقه الإسلامي أن لولي الأمر - إمامًا كان أو قاضيًا - أن يرجح من الآراء التي يسعها الفقه الإسلامي ما يرى ترجيحه، فيصير هذا الرأي هو ما يكتسب الشرعية في الحالة العينية التي رجح فيها، وذلك كله ما دامت وجوه النظر الفقهي تسع هذا النظر".
ربما كان المقصود أن دين الاسلام هو دين المساواة بين البشر، والدولة التي تعلنه مرجعا لها لا يمكن إلا أن تكون دولة مساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الدينية. لكن في هذه الحالة من الذي يحدد مباديء التشريع الاسلامي ويسهر على تفسيرها، وما الذي يضمن أن لا يزوغ الفقيه الذي سيتولى تلك المهمة، إماما كان أو قاضيا، عن الحق ما دام لا يخضع لمرجعية أخرى سوى مرجعية النص الذي يملك وحده، أو يعتقد أنه يملك مفتاحه؟ وكيف يمكن أن تستقيم المساواة، بين المواطنين، مسلمين ومسيحيين ولا متدينين، إذا كانت الدولة وقوانينها مستمدة من شريعة أو ما يعتقد أنه شريعة فئة واحدة منها؟ لعل المستشار يرى في المساواة نوعا من التوزيع العادل أو الاحترام المتبادل للحقوق، وهنا حقوق الأقليات الدينية بشكل خاص. لكن ما هو الموقف من حق المواطنين من غير المسلمين في المساهمة في صوغ قوانين البلاد وتشريعها؟
من الواضح أن طارق البشري لا يأخذ تماما بالنظرية الفقهية التقليدية التي تقر بمشاركة غير المسلمين في قضايا التنفيذ والتفويض، مع الاحتفاظ بقضايا التشريع أو بكل منصب يتضمن التشريع، حكرا على المسلمين. لكن الأسلوب الذي يختاره لتجاوزها، وإن نجح في الالتفاف على الاعتراضات القديمة، إلا أنه يعجز عن تلبية حاجات بناء منطق مواطني جديد. فهو يبيح ولاية المرأة وولاية غير المسلم في المناصب التشريعية، انطلاقا من التأكيد على أن الشخص لم يعد هو صاحب القرار في الدولة الحديثة وإنما هو يعمل ضمن مؤسسة، تضبط عمله وتتحكم هي نفسها بقراره، وبالتالي فلا حرج في أن يتولى المسؤولية العليا في هذه المؤسسات، غير مسلم. لكن هذا التخريج الفقهي الجميل لا يستقيم في الواقع إلا إذا كانت هناك ضمانة في أن تبقى المؤسسات خاضعة للإسلام أو محكومة بمنطق الشريعة الاسلامية. وهذا هو هدف التاكيد على المرجعية الاسلامية للدولة، وفي ما وراء ذلك، العداء غير المفهوم في نظري لمفهوم علمنة الدولة، أو إخضاعها لإرادة مواطنيها من دون فرض التزام ديني أو عقائدي عليها. وهذا يشبه ما كان عليه الامر في النظم الشيوعية أو القومية المرتبطة بثوابت تحد من سيادة الشعب وتؤطر قراراته ضمن صيغة لا تفيد إلا من يضعون انفسهم في موقع الوصاية على الدولة والشعب، أعني حماية العقيدة ونقاءها.
يبدو لي أن هناك مشكلة لا يمكن حسم مسألة المرجعية الاسلامية، أي علاقة المسلمين بالدولة، والعرب منهم بشكل خاص، من دون الاجابة عنها. وهذه المشكلة تنبع من الشعور السائد عندنا نحن المسلمين بأن كوننا أكثرية من السكان يرتب لنا حقوقا على الدولة، أو يعطينا الحق في حيازة حصة أكبر منها، وبشكل خاص في ما يتعلق بالمرجعية والتشريع. كما لو كانت هناك حقوق إضافية للأغلبية الدينية تمكنها من المطالبة بجعل دينها مرجعية للدولة. وهو ما يؤدي حقيقة إلى قطع الطريق تماما على بناء مفهوم الدولة والجماعة السياسية.
والحال إن الأغلبية الوحيدة المعترف بها رسميا في الدولة الحديثة هي الأغلبية السياسية. على الأغلبية الدينية أن تعبر عن نفسها عبر الأغلبية السياسية لا أن تفرض نفسها عليها من خارجها. هذه هي قاعدة العمل في الدولة الديمقراطية. ولكل دولة قاعدة عمل. لا يمكن وضع قاعدة الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية معا. هذا يخلق تناقضا لا يمكن تجاوزه، هو ما نعيشه ويحرمنا من التقدم. علينا أن نقر بقاعدة الاغلبية السياسية التي لا تعني أبدا نفي الأغلبية الدينية، وإنما تمييز إطار التعبير عن كل منهما: السياسية في الدولة وفي كل ما يتعلق بالعلاقة معها، والدينية في المجتمع وكل ما يتعلق بالهداية الروحية والتربية البشرية والصراع على حقل الثقافة وتكوين الوعي وتسويد القيم الاجتماعية. فميدان الدين هو الجدال، أي الوعي والعقل والروح، لأن الدين يخاطب الإنسان والعقل، وميدان السياسة هو الأصول الإجرائية والقانونية التي يقوم عليها النظام العام، والتي تهدف إلى تنظيم أمور الهيئة الاجتماعية الاعتبارية، والسهر على شؤونها، والعناية باستقرارها وتقدمها وازدهارها.
لا يمكن للمسلمين أن يطالبوا بحقوق إضافية أو بمزايا خاصة للأغلبية الدينية في إطار علاقتهم بالدولة، إذا كانوا يريديون بالفعل دولة ديمقراطية، قائمة على علاقة بين مواطنين أحرار، ومكونة لحريتهم ومساواتهم أو لمواطنتهم معا. وليس من المنطق أيضا أن يسعوا إلى ذلك بينما هم أغلبية تتمتع بحكم الواقع بمزايا الأغلبية، وتفرض حتما، ومن دون اختيار، ثقافتها ورموزها وأذواقها على المجتمع ككل. من يحتاج إلى اتخاذ احتياطات، وربما المطالبة بمزايا خاصة أو باستثناءات، هي الأقلية الدينية أو القومية. ولا يمكن لمطالبة الأغلبية بمزايا فوق ما يقدمه لها وزنها العددي النسبي منها، إلا أن يفسر على أنه محاولة لقطع الطريق على مطالبة الأقليات بحقوقها المتساوية، أي على نشوء مواطنية متساوية وحرة بالفعل، بعيدة عن أي إكراه. في إطار نظام سياسي يعتمد قاعدة الأغلبية السياسية ويأخذ بالديمقراطية والمساواة بين أبناء الدولة جميعا، تعمل هذه النزعة بعكس المطلوب. أقصد أن من المفروض أن تقدم الأغلبية الدينية أو القومية التي لا خطر على هيمنتها الثقافية، هي نفسها، ضمانات تطمئن الأقلية الدينية أو القومية وليس العكس.
متى ما نظرنا إلى الأمة بالمعنى السياسي وصرفنا النظر عن التميزات الدينية والإتنية، لم يعد هناك معنى للحديث عن مرجعية إسلامية. فالاسلام مرجعية الجماعة المسلمة والمسلمين، بصرف النظر عن صفتهم كمواطنين، وعن الدولة التي هم مواطنون فيها، أو بالإضافة إلى مواطنيتهم، التي لا ينبغي أن يزيدها الانتماء لدين ولا ينقص منها الانتماء لدين آخر قوة أو قيمة. لكن مرجعية الدولة لا يمكن أن تكون سوى الشعب، أي مجموع الأفراد المنضوين تحت لواء الدولة، والمسؤولين عن تسييرها والمشاركة في صوغ تشريعاتها وتطبيق قوانينها. وهذا هو معنى العبارة : الشعب مصدر السلطات، وإليه يكون الرجوع حتما، عبر الانتخابات والاستفتاءات، كلما تعرض المجتمع لأزمة، أو حصل اختلاف في تفسير القوانين والنصوص. والحديث عن مرجعية إسلامية مسبقة تحدد سقف الحرية والعدالة والمساواة في الدولة يعنى وضع شرعية أخرى إلى جانب الشرعية الديمقراطية المتمثلة في إرادة الناخبين وقبولهم، هي الشرعية الدينية التي لا يمكن أن تتحقق من دون وصاية فقهية تحدد، كما هو الحال في الجمهورية الاسلامية الايرانية اليوم على سبيل المثال، تطابق قوانين البلاد المشترعة في المجلس النيابي مع أحكام الفقيه الولي أو الوصي، أي مع إرادة المرشد العام للثورة او للدولة.
وبعكس ما يعتقد أصحاب نظرية مرجعية الدولة الاسلامية، لا تكمن المشكلة الرئيسية في هذه النظرية في تحويلها غير المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية، أو في ما يمكن أن تسببه من انتقاص في حقوقهم وتمثيل مصالحهم، وإنما، أخطر من ذلك، في قطع الطريق على نشوء علاقة مواطنة فعلية، وإجبار المسلمين على التصرف باعتبار كل فرد منهم عضوا في طائفة دينية، قبل أن يكون مواطنا حرا وعضوا في دولة ، أي حرمان المسلمين أنفسهم من صفة المواطنين، وتحويل الدولة إلى زعامة قبلية. فما يميز الطائفة عن الجماعة الدينية هو بالضبط قيامها على مبدأ العصبية الذي لخصه القدماء في عبارة قوية : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، أي إلى ما يشبه القبيلة التي تتصرف بدافع التضامن العصبي ضد قبائل أخرى. فيصبح مصير المسلم وتفكيره مرتبطين بمنطق الدفاع عن العصبية القبلية التي تمثلها جماعة لم يعد فيها أحد يحتكم إلى العقل ولا يستند في سلوكه إلى مباديء الايمان وقيم الدين الأخلاقية والإنسانية، وإنما إلى مصلحة الطائفة ومكانتها وموقعها في الدولة. إن مشكلتها كامنة في تجريد المسلم نفسه من حقوقه في أن يكون فردا حرا ومستقلا ومجتهدا في الدين وفي السياسة معا، من دون كنيسة ومن دون كهنوت ومن دون زعامة دينية طائفية مفترضة، وبالتالي في مصادرة إرادة المسلمين كأفراد من أجل تكوين زعامة عصبية تحكم باسمهم في إطار الصراع على الموارد وتوزيع الحصص في دولة فرغت من مضمونها، وأصبحت ضحية تفاهم زعماء الطوائف ونزاعاتهم الأبدية، على مثال ما هو قائم في لبنان وما يراد له أن يقوم بالقوة والعنف في العراق.
من هنا لا ينبع الاعتراض على فكرة مرجعية الدولة الاسلامية من اعتراض على الدين نفسه، ولا على مكانته الاجتماعية أو هيمنته الثقافية والفكرية، ولا على حق الأكثرية المسلمة في تسويد قيمها وأسلوب حياتها حيث هي أغلبية، وإنما من الاعتقاد بأن استقلال الدولة عن جميع الزعامات والقيادات الدينية والفلسفية، وارتفاعها عن التدخل في الشؤون الروحية، في أي صورة جاءت، باستثناء تمكين أصحاب الأديان من ممارسة عباداتهم واعتقاداتهم بحرية، وتوفير وسائل هذه الممارسة المادية والمعنوية، هو شرط نشوء رابطة جديدة بين أعضاء المجتمع المكون من مذاهب واديان واعتقادات مختلفة ومتعددة ومتباينة حتى داخل الدين الواحد، هي رابطة الوطنية التي تجمع الأفراد، عبر الطوائف والمذاهب جميعا، وتؤلف منهم شعبا واحدا. ووسيلة هذا الجمع وذاك التأليف هي بالضبط تكوين المواطنية التي تعبر عن ضمان مكانة واحدة للأفراد كافة، مرتبطة هي نفسها بإقرارهم لبعضهم البعض حقوقا واحدة، يترتب عليها مسؤوليات واحدة وواجبات متساوية أيضا. وفي هذه المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى العلاقة بالدولة والسياسة، يعاد بناء الفرد كمواطن، ويتم تجاوز تمايزه على مستوى المجتمع المدني كمؤمن أو صاحب اعتقاد مختلف وعضو في جماعة أهلية متميزة. من دون بناء هذه الرابطة الموحدة من خلال مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات، لا يمكن الخروج من نزاعات المجتمع الأهلي واختلافاته وتمايزه، ولا بناء دولة أمة ومواطنية.
بديل ذلك سيكون بالضرورة إما الفوضى والنزاع الدائم بين طوائف وقبائل لا رابط بينها، لأنها لم ترتفع إلى مستوى المبدا السياسي، أو حكم الطائفية أو القبلية أو المافيا النابع من نجاح إحدى الجماعات الأهلية الخاصة في اختطاف الدولة، التي نشات في السياق التاريخي الخاص لنزع الاستعمار، والسيطرة عليها واستخدامها كأداة وآلة لإخضاع الطوائف والقبائل والجماعات الأهلية المتفرقة الأخرى، وفرض الإذعان عليها، واستعبادها لتحقيق مصالح خاصة أو مآرب وأمجاد شخصية لزعاماتها.
مهما أجرينا من تعديل على الصيغة الأساسية للايديولوجية الاسلاموية، لن يكون من الممكن تحويل الاسلام، وهو رابطة دينية واعتقادية أصلا، إلى أساس لرابطة سياسية تجمع بين المسلم والمسيحي والبوذي وغير المؤمن. بل ليس من الممكن في نظري، مهما خففنا من مطالب هذه الدعوة ومن مغالاة أصحابها أو بعض أصحابها، إعادة بناء الرابطة الإسلامية المفككة، أي إحياء الجماعة الدينية، انطلاقا من تأكيد المرجعية الإسلامية للدولة والدعوة لها، ولا تجاوز التمايزات والاختلافات المتفاقمة بين أبنائها بسبب تباعد مصالحهم الاجتماعية وتباين انتماءاتهم السياسية وتعدد ولاءاتهم الفكرية وتطلعاتهم الفردية والجمعية. ولن تكون نتيجة هذه المحاولات والمساعي النبيلة سوى إضاعة فرصة بناء الرابطة السياسة ودولة المواطنة، وإضعاف قدرة المسلمين على مواجهة مخاطر الانقسام والاختلاف الديني والمذهبي وما يقود إليه من توسيع دائرة الفتنة والاقتتال في ما بينهم، كما هو قائم اليوم في أكثر من قطر من أقطارنا.

mercredi, janvier 02, 2008

مقدمة لعام 2008 في بؤس النخبة العربية

الاتحاد 2 جنفييه ك2 2008

ليس من الصعب على أي مراقب، خارجيا كان أم محليا، أن يدرك أن أي تقدم لم يحصل في معالجة أي من الملفات الكبرى المرتبطة بأزمة العالم العربي في عام 2007 الفائت: ملف الاحتلالات والنزاعات المتفجرة بين الدول والشعوب، وعلى رأسها مسألة فلسطين، وملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة، وملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية، وملف التغيير السياسي وتمكين الشعوب من المشاركة في القرارات السياسية وإصلاح الأنظمة التسلطية، الأمنية والبيرقراطية، التي أصبحت مثالا للفساد وانعدام المسؤولية وهدر موارد المجتمعات والعجز عن تحقيق أي إنجازات اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية.
هكذا، ما كان من الممكن لنا أن نتوقع سوى تفاقم الأزمة الكبرى التي تعصف بمجتمعاتنا منذ سنوات طويلة، وتزايد مظاهرها الخطيرة، من الاحتلالات والتدخلات الخارجية، إلى الحروب والنزاعات الداخلية المسلحة، مرورا بالانقسامات داخل الحركة الوطنية، والاحتقانات والتوترات في العلاقات العربية العربية والعربية الغربية، والخصومات الطائفية والمذهبية والعشائرية المهددة لوجود الدولة نفسها، وفي موازاة ذلك تراجع مستوى حياة السكان، وزيادة الفقر والبطالة، وتزايد عدد البؤر المتفجرة للمطالب والاحتجاجات الاجتماعية في أكثر من مكان.
وليس من الصعب كذلك على أي مراقب، مختصا كان أم شخصا عاديا، أن يتوقع تحولات ايجابية، عندما ينظر إلى الأوضاع التي خلفها العام الفائت والشروط التي يبدأ فيها مسار العام الجديد. وربما كان العكس هو الصحيح. فما هو السبب الذي يجعل عام 2007 أسوأ من عام 2006 وعام 2006 أسوأ من العام الذي سبقه، وعام 2008 أكثر سوءا من العام الفائت، وكيف نفسر مسار التدهور المستمر والثابت في شروط وجود العالم العربي وتفاقم أزماته الدائمة هذه؟. لا يفيد هنا الحديث المعتاد عن العامل الخارجي، حتى لو كانت مسؤولية الدول الغربية رئيسية في ما نحن فيه من مآسي وما نواجهه من تحديات. فالمطلوب هو، بالعكس، تفسير الأسباب التي تجعل هذا التدخل الأجنبي ممكنا ودائما وحاسما في المنطقة العربية، أكثر من مناطق العالم الأخرى، ولماذا لا ننجح في الحد من إثره على الأقل، إذا كنا غير قادرين على وضع حد له؟
ليس في تفسير هذا الوضع في نظري أي سر. تتعلق مصائر الشعوب، مهما كانت وفي أي ميدان وزمان، بنتائج عملها وجهدها المبذول. ويرتبط قدر هذا الجهد ونوعيته ونتائجه بنوعية النخب الاجتماعية التي تقودها، الاقتصادية والثقافية، وبشكل رئيسي النخب السياسية التي تمكنها سيطرتها على السلطة العامة من أن تتحكم بموارد المجتمع وبقراره الوطني. وعلى قدر وعي هذه النخب، وطبيعة تكوينها الأخلاقي والثقافي، ونوعية معرفتها وخبرتها بواقع مجتمعاتها والبيئة الإقليمية والدولية التي تعمل فيها، وتقدمها في تطوير الصيغ وقواعد العمل التي تساعد على حل النزاعات المحتملة أو القائمة في ما بينها للحفاظ على اكبر قدر من التعاون والتفاهم في ما بينها، تكون قدرتها على النجاح في استثمار موارد البلاد، والارتقاء بمستوى تنظيم البشر، والسهر على تنظيم شؤونهم، وتحقيق التراكم والتقدم في أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. بل إن أساليب القيادة هذه، بما تتضمنه من وسائل التنظيم والرعاية والتربية السياسية والمدنية، هي التي تحدد حجم الجهود المبذولة من قبل المجتمعات، تماما كما أن أسلوب تثميرها هو الذي يضمن مردودها ونتائجها. فكما تؤدي الإدارة الفاسدة والضعيفة إلى إفلاس أصحاب المشاريع التجارية والصناعية، تؤدي القيادة الفاسدة أو الضعيفة في السياسة إلى إفلاس مشروع بناء الأمم، وفي مقدمها بناء الدولة التي ترعى مصالح مواطنيها وتسهر على امنهم وسلامتهم وحرياتهم وحقوقهم. وهذا الإفلاس لا يعني شيئا آخر سوى العجز عن تحقيق الاهداف التي لا وجود للتعاون الوطني الداخلي من دونها، وخسارة الرهانات التي تمكن البلاد من لعب دورها السليم في إقليمها.
ويكفي لمعرفة ما يخبؤه العام الجديد، وربما ما بعده أيضا، لنا، أن ننظر في طبيعة النخب العربية السائدة اليوم، والتي تحتل مواقع القيادة السياسية (في الدولة)، والاجتماعية (في الأحزاب والنقابات)، والاقتصادية (في المشاريع الصناعية والتجارية)، والثقافية (في مراكز العلم والتعليم والمعرفة والآداب). فلن يتغير شيء، أي لن يكون هناك أمل في وقف التدهور المستمر منذ عقود، طالما لم يتغير شيء لا في طبيعة النخب التي تمسك بالسلطة والقيادة، في مختلف قطاعات النشاط العمومي، في أقطار العالم العربي، ولا في قواعد عمل هذه السلطة وممارستها.
ولا يمكن لأي امريء يتحلى بحد أدنى من المنطق أن لا يربط بين طبيعة هذه النخب، بل النخبة العربية القائدة في أي قطر عربي، ومصير الأقطار العربية منفردة ومجتمعة معا. فما يميز المجتمعات التي نهضت من جمودها وانحطاطها، بما فيها مجتمعاتنا في حقب سابقة، هو وجود نخب اجتماعية سمحت لها الظروف التاريخية والاجتماعية في أن تتعالى على مصالحها الأنانية والمادية المباشرة وترتقي بوعيها وضميرها إلى مستوى التفكير والعمل بوحي مباديء وقيم وغايات إنسانية. ولا يعرف التاريخ، لا في الماضي ولا في الحاضر، أمة انبعثت من رمادها وتجاوزت انحطاطها من دون وجود مثل هذه النوعية من النخب القيادية، السياسية والثقافية والاقتصادية، التي تحركها القيم والمباديء الأخلاقية والمثل، وتؤهلها للتضحية في سبيل فكرة قومية أو قيمة إنسانية من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية، وتدفعها للتنافس في الفضيلة والخدمة العامة، بدل التباري في مراكمة القيم والأغراض المادية. في أحضان هذه النخب يولد الرجال العظام، وعليها يعتمدون أيضا في تأسيس الدولة وبناء الأمم واجتراح المعجزات، بقدر ما يمثلونها ويعبرون عنها. وهم يبثون في شعوبهم روح التضحية ونكران الذات التي يتقاسمونها معهم، والتي لا يمكن من دونها تجاوز منطق التنافس الأناني على المصالح، والاقتتال عليها، وبناء مفهوم المصلحة العامة وتعظيم حجم الاستثمارات التاريخية، المادية والمعنوية. ولا تنشأ هذه النخب عادة ويصاغ وعيها الأخلاقي الجديد إلا في سياق المعاناة الكبرى للشعوب والمجتمعات، وكفاحها المرير من اجل التحرر والانعتاق والحياة الكريمة. فهي ذاتها ليست إلا ثمرة تطور ثقافة حية تولد من هذه المعاناة وتمثل خلاصة التجربة المجتمعية المأساوية والرد الايجابي عليها. فهي بنت الحركات التاريخية الكبرى والثورات الانسانية.
في المقابل، لا أحد ينكر أن العالم العربي قد ابتلي بنخب هي مزيج من كواسر باحثة عن فريستها في جسم مجتمع مجوف ومختل التوازن، ومن قطاع طرق مختفين وراء ألقاب ورتب سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، ومهربي مخدرات وتجار سلاح ومختلسين لأموال الدول، وأصحاب ريوع، ولصوص ومرتشين، لا مبدأ لديهم ولا مثال غير إرضاء الشهوة البدائية في السيطرة والقوة والثروة المادية. لا يسرى ذلك على الكثير من العاملين داخل حقل الدولة ومؤسساتها فحسب، ولكن بشكل أكبر أحيانا على المتحكمين بمؤسسات المجتمع الخاصة، ونخبه الأهلية، من أصحاب مشاريع صناعية وتجارية وثقافية وفكرية أيضا. هؤلاء هم اليوم، حقيقة، أصحاب القوة والسلطة والمعرفة والثروة، أي القرار في معظم البلاد العربية.
وإلى جانب ذلك لا تزال مجتمعاتنا في بداية تجربة التحرر والانعتاق، مترددة في خوض الكفاح الشاق من أجل الحرية وتحمل معاناته وعذاباته. أما الفرد الذي لا يزال ممعوس الشخصية، ضامر الضمير، مفتقرا لوعي ذاتي واضح، أو إرادة مستقلة، فهو ميال إلى تفضيل الاستسلام على مغامرة التمرد والاستقلال. ولا تزال الجماعة عندنا مرادفة للعصبية، وقائمة على القرابة الروحية أو العقيدية أو الدموية، أي بعيدة جدا عن أن تتحول إلى جماعة مدنية، متوحدة من حول خيارات إرادية طوعية. في هذه الحال لا أعتقد أن من الممكن لنا، مهما فعلنا، كسر حلقة استتباعنا المزدوج لقياصرتنا المحليين وقياصرة القوى الدولية، من دون ثورة عميقة، فكرية وسياسية. وكل ثورة هي كفاح من أجل الاستقلال والحرية.
لا نحتاج من أجل تفجير هذه الثورة لا إلى المزيد من العلمنة ولا إلى المزيد من التدين ولا إلى المزيد من النظريات السياسية المعقدة والدقيقة، ولكن، قبل أي شيء آخر، إلى بعض النبل والكثير من الكرم الأخلاقي وروح الفضيلة، في المجتمع وعند كل فرد.

mardi, janvier 01, 2008

إلغاء الوصاية شرط انبعاث الشرق الأوسط

الجزيرة نت 1 جنفييه 2008

فاجأني نائب وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط بالقول إن واشنطن، بالرغم من المشاكل الكبرى التي تواجهها في المشرق العربي، لم تغير موقفها من مسألة الديمقراطية، ولا تزال مستمرة في دعم الديمقراطيين في العالم العربي. قلت للأسف أن استراتيجية الولايات المتحدة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير قد أجهضت الحركة الديمقراطية العربية الوليدة وعمقت شرخين كبيرين يقفان حائلا دونها : الأول بين الرأي العام العربي والغربن والثاني بين النخب العربية الحاكمة وشعوبها. ولن يكون من الممكن بعد الآن أحراز أي تقدم ثابت في هذا المجال من دون تغيير عميق مسبق في استراتيجية الولايات المتحدة، والغرب عموما، في الشرق الأوسط، ومن دون التوصل إلى حلول أو بداية حلول جدية وعادلة للنزاعات والصراعات الإقليمية التي تنخر في عمق المجتمعات وتشل الرأي العام عن التفكير في حاضره ومستقبله معا. من دون ذلك سيستمر التراجع الذي شهده الوضع الأمني والسياسي والثقافي في عموم المنطقة، ويزداد الميل فيها نحو الاضطراب والفوضى والخراب.
قامت الاستراتيجية التقليدية الغربية، كاستمرار للحقبة الاستعمارية أو امتداد زمني وفكري لها، على تحقيق ثلاث أهداف رئيسية في المنطقة.
الهدف الأول ضمان تدفق النفط للدول الصناعية بصورة أكيدة وبأسعار متهاودة. مما جعلها تنظر إلى المنطقة كمستودع لآبار النفط، يبنغي السيطرة عليه والتحكم بمصيره، من دون اعتبار لشعوبها ومصالحهم ومطامحهم وآمالهم وآلامهم. وهو ما قادها إلى القبول بتهميشهم لصالح النخب الحاكمة، وضمان استقلال هذه النخب عن شعوبها، وتدعيم قدراتها في مواجهتهم وضد إرادتهم، باعتبار ذلك من اللوازم الضرورية لتحقيق الهدف الاستراتيجي الأكبر.
والثاني ضمان الأمن والسلام والاستقرار والازدهار لاسرائيل باعتباره هدفا رئيسيا من أهداف السياسة الغربية في الشرق الاوسط، وتقديمه على أي هدف أمني آخر، أي صرف النظر عن أمن المنطقة المحيطة بها، وفي الغالب على حساب أمن هذه المنطقة وشعوبها. وهذا ما ترجم بدعم غير مشروط للسياسة الاسرائيلية، مهما كانت أهدافها ووسائلها استعمارية ولا أخلاقية، وضمان التفوق العسكري والاستراتيجي الساحق لها على دول المنقطة برمتها. وهو النموذج الذي ستعممه النخب الحاكمة على البلدان التي تحكمها، أعني ضمان أمن النظم من خلال زعزعة أمن الشعوب وتهديد استقرارها وتحويلها إلى هشيم لا قوام له ولا بنيان.
والهدف الثالث هو الاحتفاظ بالمنطقة تحت النفوذ الغربي الحصري، ثم الأمريكي، والصراع من أجل ذلك ضد أي قوى دولية أو محلية تهدد هذا النفوذ الذي تحول إلى أمر واقع، وجعل التدخلات العسكرية واستخدام القوة لضمان هذا النفوذ أمرا طبيعيا ومشروعا في كل مرة يتعرض فيها للتهديد. وهو ما حول المنطقة إلى مسرح لحرب باردة مرهقة استنفدت مواردها، ودمرت مؤسساتها، وسلمتها فريسة سائغة لكل أصحاب المشاريع السلطوية الفردية والعائلية.
لن يكون من الممكن بعد الآن الاستمرار في مثل هذه الاستراتيجية، سواء بسبب انهيار الصدقية الاستراتيجية الأمريكية والاسرائيلية، أو بسبب القطيعة الهائلة التي حصلت بين النخب الحاكمة التي كان الغرب يراهن عليها وشعوبها، أو بسبب صعود قوى جديدة في آسيا وفي المنطقة ذاتها، لديها ما يكفي من الموارد والوسائل لتفرض نفسها شريكا أو منازعا على الهيمنة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
وعندما أقول لم يعد من الممكن الاستمرار في مثل هذه الاستراتيجية فأنا أعني أن الأمريكيين والغربيين عموما لن يستطيعوا تأمين تدفق النفط لفترة طويلة مع الاستمرار في تجاهل مصالح شعوب المنطقة ولا من خلال تغذية الخلل الاسترتيجي الهائل على مستوى العلاقات الإقليمية بين إسرائيل والعالم العربي، ولا عبر التمسك بدعم النظم الفاسدة والتعسفية التي تتصرف كما لو كانت البلدان ملكا عقاريا لها، ولا بالتدخلات العسكرية. وإذا لم ينجحوا في تغيير مقاربتهم الاستراتيجية للمنطقة فلن تكون النتيجة تحقيق مصالحهم الحيوية، ولا تأمين اسرائيل المتفوقة عسكريا بشكل أفضل، ولا توافق أكبر مع النخب الحاكمة في المنطقة كما كان عليه الحال حتى الآن. وإنما مضاعفة الخسائر الراهنة والاختلالات، وتعظيم الفواتير التي ينبغي دفعها في المستقبل والمغامرة بدفع المنطقة نحو مزيد من التفكك والفوضى والدمار، مما ينعكس سلبا على مصالح الغرب وإسرائيل والعالم بأكمله أيضا. ومنذ الآن أصبحت الفوضى المعممة أو شبه المعممة الهاجس الأكبر للدول الكبرى والصغرى على حد سواء، وحولت منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى بؤرة للتهديدات والمخاطر التي تؤرق ليل جميع الأطراف. وإذا لم يحصل ما يغير قواعد التعامل مع الآخرين، فلن تكون النتيجة سوى مزيد من التدهور في جميع الميادين مع تفسخ جارف وفتح المنطقة على أسوأ الاحتمالات.
السؤال ألا يمكن أن يكون في الشرق الأوسط بديل عن سياسة علي وعلى أعدائي، وبناء استراتيجية تضمن مصالح جميع القوى وتعززها؟ يستدعي هذا بداية أن تدرك القوى الغربية استحالة إعادة بناء استراتيجيتها القديمة المنهارة ثانية على الأسس نفسها التي قامت عليها منذ الحرب العالمية الثانية. وهو ما يتطلب تحديدا جديدا للأهداف والوسائل والمقاربات يمكن واشنطن والغرب عامة من المساهمة الايجابية في حل مشاكل المنطقة والمشاركة في إصلاح شؤونها، بحيث تشعر الشعوب العربية أن هناك مصالح مشتركة ممكنة بالفعل. كما يستدعي أن تعترف شعوب المنطقة بالمصالح الاستراتيجية المرتبطة بانتاج الطاقة وتضمن تدفق النفط بشكل طبيعي ضمن اتفاق شراكة استراتيجية تشكل التنمية أحد بنودها الرئيسية إلى جانب ايجاد تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية وإنهاء الاحتلالات وأشكال التمييز والاستيطان بأكملها.
وإذا لم ينجح الغرب في وضع أهداف جديدة لسياسته تساعد في إحلال السلام في المنطقة، وفتحها على الاستثمار الاقتصادي والثقافي، ودعم مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها ضد النخب المافوية الحاكمة، وضمان الأمن والاستقرار للشعوب جميعا، لن يكون من الممكن إخراج المنطقة من الازمة الطاحنة التي تعيشها، والتي ستضرب نتائجها، بشكل أكبر في المستقبل، النظام الدولي نفسه. ولا من أجل التوصل إلى هذا الهدف من توفير إطار مبادرة دولية وإقليمية مشتركة، تطرح أجندة لمواجهة الملفات الأربع الرئيسية التي تشكل أركان الأزمة:
أولا ملف الاحتلالات والنزاعات المتفجرة بين الدول والشعوب.
ثانيا ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة.
ثالثا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية.
رابعا الديمقراطية والمشاركة الشعبية.
ولا أمل لنجاح مثل هذه المبادرة إن لم تقم من الأساس على نظرة شمولية ومقاربات متزامنة أيضا، وبمشاركة الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية، الرسمية والمدنية، بشكل يفرض على كل طرف أن يتحمل مسؤولياته، ويتيح له أن يدرك أيضا دوره ويتعرف على المساهمات المطلوبة منه والقادر على تقديمها، في إطار دعم المجهود الجماعي لإخراج المنطقة من الهوة التي سقطت فيها، وتجنيبها الانحدار نحو البربرية.
هذا يعني أنه لا يوجد حل لأي مشكلة بعزلها عن المشكلة الأخرى. كما لا يوجد أي حل من خلال احتكار أي دولة أو طرف، مهما كانت عظمته وقوته، للمبادرة السياسية.
يرتكز هذا الترابط على عوامل أساسية:
أولا أنه لم يعد من الممكن تحقيق الأمن والاستقرار بالتركيز على المصالح الغربية وحدها. فلن يقوم استقرار لا يأخذ بالاعتبار سوى مصالح ضمان تدفق النفط، أو أمن إسرائيل، أو منع مشاركة الدول الأخرى في المصالح الإقليمية. كما لم يعد من الممكن بناء التحالفات على شراء النخب، أو المراهنة على علاقات النفوذ والتبعية التقليدية. ينبغي بالعكس الاعتراف الرسمي والعملي بالمصالح الوطنية للشعوب، الاقتصادية منها والسياسية والثقافية والأمنية، وإظهار الاحترام لها، وتمييزها عن مصالح الأنظمة الحاكمة والنخب المستلبة أو المستتبعة.
ثانيا لم يعد من الممكن ضمان الأمن والاستقرار من الخارج، وبواسطة التدخلات العسكرية. وهو ما يستدعي اعترافا واضحا باستقلالية الشعوب ودورها في تحقيق أمنها وبلورة أغراضه ووسائله، من خلال تنظيماتها الإقليمية، وتبعا لمصالحها بشكل رئيسي، لا تلبية لاهداف استراتيجية دولية، أو لأمن أي قوة عالمية. كما يستدعي التفاهم بين الدول الغربية والدول الأسيوية والروسية الكبرى وتجنيب المنطقة حربا باردة جديدة.
ثالثا لم يعد من الممكن ضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة في إطار التقسيم الراهن للأسواق والاستثمارات والتكيف مع الجغرافية السياسية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. وهذا ما يستدعي، بعكس ما حصل حتى الآن، التشجيع على الاندماج الإقليمي، وتقديم المساعدات اللازمة لتحقيقه وتوسيع دائرة تطبيقه.
ورابعا لم يعد من الممكن تحقيق نتائج سياسية أو استراتيجية لأي طرف كان، داخليا أو خارجيا، عن طريق العنف واستخدام القوة والابتزاز فحسب. ولا بد من إدخال منطق الحوار والمفاوضات المتعددة الاطراف إلى المنطقة التي حرمت منها لعقود طويلة. كما لا بد من مقاومة نزعة الانفراد بالقرار الإقليمي، وتعزيز هامش مبادرة الإقليم عموما تجاه الخارج. فليس من الممكن التوصل إلى حلول ناجعة لمشكلات المنطقة وأزماتها إلا بالمراهنة على تعاون شعوبها وسكانها، وتغيير المناخ السلبي السائد، وفتح حقبة جديدة من السلام والوفاق تستفيد منها الأطراف كافة.
ومثل هذه المقاربة الشاملة لشؤون المنطقة لا يمكن تحقيقها من دون القبول بتقديم تنازلات أساسية من قبل جميع الاطراف، وفي المقدمة اسرائيل. فلا يمكن لاسرائيل أن تطمح إلى الحصول على السلام في مواجهة كل بلدان المنطقة مع احتفاظها بمكاسبها التي حققتها بالقوة خلال العقود الخمس الماضية. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تستعيد جزءا من صدقيتها وقدرتها على المبادرة فينبغي أن تركز جهودها على إقناع اسرائيل وقادتها ورأيها العام بأن الخطوة الأولى لإطلاق مسيرة السلام والاستقرار والأمن الشامل والنمو والازدهار في المنطقة تبدأ بالتفاوض على انهاء الاحتلالات القائمة، وتفكيك المستوطنات، ووضع حد للسياسات الاستعمارية. من دون ذلك ليس هناك أي أمل في التقدم ولو جزئيا على أي مسار من المسارات الأخرى. يمكن للولايات المتحدة أن تضرب ايران وتدمر منشآتها النووية والعسكرية والاقتصادية لكنها لن تستطيع بعد ذلك أن تمنع الشباب الاسلامي المحبط والفاقد للأمل من الانخراط في حركات الإرهاب الدولية، تماما كما أن كثيرا من الشباب العربي الذي يئس من أن تتحول بلاده إلى شريك في هذا النظام انقلب عليه وجعل من تدمير النظام العالمي هدفه الانتقامي.
باختصار، لا يوجد هناك حل أمريكي، أي لا يأخذ بالاعتبار إلا صالح أمريكا، لقضايا المنطقة. بل لا يوجد هناك حل لصالح دولة بعينها أو فريق معين، ولا حل يتجاهل مصالح الشعوب لصالح النخب أو العكس. كما لا يوجد هناك حل لمشكلة على حساب مشكلة أخرى. فالتنمية لا تغني عن الأمن، والأمن لا يغني عن استعادة الأراضي المحتلة، والتنمية ليست بديلا عن المشاركة الشعبية. وستخفق كل محاولة لايجاد حلول تسعى إلى مقايضة حل مشكلة بمشكلة أخرى، أو لا تأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف الكبيرة والصغيرة معا، داخل الدول وخارجها. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى مؤتمر أنابوليس الذي يكاد يعلن إفلاسه قبل أن يبدأ.

lundi, décembre 24, 2007

دفاعا عن تكتل إعلان دمشق


لا شك أن ما حصل في الانتخابات الأخيرة للمجلس الوطني لإعلان دمشق كان خطأ يحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى أعضاء الأمانة العامة السابقة للإعلان الذين لم يوفروا الظروف الضرورية لنجاح أول تجربة سورية لبناء تآلف سياسي عريض لم يكن ممكنا من دون إقناع الأحزاب بالتخلي عن الوصاية التي مارستها في السنوات الماضية على العمل الإئتلافي من جهة وجذب نشطاء آخرين مستقلين كثر جاهزين للتضحية لكنهم لا يملكون صورة ايجابية عن الحياة الحزبية السورية القائمة. ولا شك أيضا أن قبول القيادات الحزبية بتقليص دورها في الإئتلاف لصالح المستقلين كان تعبيرا عن ميزان القوى الذي نجم عن تجربة حقبة ربيع دمشق، والذي لعبت فيه النخبة المثقفة المستقلة دورا رائدا، بينما بقيت الأحزاب لفترة طويلة عاجزة عن اللحاق بها أو رفد الحركة بعناصر ونشاطات وأفكار جديدة كانت بامس الحاجة لها.
لكن ليس هناك أي سبب لتحويل هذا الخطأ، كما يفعل البعض، إلى مناسبة للتشكيك بنوايا الأطراف أو للنزاع والدعوة للانقسام. وليس من الصعب كذلك على الإعلان أن يتجاوز هذا الخطأ إذا أدرك الجميع حجم الرهانات المرتبطة بالمحافظة على التكتل الذي يمثله الإعلان. فبصرف النظر عن أخطائه ونقاط ضعفه الكثيرة وتعثره هنا وهناك، يمثل الإعلان اليوم الأمل الوحيد عند الرأي العام لنشوء معارضة ديمقراطية فعلية في البلاد تجمع بين مختلف أصحاب الرأي السياسي وتوحد جهودهم لتحقيق هدف التغيير الديمقراطي وعودة الحياة السياسية الطبيعية للبلاد. وليس من المؤكد أن التضحية بهذا التكتل الذي تطلب انشاؤه واستمراره حتى الآن جهودا مضنية، سوف يفتح الباب أمام نشوء تكتل آخر أو حركات ديمقراطية أخرى. وعلى الأغلب سيكون البديل عنه التفتت والتمزق والاقتتال الدائم بين القوى السياسية السورية ونزوع كل منها إلى اتباع استراتيجية خاصة به، فيذهب الكرد في اتجاه، والاسلاميون في اتجاه آخر، والقوميون في اتجاه ثالث واليساريون كذلك، ولن يبقى هناك ما يؤلف بينهم أو يجمعهم. بمعنى آخر، يشكل الحفاظ على إعلان دمشق مصلحة وطنية بقدر ما سيكون انقسام الإعلان أو إضعافه برهانا على عجز القوى السياسية القائمة عن التآلف ودفعها نحو توجهات سلبية، مضرة بمستقبل البلاد، لا مقدمة لتآلفات جديدة. لذلك مهما حصل من نزاعات واختلاف في وجهات النظر الفكرية والسياسية ينبغي السعي إلى حلها ضمن الإعلان وفي الصراع داخل صفوفه. وهذا هو أصلا الطريق الوحيد لتطوير حركة سياسية جدية لا يمكن نموها إلا من خلال تراكم الخبرة عبر الصراع الفكري والسياسي داخل الإطار الواحد. ولا يعني الانسحاب من الإعلان سوى الانسحاب من المعركة التي ينبغي أن تخاض داخل الإعلان وفي سبيل تحسين عمله ونظامه، وبالتالي المساهمة في إضاعة فرصة بناء تآلف ديمقراطي لزمن غير معلوم.
نشأ التكتل الذي يمثله الإعلان عن اجتماع عنصرين رئيسيين لا يمكن استمراره من دون مراعاة مصالحهما معا. العنصر الأول هو القوى الحية النشيطة للمثقفين الذين أحيوا ربيع دمشق وفرضوا لأول مرة في تاريخ سورية البعثية، بعد نهاية السبعينات، حركة مطالبة ديمقراطية قوية وفاعلة أثارت اهتمام الرأي العام ووجهت أنظاره نحو المشاكل الكبيرة التي تعاني منها البلاد، والتي لا تقتصر على الأمور السياسية وإنما تتجاوزها إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والاستراتيجية والبيئية أيضا. أما العنصر الثاني فهو القوى الحزبية التي تمتلك بعض الخبرة التنظيمية في العمل السياسي والتي نجحت في البقاء على قيد الحياة خلال العقود الطويلة الماضية من عمر الديكتاتورية، بالرغم من أنها خرجت مدماة منها. ولا يمكن للتآلف أن يستمر ويتقدم ما لم يتم التفاهم بشكل واضح بين هذين العنصرين، وأن لا يسعى أحدهما إلى تجاوز مصالح الآخر أو عدم أخذه بالاعتبار. فلا يمكن للمثقفين مهما سما كعبهم في النشاط الفكري والسياسي أن يبنوا قوة سياسية منظمة من دون الاستفادة من تجربة الأحزاب، ولا يمكن للأحزاب أن يتحولوا إلى قوة فاعلة ويخرجوا من القبور التي دفنتهم فيها الديكتاتورية من دون التفاهم مع النشطاء المستقلين والتعاون معهم وإفساح المجال أمامهم للاتصال بالرأي العام والتفاعل معه.
وقد جاءت صيغة المجلس الوطني الموسع للرد على حاجة قيام مثل هذا التحالف بين نخبتين، مثقفة جديدة وسياسية قديمة. ولم يكن من السهولة تحقيق التفاهم السريع بينهما بسبب اختلاف أساليب التفكير والعمل والخبرة الماضية لكليهما. لكن الصعوبة الاكبر كانت ولا تزال كامنة في النزاع بين أطراف النخبة الحزبية نفسها. وربما لم يكن للأزمة الراهنة سبب آخر سوى سعي بعض أطرافها لتعزيز تحالفها مع المثقفين في مواجهة الأطراف الأخرى. وبهذا المعنى نشأ خطان داخل التكتل، لا ينبع خلافهما من الاختلاف حول المباديء أو الأفكار والقيم والأهداف المنشودة وإنما من الاختلاف في الأمور الإجرائية المتعلقة بالاستراتيجية والتكتيك كما نقول عادة. وقد دفعت جدلية التنافس بينهما إلى إقصاء طرف لحساب الآخر، ليس بمعنى تقصد الاستبعاد، كما تشيعه نظرية المؤامرة، وإنما بمعنى حسم الموقف السياسي.
ربما كان ارتباك موقف الاتحاديين في الاجتماع الموسع هو الذي هز قناعات الناس إزاءهم. وربما كان سببه ما يبدو من جمود على موقفهم من قضايا القومية والعلاقات الخارجية. وربما كان السبب التشكيك الذي أشاعه خصومهم بصلابة موقفهم أو موقف بعضهم إزاء النظام بسبب مشاركتهم له في الايديولوجية القومية. لكن من المؤكد، وهذا ما سمعته أنا نفسي على أكثر من لسان، أن أحدا لم يكن يريد أو يتصور أن لا يحصل زعيم الاتحاد على الأصوات اللازمة لعبور الامتحان الديمقراطي. وأنا أعتقد أن سقوطه كان مفاجأة للجميع، بمن فيهم من لا يشاركونه التفكير نفسه. ولا شك أن الضغوط الأمنية التي يتعرض لها أعضاء المجلس جميعا، والشعور بفراغ الصبر من الأوضاع المتردية، قد شجعت قسما كبيرا منهم إلى تبني موقف الحسم. لكن المهم أن ما حصل يعكس أن هناك مشكلة تستدعي الحل، وأن الذين أداروا عملية توسيع المجلس لم تكن لديهم سيطرة كافية على الوضع.
ومع ذلك لا ينبغي أن يقلل ما حدث من قيمة انعقاد المجلس الوطني لتكتل إعلان دمشق. فقد عبر انعقاد هذا المجلس وتوسيعه عن تقدم كبير في الحركة الديمقراطية السورية، على المستوى السياسي والتنظيمي معا. فهناك من دون شك رضى واسعا لدى جميع الأطراف، بما فيها قادة الاتحاد الاشتراكي، عن الوثائق السياسية التي تمت بلورتها خلال نقاشات طويلة بينها. كما ان الصيغة التي تبناها المجلس تمثل في نظري تقدما كبيرا في مفهوم العمل الإئتلافي المشترك. فما حصل لم يكن مجرد انتخاب هيئة قيادية جديدة وإنما تغييرا في قواعد انتخاب القيادة، يلغي وصاية الأحزاب على الحركة الديمقراطية بقدر ما يجعل العضو والقيادي الحزبي متساويا مع غيره من الأعضاء غير الحزبيين، في حظه من النجاح أو السقوط. وهذا يعني أن ما شهده المجلس الموسع الأول كان إعادة تأسيس التكتل لا ترميما له، وتطبيقا لقاعدة جديدة تضعف من أثر الانتماءات الحزبية لصالح بناء حركة تتجاوز الأحزاب وتجذب العناصر النشطة التي تكثر خارج الأحزاب، بسبب ما تعرضت له هذه في العقود الماضية من حصار وتجميد وتهديد. وهذا موقف متقدم جدا في نظري، ما كنت أنا نفسي أعتقد أن جميع الأحزاب ستقبل بتبنيه.
يظل من المؤسف دون شك أن تكون عملية التأسيس الجديد هذه، مع ما تحمله من إمكانيات وآفاق كبيرة، قد تعرضت لأزمة منذ البداية بسبب بعض الأخطاء الناجمة عن عدم إدراك حساسية التمثيل الحزبي في المراحل الأولى لإطلاق الحركة، حتى لا يحصل ما حصل ويقدم المجلس الوطني بصيغته الجديدة ذريعة لأولئك الذين يرفضون التغيير أو يخشون نتائجه على مواقعهم المكرسة، لطرح مسألة إعادة النظر في قاعدة الانتخاب الديمقراطي هذه والعودة إلى نظام "الكوتا" للأحزاب. مما يعني انتكاسة كبيرة لحركة المعارضة الديمقراطية ونكوصا نحو النزاعات العقيمة التي جمدت عمل الإعلان خلال السنتين الماضيتين بعد تأليفه.
يستدعي تحصين النجاح الذي تجسد في انعقاد المجلس وصيانته تجاوز الأخطاء الماضية والتاكيد على أهمية احترام مكانة القوى الحزبية في الإئتلاف من دون تعريض الصيغة القائمة والايجابية للخطر. فهي وحدها التي تفتح على الأجيال الجديدة وتقدم لها أملا في مشاركة مفتوحة وواسعة في قيادة الحركة الديمقراطية. كما يستدعي مراجعة سياسية وامتحانا للضمير، وربما اعتذارات متبادلة من قبل الجميع، لكن مع التأكيد على عدم شق الإعلان أو إضعافه أو الانسياق وراء مشاعر الإحباط والفشل وتدمير ما تحقق حتى الآن من نجاحات بالرغم من الاعتقالات المستمرة والضغوط. وسيقوى الاتحاد الاشتراكي ودوره في التكتل أكثر إذا قرر وضع المصالح العليا للإعلان فوق المصالح الحزبية، واكد إنتماءه وتمسكه بالاعلان واستمر بنشاطة في الدفاع عن المعتقلين السياسيين وفي دفع الشكوك عن أهداف التكتل وقيمه ومبادئه مع بقية الأعضاء الآخرين.
ولا أعتقد أن التمسك بالإعلان يلغي الحق بالتعبير الصريح عن الاختلاف في وجهات النظر أو في النقد. لا ينبغي أن نتبع قاعدة النظام الاستبدادي التي تعني وقف أي تفكير داخلي باسم الضغوط الخارجية. إذا أردنا أن تعيش المعارضة وتتطور، ينبغي أن نتعلم كيف نقاوم الضغوط ونستمر في نقاشنا الداخلي معا، وأن ننجح في أن لا نجعل من الضغوط ذريعة لوقف جدلية التفكير الداخلي، ولا من النزاع الناجم عن اختلافنا ذريعة للتشكيك بالتكتل والدعوة للانقسام. بالعكس بقدر ما ننجح في الحفاظ على الجدل الفكري من دون انقسام، نحبط الضغوط القمعية ونظهر أنها من دون معنى وفائدة. ذلك أن أحد أهداف الضغوط الأساسية هو تجميد الحركة السياسية واعتقال الفكر قبل اعتقال الجسد، فكر المعارضة وديناميكية تطورها ونموها الذي لا يحصل من دون النقد والنقد الذاتي والتصويب. وهذا يعني أيضا أننا لا ينبغي أن نخاف من النقد حتى ونحن نتعرض للضغوط والاعتقالات، وان الذين يشككون داخل الإعلان بأصحاب الرأي المخالف لا يخدمون الإعلان ولكنهم يشاركون في تحقيق أهداف الضغوط الأمنية : أي دفع المعارضة إلى الانشقاق عن طريق تحويل النقد إلى خصام، وإظهار عدم قدرة الإعلان على التماسك في وجه الضغوط والأخطار المحيطة.
باختصار، لا ينبغي أن يحرمنا الضغط الأمني من الاستمرار في ديناميكية تطوير قوانا الذاتية الفكرية والسياسية والتنظيمية، ومن إغناء حركتنا الديمقراطية بالنقاش الداخلي المشروع والمثمر. ولا ينبغي أن نسمح للاستبداد أن يشجعنا على التغطية على اختلافنا، ويمنعنا من التفكير فيه، وبالتالي للخروج منه بحلول مقبولة للجميع والتوصل إلى أرضية صلبة تضمن استمرارنا وتماسك صفوفنا. إن أعظم مساهمة في الدفاع عن المعتقلين السياسين، من أعضاء المجلس الوطني ومن خارجه أيضا، تكمن في الحفاظ على المكاسب التي تجسدها وحدة المعارضة الديمقراطية داخل المجلس الوطني، واحتواء الأزمة التي تعرض لها، وتجاوزها للوقوف صفا واحدا أمام آلة القمع والاعتقال. وكما لا نكف نحن أنفسنا عن تذكير النظام بأن أساس الوحدة الوطنية احترام الاختلاف، تشكل كفالة حق الاختلاف والتعبير عن الرأي المخالف داخل الإعلان الضمان الرئيسي للحفاظ على وحدة الإئتلاف القائم وترسيخ أسس بقائه وتطوره. ولا يقل الضرر الناجم عن تشكيك بعض أعضاء الإعلان بنوايا المخالفين في الرأي، أو في أهدافهم وتشويه طروحاتهم، عن الضرر الذي يحدثه تشكيك بعض المناهضين للتوجه الراهن للإعلان في نوايا أصحابه وتشويه طروحاتهم. وحتى لا يتحول النقد إلى محاسبة على النوايا، ونسقط في المحنة نفسها التي يعيشها الشعب بأكمله بسبب تبني النظام هذه الممارسة، علينا أن ننظر إلى أي اختلاف، مهما كانت النوايا الكامنة وراءه، على أنه تعبير عن قراءة مغايرة للأحداث، وعن وجهة نظر مختلفة في التحليل، تستند ربما على معطيات ناقصة أو غير مكتملة لكن لا تستبطن موقفا معاديا، وتبقى بالتالي وجهة نظر مشروعة، تستحق المناقشة والاحترام، ولا يمنع شيء من تجاوز الخلاف الذي تجسده عن طريق الحوار والنقاش. من دون ذلك ليس هناك ما يضمن أن لا يتحول الاختلاف الفكري والسياسي إلى إدانة أخلاقية أو سياسية للغير المختلف، ويصبح هو بدوره حاضنة لنزاعات متجددة ومولدا لانقسامات لا تنفذ. والنتيجة لا ينبغي للاختلاف أن يهدد الوحدة ولا للوحدة أن تمنع الاختلاف.

mercredi, décembre 19, 2007

مستقبل المعارضة الديمقراطية في سورية

الاتحاد 19 ديسمبر 07

لا أعتقد أن حملة الاعتقالات التي تعرض لها أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق بعد أسبوع من انتخاب هيئاته القيادية، ومنع الأمانة العامة المنتخبة بالقوة من عقد أول إجتماعاتها، سيقضيان على النجاح الكبير الذي مثله بالنسبة للمعارضة الديمقراطية السورية انعقاد مجلسها الموسع، في الأول من ديسمبر 2007. فقد كرس انعقاد هذا المجلس وجودها كقوة داخلية لا يمكن تجاهلها، وأكد أنها ليست طفرة سطحية وإنما موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية، في مقدمها ولادة نخبة ليبرالية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية على الصعيد الدولي وتحول البلاد نحو اقتصاد السوق، وما ينجم عنه من تمايزات وتوترات طبقية جديدة، وعطش الجمهور إلى لغة تقطع مع أدبيات البيرقراطية الحاكمة التي فقدت صدقيتها وترفض أن تخضع سيطرتها الطويلة لأي استفتاء شعبي. ولن تنجح الحملات الأمنية في تغيير هذا الواقع البنيوي الذي يجعل من المعارضة حاجة عضوية في سورية ما بعد ربيع دمشق لعام 2001. ولن يكون لها في الظروف القائمة أثر آخر سوى تأكيد وجود هذه المعارضة وتعزيز حضورها وصدقيتها أمام جمهور يتطلع إلى قيادة جديدة، في ظل أزمة الانتقال المؤلم نحو نظام الرأسمالية الطفيلية والوحشية معا، نظام المضاربات المالية والعقارية ووضع اليد على موارد الدولة وأملاكها من دون توفير الملكيات الخصوصية أيضا.
بيد أن هذا النجاح لا ينبغي أن يخفي عنا الأزمة الفكرية والسياسية التي تعيشها الديمقراطية العربية عموما والسورية بشكل خاص. فقد ظهرت المعارضة وتبلورت فكرة تكتل إعلان دمشق في فترة ازدادت فيها الآمال باحتمال حدوث تطور دراماتيكي على الأحداث نتيجة تبدل الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة في اتجاه التخلي عن سياسة ما كانت تسميه دعم الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم اولا، وبروز سيف المحكمة الدولية المسلط على النظام في سياق التحقيق بمقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ثانيا. وقد رفعت هذه الظروف الاستثنائية من سقف التوقعات في صفوف الرأي العام، ودفعت المعارضة إلى تبني استراتيجية قصيرة المدى، وخط سياسي رديكالي لا يأخذ ميزان القوى الداخلي بما فيه الكفاية بالاعتبار، مركزا بالمقابل على احتمال تطور الاوضاع الإقليمية والدولية. بيد أن تبدل هذه الأوضاع بعد انهيار استراتيجية السيطرة الأمريكية المنفردة على العراق، وتراجع واشنطن عن سياستها الجديدة الرامية إلى تغيير الأوضاع الإقليمية، أفقد هذه الاستراتيجية مبررات وجودها، بينما صار من الصعب على من صعد إلى شجرة التغيير الفوري أن يقبل بالنزول عنها والتكيف مع استراتيجية طويلة المدى تأخذ بالاعتبار حاجات بناء قوى التغيير الديمقراطي، ولا تعيش على أوهام الضغوط الخارجية أو تركن إليها.
أمام العجز عن تطوير استراتيجية واقعية وعقلانية للرد على التغير الحاصل في مسار الصراع من أجل الديمقراطية سوف تبرز في صفوف المعارضة السورية نزعتان متعارضتان ومتكاملتان معا : نزعة الهرب إلى الأمام والتطلع المتزايد نحو الخارج، ومن ضمن ذلك اكتشاف قيمة المعارضة الخارجية والسعي إلى الربط معها، ونزعة التراجع إلى مواقف ما قبل ربيع دمشق والتكيف السلبي مع نظام السيطرة الأحادية والشمولية. وهكذا سينتقل النزاع ضد النظام الواحدي الذي صبغ السنوات الأولى من تكوين المعارضة نحو الداخل، ويتحول إلى صراع بين أصحاب النزعتين من أجل السيطرة على الإعلان. وفي هذا الإطار ينبغي تفسير ما حصل في الانتخابات الأخيرة للمجلس، وأدى إلى اقصاء ممثلي أحد أهم الشركاء في تكوين الإعلان، حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي، من قيادة التشكيل السياسي الجديد، وقاد هذا الحزب إلى تجميد عضويته في الإعلان. ومن الواضح الآن، وهو ما كنت قد لمسته في لقائي بعدد كبير من أعضاء المجلس في جلسة الغداء الذي أقامه النائب السابق ورئيس الأمانة العامة للإعلان رياض سيف بمناسبة زيارتي لدمشق، أن هناك خطين يتنازعان الإعلان. الخط الذي يعتقد أن المشكلة كامنة في ضعف إرادة البعض وخوفهم من التصعيد ضد النظام، وبالتالي لا حل لأزمة الإعلان إلا في عزلهم. وهو الخط الذي يرفض المراجعة والنظر في التجربة الماضية والتحليل الموضوعي للوضع الوطني والإقليمي والدولي، ويهرب لذلك من مسألة ضرورة بلورة رؤية نظرية واضحة وخطة طريق تؤلف فعليا بين جميع تيارات المعارضة، مكتفيا بالتفاهم المبدئي حول شعار الديمقراطية. والخط الثاني الذي يدعو للتمهل والحيطة ويراهن على تنشيط المشاعر والقيم الوطنية التاريخية للحد من جموح بعض الأطراف إلى التطلع نحو "المساعدة" الخارجية والتعلق بوهم مفعول المحكمة الدولية. وقد قاد الحسم الذي سعى إليه البعض في هذا النزاع إلى تفجير أزمة التكتل الكامنة اكثر مما قدم حلا لها. فأضيفت أزمة انعدام الثقة داخل قوى الإعلان إلى الأزمة الأشمل المتعلقة بالعجز عن بلورة رؤية عملية للتحرك في إطار سياقات إقليمية ودولية جديدة تتطلب تخفيض سقف التوقعات وتطوير أساليب عمل أكثر انخراطا في الواقع اليومي للناس وأكثر إبداعية ومرونة.
لا اعتقد ان هناك مهربا بعد الآن لقوى الإعلان، إذا أرادت أن تتجنب النزاعات الداخلية وتهيء نفسها لمعركة الحرية الطويلة، من التراجع عن سياسات الإقصاء وفتح مناقشة واسعة بين صفوفها لدراسة التجربة الماضية، بما فيها تجربة الانتخابات الأخيرة الإشكالية، في سبيل الانتقال إلى مرحلة جديدة تعتمد أرضية سياسية واضحة تنال قبول جميع الأطراف، وتؤسس لخط بديل يقطع مع نزعة الهرب إلى الأمام أو النكوص إلى تكيفات ما قبل ربيع دمشق، ويؤكد على المباديء والقيم الملهمة للتغيير، لكنه يتعامل بصورة إبداعية مع الأساليب والوسائل، ويقيم حساباته على أسس أكثر واقعية وعقلانية، لا يتجاهل العوامل الخارجية المساعدة، لكن لا يبني حساباته عليها، ويتمسك بالقيم الوطنية والاستقلالية العربية، لكن من دون أن يفصلها عن مسائل التحول الديمقراطي والاجتماعي أو يجعلها بديلا عنها.
وهذا ما يتطلب التخلي عن الاستراتيجية القديمة التي ارتبطت بتوقع انهيار مفاجيء، وتبني استراتيجية عمل بعيد المدى لا تراهن على تغيير سريع، ولا تسلم بالأوضاع القائمة، محورها بناء القوى الذاتية التي لا غنى عنها لقيام سلطة ديمقراطية وطنية في أي حالة من حالات التغيير، سواء أكان من النوع المفاجيء او التدريجي. وأساس ذلك ربط برنامج الصراع وأساليبه وأجندته بأجندة هذا البناء، لا بأجندة الضغوط الخارجية أو أجندة مقاومة النظام نفسه لهذه الضغوط.
لا تنبع الحاجة إلى بلورة رؤية أكثر شمولية للعمل الديمقراطي السوري من متطلبات إعادة لحم قوى الإعلان على أسس أكثر صلابة وتمكينها من تجاوز أزمتها الفكرية والسياسية فحسب، وإنما أكثر من ذلك من أهمية مثل هذه الرؤية في تقريب قطاعات الرأي العام وأصحاب المصالح الاجتماعية الكبرى المختلفة وربطها بالمعارضة الديمقراطية. وشرط ذلك تبنى إعلان دمشق قضايا هذه القطاعات وإبراز قدرته على السير بها إلى الأمام. من دون هذا الاستثمار في القضايا الاجتماعية التي تشغل الناس، لن يستطيع الإعلان فك العزلة المضروبة عليه، وسيضطر، للتعويض عن ذلك، إلى الاستمرار في تغذية الأوهام الكبيرة في أثر العوامل الخارجية، وفي تقديم الوعود الكاذبة التي ستترجم لا محالة في المستقبل على شكل إحباطات متتالية للرأي العام ولقوى وأعضاء إعلان دمشق أيضا.
فليس هناك شك ان التغيير الديمقراطي هو محور أي تغيير ايجابي في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السورية، لكن هذه المقولة تظل مقولة تجريدية ما لم تنجح القوى الديمقراطية نفسها في ربط المسألة الديمقراطية بمسائل الحياة اليومية للناس وتظهر بالممارسة الانعكاس الايجابي للعمل السياسي الديمقراطي على تحسين شروط حياة السكان وكسب معاركهم المطلبية. فشعار الديمقراطية ومطلبها يحركان بشكل مباشر النخب الثقافية والسياسية الراهنة ويجذبان إليهما الفئات الأكثر نشاطية من أبناء الطبقة الوسطى المتهاوية. بيد أنهما لا يعنيان شيئا في طابعهما المجرد والإعلاني بالنسبة للطبقات الشعبية التي تخوض معركتها المصيرية في سوق العمل ومع الإدراة والدولة والقانون لتامين الحد الأدنى من شروط معيشتها المادية وكرامتها المعنوية كل يوم بيومه . وليس من السهل عليها أن تدرك، وهي تخوض معركتها هذه، أهمية التحولات الديمقراطية وأثرها الايجابي على تحسين شروط معيشتها وحياتها كي ما تشعر بقيمة التضحية من أجلها. حتى يحصل ذلك ينبغي على المعارضة الديمقراطية أن تدخل في عالمها هي، وتأخذ بيدها في المشاكل التي تواجهها، فتكون عينها ومخيلتها وذراعها. وهذا لا يعني التخلي عن القضايا السياسية الكبرى وفي مقدمها الديمقراطية، وإنما الانشغال بشكل اكبر في القضايا المطلبية، ومشاركة الناس همومهم اليومية، والانخراط في معاركهم ومقاوماتهم. هذا هو الطريق الوحيد لتحويل الديمقراطية إلى معركة وطنية جامعة لكل فئات المصالح الاجتماعية، ولتقديم أفق وطني (ديمقراطي) يضمن نجاح النضالات المطلبية في الوقت نفسه، وبالتالي ضمان انتصار حركة التغيير ذاتها.
لكن، مهما كان الأمر، لن تستطيع المعارضة الديمقراطية السورية أن تتقدم في تحقيق برنامجها وأن تحل مشاكلها الداخلية والخارجية، النظرية والعملية معا، ما لم تصبح ثقة أعضائها بقدرة السوريين على تحقيق التغيير أكبر من رهانها على مفاجآت التاريخ واستثناءات الجيواستراتيجية، وايمانها بإمكانية إبداع أساليب عمل ومقاربات ناجحة وفعالة لفكفكة نظام القهر أكبر من تسليمها بالطرائق والأساليب السهلة والسريعة السائدة لمناهضته وإبراز عيوبه ومثالبه. فإذا كان من الصحيح أن السوريين لن يستطيعوا تغيير الأوضاع نحو الديمقراطية ضد إرادة القوى الإقليمية والدولية، فمن الصحيح أكثر أن أي تغيير ديمقراطي حقيقي لن يكون ممكنا من دون مشاركة السوريين وحضورهم الكثيف والحاسم في صنع تاريخهم وتوجيهه. ولا أعتقد أن هناك وسيلة لتغيير المواقف الإقليمية والدولية نفسها من مسألة الديمقراطية السورية من دون تطوير هذه المشاركة وتعزيز ذاك الحضور.

mercredi, décembre 05, 2007

بين العداء للغرب ومقاومة سياساته

الاتحاد 5 ديسمبر 07

فوجئت الحكومات العربية جميعا بالتغيير الذي طرأ على استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الاوسط بعد احداث 11 سبتمبر 2001. ونظر معظمها إلى إصرار واشنطن على القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية لضمان الاستقرار على المدى الطويل،على أنه خطأ جسيم ليس من منظور مصالحها فحسب وإنما من منظور مصالح الولايات المتحدة نفسها. فهو الطريق المباشر نحو زعزعة الاستقرار وربما زوال الأنظمة نفسها. وهكذا لم تتردد الحكومات العربية، بالرغم مما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبلها، في إظهار الاختلاف مع واشنطن، والعمل على ثني هذه الأخيرة عن موقفها. فلم يكن الأمر يتعلق بمصالح جزئية تعني الدولة ككل أو المجتمع وإنما بمصير الحكومات والنظم القائمة بأكملهما. وفي أقل من سنتين نجحت الحكومات العربية، من دون القيام بأي تغيير، في إقناع واشنطن بأن مشاريع الاصلاح الطموحة ليست في صالح أحد، لا حكومات الشرق الأوسط ولا الولايات المتحدة. ومع التهدئة الأمنية الحاصلة في العراق وإطلاق مفاوضات جديدة للسلام من أنابوليس، رجعت المياة إلى مجاريها أو تكاد.
هكذا، بفضل توافق المصالح، يمكن القول أن الحكومات العربية فهمت أمريكا أكثر مما فهمت أمريكا نفسها، وساعدتها على العودة إلى الطريق الصحيح لحفظ مصالحها، لأن هذه المصالح متضامنة فعليا مع مصالح القوى العربية التي يستند إليها اليوم الوضع أو النظام الاقليمي لحقبة ما بعد الحركة الشعبية القومية العربية. والقاعدة الرئيسية لهذا النظام، والحلف الأمريكي العربي الذي يحمله، هي المصلحة المشتركة في تغييب الشعوب العربية عن تقرير مصيرها السياسي ونزع السيادة عنها.
في هذه المعركة كما في العديد من المعارك الأخرى المتعلقة بالإصلاح والتغيير استخدمت الحكومات العربية على مختلف اتجاهاتها، وهي تستخدم في كل مناسبة، العداء للغرب لحرف انتباه الرأي العام العربي عن المشاكل والتحديات الداخلية وتوجيه تقمته نحو الخارج. وفي هذا السياق عملت ولا تزال على نشر مفهوم لهذا العداء يتجاوز رفض سياسات البلدان الغربية نحو رفض حضارتها وثقافتها وكل ما يرتبط بها وبتاريخها وهويتها. واستفادت وتستفيد من استفزازات بعض القوى العنصرية الغربية لتجعل من كره الغرب ككل وسيلة لإقامة حاجز لا يمكن عبوره بين الرأي العام ومكتسبات الحداثة السياسية والقانونية والمدنية، ولتعبئته من وراءها، وطرح نفسها ونظمها كما لو كانت قلعة الحماية من السيطرة الثقافية أو السياسية الأجنبية.
هكذا، نجحت النظم العربية بربطها السياسات الغربية والامريكية بثقافة الغرب وحضارته وهويته، بدل أن تنظر إليها بوصفها خيارا سياسيا للنخب الحاكمة، كما هو الحال مع المحافظين الجدد في واشنطن، في أن تحول العداء للسياسات الغربية إلى عداء للغرب، وتجعل من التعبئة المستمرة ضده بديلا عن تحليل اختيارات عواصمه، الاستراتيجية والسياسية، المتعددة، وحائلا دون بلورة أي سياسة عربية ايجابية، أي ناجعة وفعالة، بهدف تحقيق اختراق في أوساط الرأي العام الغربي، والعمل عليه للدفاع عن مصالح العرب وحقوقهم.
هناك بالتاكيد أسباب عديدة تدفع الجمهور العربي إلى العداء للغرب وعدم التمييز فيه بين سياسات الدولة وثقافة المجتمع والميل إلى تجاهل انقسام الرأي العام فيه. منها الاستخفاف بحقوق العرب وتشويه صورتهم وتسويد صفحة ثقافتهم في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة. ومنها ما نشأ على أثر تنامي حركات الارهاب المرتبطة بالمنطقة العربية، فأضاف، خاصة بعد أحداث ايلول 2001 ، إلى مشاعر الاستخفاف والازدراء، والنظر إلى العرب كأنهم دون الجماعات البشرية المتمدنة، مشاعر جديدة قائمة على الخوف والكره وعدم الثقة، بل والرغبة في الانتقام، كما بينت ذلك حرب العراق الأخيرة، وما تفرع عنها من عمليات تنكيل ومعاملة قاسية ولا إنسانية للسجناء العراقيين وللسكان عموما.
لكن مع ذلك ليس من مصلحة العرب التوحيد بين السياسات الغربية والمجتمعات التي تخضع لها، ولا اعتبار هذه السياسات انعكاسا طبيعيا لثقافتها، بل حتى لمصالحها القومية البعيدة. وكما أن من الخطأ النظر إلى الغرب، وكل ما ينتج عنه وفيه، كأنه شر أو مصدر للشر، من الخطأ الكبير أيضا التوحيد بالمطلق بين السلطة والمجتمع في أي بلد كان. فلا يفيد ذلك إلا في التغطية على إخفاقنا في بلورة سياسات قادرة على التأثير في سياسات الدول الكبرى. فهو يخلق غولا أسطوريا لا يمكن مواجهته، وليس لدينا خيار سوى شتمه والدعاء عليه نظريا، والتعامل معه والخضوع له، كما هو سائد، عمليا. والحال أن الغرب ومنه أمريكا ليس غولا ولا كتلة صماء. وفيه قوى كثيرة لا تحمل بالضرورة عداءا فطريا للعرب أو للشعوب الفقيرة. وليس من مصلحتنا تغييب هذه القوى، ولا أمل لنا ببناء سياسة تضمن استقلالنا وحقوقنا تجاه الغرب، وضد سياسات حكوماته العدوانية، من دون الاعتراف بها والتعامل الايجابي معها. بل ربما كان حجم هذه القوى الديمقراطية، المتطلعة إلى عالم يسوده السلام والعدالة في الغرب، أكبر بكثير مما هو موجود في البلاد العربية نفسها. وربما كانت قدرتها على تقديم العون للقضايا العربية أضعاف ما تستطيع القوى العربية نفسها تقديمه.
لقد سعينا باستمرار لمواجهة الغرب وسياساته العدوانية إلى التعلق بمخلص من خارجه، مثله في حقبة أولى الاتحاد السوفييتي. ونحن نحلم بتحالف مشابه مع الصين وروسيا الصاعدتين. لكن لم نحصد من هذه السياسة فائدة تذكر، فلا تزال قضايانا جميعا معلقة، كما كانت منذ عقود، بل زادت تفاقما. والسبب أن أكثر مشاكلنا قائمة مع الغرب، ولا يمكن حلها بتجاهله أو ضده أو من دونه. كما أن جميع القوى التي راهنا وسنراهن عليها تحتاج إلى تعاون الغرب وخطب وده لضمان مصالح تتجاوزنا ولا نزن أمامها شيئا.
والقصد، لا يمكن مقاومة غرب استعماري وإمبريالي، نحن أول ضحاياه، إلا بغرب ديمقراطي ومسالم وعامل من أجل العدالة في العالم، أي من داخل الغرب ذاته. ونحن والشعوب القريبة في وضعها من وضعنا مسؤولون عن دفع الغرب إلى تبني سياسة ايجابية. ليس من خلال العمل على بناء تفاهم واسع بين الدول المتضررة من السياسات الغربية فحسب، وإنما أكثر من ذلك من خلال توثيق عرى التفاهم والتعاون مع القوى الغربية الديمقراطية ومساعدتها على التغلب على الاتجاهات الامبرطورية والامبريالية. لكن كي ما ننجح في ذلك ينبغي علينا أن نبرهن نحن أنفسنا على أننا نقدس قيم العدالة والمساواة والحرية ذاتها، وأننا نمثل شعوبا قادرة على التعامل أيضا مع العالم على أساس احترام معايير الاستقلالية والشرعية القانونية. فلا نستطيع أن نحول سياسة الغرب ونفرض عليه احترام قيم الديمقراطية العالمية من دون أن نتحول نحن أنفسنا ونصبح بلدانا ديمقراطية تحترم القانون والانسان معا، وتحظى بالتالي بالاحترام. وعندما أقول نحن فأنا لا أقصد البلاد العربية فحسب ولكن جميع البلدان التي تشكو اليوم من سياسات الغرب الامبريالية وعدوانها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية.