vendredi, novembre 29, 2013

حول ميثاق الجبهة الاسلامية ومشروعها السياسي الجديد

أثار الاعلان عن ميثاق «الجبهة الإسلامية» التي تشكلت في سورية في الأيام الماضية، نقاشا متجددا لدى الرأي العام السوري داخل صفوف مؤيدي الثورة ومعارضيها. ولأن الجبهة تضم قوى رئيسية في الجيش الحر، كان من الطبيعي أن يسقط الكثيرون موقف الجبهة على الثورة نفسها، متسائلين في ما إذا كان هدف الثورة اليوم هو إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة، بدل القانون المعد من قبل ممثلين للشعب يتماشى مع حاجات الشعب المتعدد المذاهب والمشارب الفكرية ومع تطور الحياة الاجتماعية وتزايد الاوضاع الجديدة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والسلوكية، التي تحتاج إلى تقنين دائم ومستمر.
ما خفف من أثر هذا الانعطاف الفكري في مسيرة قوى الثورة السورية التي بدأت سلمية ومدنية بامتياز، هو تمسك البيان بمبدأ الشورى، مما يبقي أفق الحوار والنقاش مفتوحا على مشاركة الشعب في القرار، من جهة وتأكيد أصحاب المشروع السياسي الجديد على حماية حقوق الأقليات، باعتبار أن «التراب السوري يضم نسيجا متنوعا من الأقليات العرقية والدينية تقاسمته مع المسلمين لمئات السنين في ظل الشريعة الغراء التي صانت حقوقها».
يحتاج هذا البيان إلى نقاش مطول وتوضيح للكثير من العبارات والمفاهيم التي تحتمل أكثر من تأويل، بما في ذلك معنى الشورى، وكيف تصح ممارستها، ومن يشارك فيها، وتصور تطبيق الشريعة، بل التأويل الذي تنوي الجبهة الأخذ به في هذا المجال، الذي لم يعد جديدا على المجتمعات العربية والاسلامية، بعد أن شهدت تجارب متعددة ومختلفة فيه، من أفغانستان إلى السودان إلى ايران وغيرها.
وبالمثل، يحتاج مفهوم الدولة المدنية التي وضعها البيان في تناقض او تضاد مع دولة الشريعة الاسلامية أيضا إلى توضيح، خاصة عندما تتم المطابقة بين الشريعة الإلهية وميادينها والتشريع البرلماني الذي هو من باب التنظيمات التي تمس أمورا ترتبط بتنظيم شؤون الحياة المدنية للمجتمعات ويعكس تطور الحضارة وتقنياتها وتنظيماتها، وهو عابر للحدود الدينية والسياسية والجغرافية، وغايته تنظيم شؤون البشر وتامين أمنهم وسلامتهم الجسدية والنفسية وتحسين شروط حياتهم المادية على الأرض، أكثر مما يرتبط بمذهب أو فلسفة أو عقيدة دينية. وتستند معظم هذه التنظيمات كي لا نقول كلها وبشكل كبير إلى الخبرة العملية والتاريخية والتفكير المنطقي والعلمي.
فالفرق كبير بين التشريع الذي هو حق إلهي، لأنه يعنى بالمقاصد الكبرى والغايات العليا للكون والحياة والوجود الكوني والانساني، أي بالمقدسات، والتنظيمات الانسانية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والتقنية وغيرها مما يعنى بتحسين الأداء والفاعلية والانتاجية والعمل في كل الميادين، ويعتمد على العقل والعلم ويتضمن الاختيار بين حلول وطرائق وأساليب مختلفة ومتعددة للتنظيم والترتيب والتنسيق والتحسين لشؤون الحياة المادية والمدنية، اي التي لا تمس الاعتقادات من أي نوع كان. وفي هذا الباب تدخل تنظيمات الصناعة والزراعة والعمل والإدارة والعلم والحرب التي تتطلب جميعا إعمال العقل.
ومن هذا التصور لنوع المهام التي تقوم بها الدولة جاء مفهوم الدولة المدنية، التي تعني أن على السلطة السياسية العمومية أن تقتصر في وظيفتها على تنظيم شؤون الحياة المادية، وأن تترك للفرد والمجتمع أي الناس تنظيم شؤون حياتهم الدينية. مما يعني أن وظيفة الدولة في كل الميادين تنظيمية، أما كل ما يتعلق بالرأي والفكر والمذهب والدين، أي بمحتوى الأفكار المتداولة في المجتمع وبالقيم والأهداف والغايات العليا للجماعات، فهي مسؤولية هذه المجتمعات نفسها وكل فرد فيها، وأن واجب الدولة هو تأمين الفضاء الحر لجميع الناس كي يقرروا في شؤون دينهم تحت إشراف أصحاب الاختصاص من رجال الدين وبهديهم.
غير ذلك يعني أن تفرض الدولة محتوى العقيدة والقيم والمباديء والغايات التي ينبغي على المجتمع وكل فرد أن يأخذ بها ولا تكتفي بتنظيم ممارسة حرية الفكر والاعتقاد.
وقد عرفنا نحن السوريين نموذجا كارثيا لهذه الدولة العقائدية في صورة دولة البعث التي أرادت أن تصبغ المجتمع كله بصبغتها الفكرية والمذهبية والسياسية، وكانت النتيجة تجريد الشعب، باسم إخضاعه للعقيدة البعثية والقومجية الرسمية، من حقوقه وحرياته جميعا، وتسليم البلاد والمجتمع بأكملهما إلى تلك المجموعات الصغيرة التي امسكت بالدولة، واستغلت ما ألحقته بنفسها من حق المراقبة والتفتيش على الضمير والعقل والسلوك، من أجل بناء سلطة مطلقة وغاشمة، لا شيء يوازن جبروتها في المجتمع، دمرت معنى السياسة والعقيدة والفكر والعلم والمعرفة والانسان نفسه.
من حق كل إنسان وأي تكتل أو تجمع أن يقدم التصور الذي يراه مناسبا لتنظيم المجتمع والدولة. لكن من حق كل إنسان أيضا، عضو في هذا المجتمع ومعني بمصيره ومستقبله، بل من واجبه، ان يناقش أي تصور مهما كان، اللهم إلا إذا كان أصحاب هذا التصور يعتبرونه عقيدة مقدسة لا تناقش. ولا أعتقد أن مثل هذا الموقف يمكن أن يكون موقف شباب مؤمن، أخلص لهذا الشعب وفداه ولا يزال بروحه، وساهم في صنع معجزة الثورة وتحطيم صنم نظام الأسد الذميم.

mercredi, novembre 13, 2013

العلمانية في استخداماتنا العامية

 أصبحت العلمانية في الاستخدامات الأخيرة في بلادنا عند البعض تهمة أو شتيمة. والبديل بالتأكيد ليس دينا مجردا وايمانا صافيا وإنما مفهوما أكثر استبدادية للدولة والسلطة.


هذه مقتطفات من مقال نشر في ٢٠٠٧ للاضاءة على المفهوم والفكرة


"لا أحد يستطيع أن ينكر أن العلمانية استخدمت في البلاد العربية ولا تزال، سواء أفهمت كموقف عقلاني وتنويري في مواجهة مجتمع متأخر ومتدين ومتعصب، أو كموقف من الطائفية الدينية ودعوة إلى تجاوزها، لتبرير الحد من الحريات وتقييدها بل إلغاءها. في الحالة الأولى اتقاءا لشر صعود التيارات الاسلامية إلى الحكم، وفي الحالة الثانية نتيجة قصر مضمونها على تجاوز التمييز الطائفي والمساواة بين الجماعات الدينية، وغض النظر عن المساواة السياسية المرتبطة بإقرار الحريات المدنية والسياسية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية.
ومن هنا لا يزال السؤال الذي طرحه كتاب المسألة الطائفية بصورة جانبية، مطروحا اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى : ما الذي وضع العلمانية العربية، والسورية منها بشكل خاص، في هذا المأزق الذي جعل منها رديف الديكتاتورية ونقيض قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وفي المكان الأول حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أي إنسان، أو منعه من التعبير عنها ؟
الجواب من شقين. أولا تحول العلمانية إلى ايديولوجية، أي إلى عقيدة فئة من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص، ورمز تفاهمها الذي يوحد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات استراتيجيتها الاجتماعية والسياسية. وثانيا تعارض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع، واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمباديء العلمانية نفسها، ومن ورائها مباديء الديمقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن أحدا من رموز هذه العلمانوية، الذين استشهد بهم وائل سواح، لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية، بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة ربيع دمشق فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها.
ما كانت لمصادرة فكرة العلمانية من قبل فريق اجتماعي ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن تقود إلى أمرين. إفساد المفهوم من جهة وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معا، وبالتالي قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي.
فبقدر ما أصبحت العلمانية ايديولوجية تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضا. فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد، يتخذ منها منطلقا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم، ولرجاله وسلطته وقيمه. وككل عقيدة، صارت العلمانية "دوغما"، أي مذهبية مغلقة، وحقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى "الخطيئة" الدينية. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربط هؤلاء أو أكثرهم العلمانية بالعلم، وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العلمانية مساوية للادينية، وراية يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية للتجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الاسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة معا. ومن الواضح من مقال وائل سواح وزملائه إلى أي حد تعكس اشكالية العلمانية والاسلامية لديهم الصراع بين العلم، المنظور إليه كرديف للعقل، والدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية. ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العلمانية وإنما اللادينية أو العداء للدين، التي تختلط مع علموية سوقية، من مخلفات القرن التاسع عشر، تعكس الايمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أي زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي الكثير من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر للعلم وللعقل معا، لا كشعب ولا كأمة تمتلك وعيا وإرادة وقادرة على الفعل أو الانجاز من أي نوع كان.
ومن الطبيعي أن تكف العلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهوما إجرائيا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، يمكن نقده ككل المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته على ضوء التجربة التاريخية، ومع تغير هذا الواقع او تقدم المعرفة بدقائقه. فككل عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أصبحت العلمانية في نظر عابديها المخلصين ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، وصالحة بالتالي، مثل الدين، لكل زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها بمعزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سيرها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستخداماتها، هرطقة وخروجا عنها. لأنه يشكل مساسا بالهوية، وتهديدا لاستقرار الجماعة الايمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها جهادها، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، ضد الكفرة ولجاحدين، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضا، تبني العلموية كنيستها التي توزع بطاقات الخلاص على المخلصين لها وتحرم من تشاء من اعترافها وبركتها.
هذا ما يفسر أيضا الطابع التبشيري الممل للخطاب العلموي، وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها، منذ نصف قرن. فككل المتدينين، يعتقد العلمويون أن أي تغيير او تعديل في سرديتهم الخاصة بهم، لا بد أن يثير الشك في متانة العقيدة، ويقوض ربما أسس بقائها. وأن كل ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلا صون الفكرة من التغيير والتعديل، والحفاظ على تماميتها وأصولها، في وجه ناقديها، وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها، وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم أو من يحولون إلى خصوم، والتشهير بهم وإظهار مروقهم او خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية، وتصبح بالتالي موضع قداسة، يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة االاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.
هكذا تغير دور العلمانية أيضا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعا، يقرب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلا الارتفاع على خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعا بحرية، وبالتالي ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت بالعكس أداة للتمييز والفصل بين جماعتين، جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديمقراطية، والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الاطراف من أصحاب العقائد المتنازعة، تحت سقف دولة محايدة، تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية والمساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب كنيسة مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب استيعابها من قبل العامة الجاهلة والأمية. ولذلك لم يعد تحقيق العلمانية بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف، كشرط للمحافظة على الملة، التي صارت إليها العلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء لتصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقه بأي حيثية، وجعله أقنوما واحدا مستقلا يتقدم على كل ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها، هو الغاية الأولى والوحيدة، والتي يبرر تحقيقها أو الوصول إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية.
3 – معنى العلمانية
بالمقابل نحن ننظر للعلمانية بوصفها مبدأ من مباديء الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كله، نحو بناء أمم سياسية، ودول/أمم ديمقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتؤمن إعادة إنتاجها في الوقت نفسه كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الايديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القرسطوية، سوف يتحلل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، وتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع، ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازعها. وفي هذا السياق ستظهر العلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى أساسها توفير مبدأ او قاعدة أخلاقية سياسية تسمح للمجتمعات المتحللة والمتفجرة، ببناء الوحدة السياسية مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الاهلية. وليس هذا المبدأ الخطير الذي يكاد في نظري يساوي العلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأي فرد، سوف يشتق مبدأ المساواة بين الافراد، بقدر ما تحولوا جميعا لأفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعهم ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوين، فعليهم أن يقروا لأنفسهم ولكل واحد منهم بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين. ومن هنا أصبحت مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تعني التضامن والتكافل، مؤسسة لجماعة جديدة، هي الأمة أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة الممثلة في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب البعض الآخر، انتفت إمكانية بناء المواطنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وأصبح من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية. وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.
والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها، وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللادينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، وليست دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أي اعتقاد، او التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله كما يعتقد البعض إلى اعتقاد شخصي، ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي. بل بالعكس، إن العلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضا، ضمن شروط احترام مباديء حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العلمانية مبرر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحد من حريات منافسيها وخصومها الفكرية والمذهبية، وتبرر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.
فالفكرة العلمانية أبسط بكثير مما نعتقد، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الايمان وما يشكل مسلمات ايمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية. ليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانيات والشروط التي تسمح لها بذلك. وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما موضوع العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاءا لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفته الدولة الشيوعية في القرن الماضي، وكان مثالا للعلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عاما على زوالها. وأي علمانية لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول لا محالة إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العلمانية إذن عقيدة بحد ذاتها ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.
لكن العلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاءا جديدا وتخلق ظروفا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارا لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون، وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.
وملخص القول هنا، أن العلمانية مفهوم تاريخي. وكأي مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر، لا يمكن أن تكون هي نفسها، أو تطبق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كل منها وتركيبتها الدينية والاجتماعية، وعلاقة الدين بالدولة فيها، وظروف تقدم تجربتها السياسية. وهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بد أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد، أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال، وفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.
ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أي مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقا. ولا يعني النقد التهشيم، وإنما الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهوما كونيا ينطبق على جميع التجارب. وفي هذه الحالة يمكنه أن يلعب دورا ايجابيا ومنورا في إعادة بنائها او المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام. وإلا فهو بحاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.


العلمانية ومعركة الحرية
من هنا أعتقد أن نقد العلمانوية، أي العلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية، مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية، ومبرر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطا لتحرير العلمانية من قيودها، وإخراجها من المعزل الذي وضعت فيه، وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمباديء الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلها عن فكرة اللادينية أو العداء للدين التي عزلتها وحولتها إلى عقيدة فئوية، وفتحها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. والذين يرفعون سقف العلمانية ليطابقوا بينها والايمان بالعلم عوض الدين، أو التخلي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعا خاصا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستخدمونها وسيلة للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.
لا يمكن أن تكون العلمانية هي نفسها عقيدة فئة لوحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية. ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة لا يمكن أن تؤسس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الايديولوجية، ولا مبدأ ناظما لدولة سياسية تؤلف بين جميع أصحاب العقائد وتوحد بينهم، الدينية منها والعقلية. والواقع أن العلمانية لا تملك أي مضمون عقائدي، بحد ذاتها. ومن كانت هويته العلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحولونها إلى عقيدة يخلطون بينها والفلسفة اللادينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين ان يقول عن نفسه ويكون بالفعل علمانيا، وإلا فليس للعلمانية قيمة ولا مبرر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين لمبدئها، وليست ممكنة أطلاقا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة لن تكون مبدأ للحرية وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني. وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تماما لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.
هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها. فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العلمانية، ليس من باب التخلي عن وظيفتهم أو ايمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادا بأن العلمانية لا تنفي الايمان والاعتقاد، ولا تشكل هي بحد ذاتها ايمانا جديدا، وإنما تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع، وتستطيع تحقيقها، بالرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة، وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.
لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بايمانهم والاعتراف بأصالة هذا الايمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.
وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.
وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك امل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الاسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والارهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.
تقف العلمانية في مقدمة المعركة من اجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية ، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة واحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.
هل يعني هذا أن صعود الحركات الاسلامية لا يهدد العلمانية او أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الاسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد او التفاهم لانقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.
لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بنائها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الايديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم واحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.
في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.
باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع احدا. فهي حداثة سالبة للانسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.
ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الاسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم او تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على انفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه او تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الادنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الانسان، من وراء أفعال الايمان والاختلافات العقائدية.
باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الايديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية وأخلاقية ثرية "ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.

العودة للمقال الأصلي
من أجل علمانية إنسانية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=110200

mardi, novembre 12, 2013

غواية الطائفية في سورية والبلاد العربية جريدة الاتحاد 29 مارس 2006

بالرغم من المقاومة القوية التي أظهرتها الشعوب العربية لمشعلي الفتن الطائفية في السنوات الأخيرة، في العراق وغيره، إلا أن الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها أطراف متعددة، رسمية واهلية، من الخارج والداخل معا، تدفع بشكل متسارع نحو جعل المخرج الطائفي حتمية لا تقاوم في العديد من أقطار العالم العربي. بل إن هناك من بدأ يتحدث بصراحة عن مخاوف انجرار المنطقة برمتها إلى نزاع طائفي لن تكون نتيجته سوى الدمار المعمم. وشيئا فشيئا يكاد الرأي العام العربي يستسلم في بعض الأقطار، بل في أكثرها، لفكرة قبول النزاعات الطائفية كما لو كانت عاهة ولادية مرتبطة ببنية المجتمعات العربية وثقافتها.

والواقع ليس لهذا الانجرار وراء المخرج الطائفي أي علاقة بوجود تعددية دينية أو حتى حساسيات وحزازات قديمة بين الطوائف المتواجدة منذ قرون طويلة على الأرض نفسها. فكما يمكن أن تقود التعددية إلى التعايش المثمر والمثري والمبدع، كما أظهرت ذلك قرون طويلة من الحكم العربي، ليس في اسبانيا وحدها ولكن في بلاد المشرق جميعها، يمكن أن تقود أيضا إلى النزاع وتشريع القتل المأساوي على الهوية. وبعكس ما يعتقد الكثيرون، ليس لهذا النزاع علاقة بطبيعة العقائد ومضمونها واختلافاتها وإنما بالظروف التي تشرط حياة الجماعات وتحدد علاقات واحدتها بالأخرى. فمن الممكن أن تكون العقائد متباينة تماما بين الأطراف ويكون التعايش كبيرا في ما بينها، كما أن من الممكن أن يولد النزاع بين جماعات تنتمي إلى الأصول ذاتها ولها منظومات عقائد وأعراف وتقاليد واحدة، كما تبرهن على ذلك الصراعات التي غالبا ما تندلع داخل القبائل والعشائر والطوائف، بل والعائلات نفسها.
وهكذا، عندما عززت حقبة الاستقلال الانخراط في العالم الحديث وخلقت آمالا كبيرة بالتقدم والارتقاء لدى الجميع، وفي جميع المجالات، ولدت حركة وطنية وقومية واسعة وحدت بين جميع الاطراف ودفعت إلى تجاوز الانقسامات التاريخية الطائفية والأقوامية والاندماج في كل وطني حديث واحد. وبالعكس، يغذي الانسداد والجمود الذين تقود إليهما نظم متحجرة ولا إنسانية، وما ينجم عنهما من حرمان الجميع من فرص التقدم والارتقاء، شعورا عميقا بالاحباط والخوف وانعدام الثقة يشجع الجماعات والأفراد معا على التحلل من قيم التضامن الإنسانية وعلى القبول بجيمع الطرق والوسائل اللاأخلاقية للخروج مما يبدو وكأنه حالة حصار وموت محقق، بأي ثمن وعلى حساب الجماعات والأفراد الآخرين.
ومن هنا يشكل الخيار الطائفي، بالمعنى الديني والأقوامي معا، التعويض المباشر عن غياب الخيار السياسي، أي الجماعي الوطني. وطالما بدت شروط تحقيق هذا الخيار الأخير مفقودة أو مستحيلة التوليف، تنزع الجماعات إلى الحلول الانفرادية لعلها تجد لنفسها مخرجا لا أمل بايجاده مع الغير. فالطائفية هي رديف إعدام السياسة، والقضاء على روح التواصل والألفة، وتمجيد الوصولية والانتهازية والقائمتين على الأنانية، وانهيار مفهوم القانون، بما يعنيه من احترام الحق والعدل أمام استئثار العصبية العمياء التي تقوم على مبدأ نصرة الأخ ظالما أو مظلوما. وهذه الشروط هي ما تشهده العديد من الاوضاع العربية، حيث تشعر جميع الاطراف بأنها في بداية نفق مظلم طويل لا تعرف إذا كانت ستخرج منه أم لا.
وأول من يبدو عليه الضعف أمام إغواء الطائفية هي تلك النخب التي تحكم منذ عقود طويلة من دون مشاركة ولا قيود ولا التزامات واضحة، والتي تواجه اليوم استحقاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة من دون أن يكون لديها أي فرصة لتلبيتها او الرد عليها، في الوقت الذي تخضع فيه لضغوط وتحديات خارجية استثنائية تهدد استقرارها وبقاءها نفسه. فهي محاصرة من الداخل والخارج وخائفة من السقوط والانهيار في أي لحظة. ولهذا يزداد الإغراء عند بعض قادتها بالهرب نحو التعبئة الطائفية، كدرع حماية، ووسيلة للعب على تناقضات المجتمعات، واستخدام فئاتها المختلفة وانقساماتها لدفعها إلى تحييد بعضها بعضا. فبقدر ما تسد هي نفسها باب الخيار السياسي، أي، اليوم، الديمقراطي، للخروج من الأزمة الوطنية الشاملة، وتدرك محدودة وسائل القمع التقليدي، تنزع هذه الجماعات المتسلطة إلى أن ترى في التعبئة الطائفية سلاحا مفيدا لخلط الاوراق من جديد، وإجهاض المجتمع من قواه الاحتجاجية النامية، لعلها تتمكن من الالتفاف على الاستحقاق التاريخي والخروج من الطريق المسدود الذي وضعت نفسها فيه.
لكن النخب الحاكمة أو بعضها ليست الطرف الوحيد الذي يمكن أن يجد في إحياء المنطق الطائفي مهربا إلى الأمام من مشاكله السياسية المستعصية على الحل. إن الضغط الذي تتعرض له قطاعات واسعة من المعارضة السياسية والمدنية في سبيل حرمانها من أي أمل في المشاركة في مصير وطنها بل في التعبير عن نفسها والتواصل مع الرأي العام بأي صورة من الصور، مهما كانت سلمية ومدنية، يهدد بأن يدفع بعض قواها الأكثر استعجالا والأقل حكمة إلى التفكير باستخدام الطائفية لفك عزلتها. وربما اعتقد قسم من أولئك الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين ضغوط الحياة اليومية المتزايدة ومراوغات السلطة وقهرها اللاإنساني واللاقانوني، أن بناء عصبية قوية تقف في مواجهة عصبية السلطة هو الطريق الوحيد المتبقية لفرض نفسه على النظام وانتزاع الاعتراف به من دون التعلق بالتدخلات الأجنبية. وحصل مثل هذا في الثمانينات من القرن الماضي وانتهى بكارثة إنسانية في حماة وبكارثة سياسية في سورية بأكملها.
بيد أن المجتمعات نفسها ليست محصنة ضد الاستخدامات الطائفية أيضا. وتدغدغ الطائفية مشاعر العديد من قطاعات الرأي العام التي تعيش في شروط حياة هشة وغير مستقرة وتكاد أن تنهار بين حصار النظم الحاكمة التي تخشى انفجارها فتفرض عليها حكما مطلقا يشلها عن التفكير والحركة، وحصار الرأي العام الدولي الذي يوحد بينها والارهاب ولا يكف عن استفزازها ووضع هوية مجتمعاتها الثقافية والدينية موضع الشك والسؤال. كما تشكل الظروف الصعبة التي تعيشها أغلبية السكان والضغوطات المستمرة التي تتعرض لها، وغياب أفق الحلول الجماعية والسياسية، أي الوطنية، تربة خصبة لنمو المشاعر السلبية عند الأفراد والجماعات، وتوجهها نحو الخيارات التصفوية التي تجعل كل منها تعتقد أنه لا حل لأزماتها المستفحلة والمديدة إلا بالتخلص من الآخر، بتحييده او إقصائه أو القضاء عليه والسطو على حقوقه وموارده. فالحرب الطائفية هي شكل من أشكال حروب التصفية والتطهير العرقية. ونحن مهددون بالانجراف أكثر فاكثر نحو حالة الاحتراب التي تميز المجتمعات الفقيرة والمعزولة والمحاصرة. فندرة الموارد وتصاعد الضغوط وغياب الأمل بالوصول إلى نهاية النفق بالطرق الطبيعية وفي وقت معقول، كل ذلك يشكل مصادر متضافرة قوية لتوليد المنازعات الدموية في كل المجتمعات والأزمان. وبقدر ما يصبح القتال أسلوب الانتاج الرئيسي للثروة والسلطة والجاه تبرز الحاجة إلى بناء العصبية، أي روح الطائفية التي تتغذي من أوهام القربى الدينية أو القبلية أو الثقافية، وتصبح بمثابة اللحمة التي تصهر الأفراد والمجموعات المتميزة في بوتقة واحدة. فلا تقوم الطائفية إلا بعنصرين: بعث الوهم بالمطابقة الكاملة أو التماهي بين أفراد مختلفين بالفعل والأصل رغم انتماءاتهم الدينية او القبلية، بحيث يذوب الفرد بالجماعة ولا يعيش إلا بها، ثم تأكيد الحق في العدوان باسم الدفاع عن الحقوق الجماعية للعصبية الواحدة في مواجهة العصبيات الأخرى. ولذلك مثلما لا تولد العصبية من دون النزاع أو خارج سياقه، لا يمكن للحرب الطائفية أن تندلع وتستمر إلا بقدر ما تنجح في إعادة صهر المجتمع في بوتقة العصبية، أي في إعادة خلقه كعصبيات متماثلة. وما منع هذه الحرب من الانتشار حتى الآن في بلدان كالعراق وسورية بالمقارنة مع لبنان، هو رفض المجتمع بأغلبيته المدنية الانخراط في سياسة العصبية هذه وسعيه إلى استيعاب النزاعات الطائفية من داخل المفاهيم والأطر السياسية. لكن هنا تكمن المشكلة بالضبط. فمع القضاء على مفاهيم السياسة المدنية وأطرها أو تفريغهما من معناهما، وتحت ضغط التدهور المتسارع للأوضاع المعيشية والسياسية والنفسية الراهن، أصبحت هذه المقاومة مهددة بالفعل.
والحال لا تشكل الحرب الطائفية، التي يصعب على أحد اليوم السيطرة عليها إذا اندلعت، مخرجا من أي مأزق قائم، لا مأزق الحكم ولا مازق المعارضة ولا مأزق المجتمع والرأي العام التائه والمتخبط. بالعكس، إنها تعمق ورطة الجميع وكل الأطراف. فهي لن تحرر النخب الحاكمة من مواجهة الاستحقاقات القادمة ولا توفر عليها الاعتراف بحقوق هذه المجتمعات والتزاماتها تجاهها، ومن باب أولى أن تمكنها من استعادة السيطرة عليها. كما أنها لن تعطي للمعارضة أي دفع جديد يساعدها على التغلب على الحصار المضروب من حولها. أما بالنسبة للمجتمع، فهي تقود حتما إلى الدمار العام بقدر ما تهدد وجود الدولة وتبدد موارد البلاد وتعريضها للتهديدات الخارجية. إن المستفيد الوحيد منها هي بالتحديد اسرائيل وشبكات المصالح المافيوزية نفسها التي قادت إلى إفلاس الدولة والسلطة، والتي لا تستطيع أن تنمو وتزدهر وتتحول إلى زعامات تاريخية إلا في مناخ الحروب والأزمات. وأصحابها الذين يحتقرون بالتعريف فكرة وجود التزامات جماعية وقيم تضامن إنسانية وحقوق سياسية وحريات فكرية ويفتقرون إلى أي شعور بالمسؤولية هم المعنيون الوحيدون بتغذيتها وتفجيرها.