jeudi, novembre 11, 2010

من أجل إدانة شاملة لحرب التطهير الديني ضد مسيحيي العراق

لا ينبغي لأعمال القتل والتهجير التي يتعرض لها مسيحيو العراق أن تمر من دون إدانة واسعة من قبل جميع الهيئات الشعبية والرسمية، العلمانية والدينية، ومن دون مطالبة السلطات العراقية باتخاذ إجراءات حاسمة لوقفها، وهي التي تجري في وسط المدن الرئيسية في بغداد والموصل التي يفترض أنها مناطق آمنة. فليس هناك أفضل من وقفة قوية وواحدة من قبل الهيئات الثقافية والزعامات الدينية والقيادات السياسية في الحكم والمعارضة، وعلى مستوى العالم العربي بأكمله، لردع القتلة، وإقناعهم بأن أعمالهم الاجرامية ليست بعيدة عن أن تجلب لهم الشعبية التي يأملون فيها وإنما تكلل رؤؤسهم بالعار ولا تبقي للقضية التي يعتقدون أنهم يخدمونها، مهما كانت طبيعتها وهدفها، سوى الخيبة وسوء النية والطوية.

فليست عمليات القتل على الهوية الدينية التي يمارسها هؤلاء، وهم مجهولوا الهوية، إن لم يكونوا مشكوك في أصلهم وولائهم للعرب والمسلمين معا، قضية مسيحية أو قضية المسيحيين. إنها قضية وطنية تهدد كيان المجتمع والدولة، ومن حيث هي كذلك هي أيضا قضية المسلمين جميعا بمقدار ما إن الدفاع عن مباديء الاسلام وصون حدوده وحماية أهله، يستدعي الحفاظ على الكيان الاجتماعي والحرص على استقلال الأوطان وتفاهم شعوبها وتكافلهم في وجه الطامعين فيهم من القوى الأجنبية، ،والباحثين عن ذرائع لتشويه صورتهام وتبرير العدوان المستمر عليهم، وفي مقدمه عدوان إسرائيل وحلفائها في كل مكان. فلا توجه الجرائم التي يستهدف فيها المسيحيون ضربات مؤلمة ومحزنة لأبناء طائفة دينية مختلفة فحسب وإنما توجه ضربات أقوى إلى صورة المسلمين وصدقيتهم السياسية والأخلاقية، بل إلى هويتهم الإنسانية. فهي تظهرهم، في صورة متعطشين للدماء، معدومي الضمير والأخلاق وفاقدين لمعنى العدالة والمسؤولية الاجتماعية، لا ذمة لهم، ولا أمان لمن يتعامل معهم، وليسوا أهلا للثقة ولا للتعاون مع بقية شعوب العالم وأقطاره.

ولا يقلل من هذا الشعور كون القائمين بهذه الأعمال فئات قليلة أو جماعات إرهابية، ولا حتى ربما جماعات مدسوسة ومخترقة من قبل مخابرات أجنبية. فهي تعكس، مهما كان الحال، وجود هوة أخلاقية سحيقة في مكان ما من التربية الدينية والوطنية في البلاد العربية، والتي تجعل بعض الأفراد لا يجدون وسيلة للتعبير عن إحباطهم الديني أو القومي أو السياسي، وربما عن جنون الرغبة الجامحة في الانتقام من العصر والعالم، سوى في ارتكاب المجازر المجانية، ليس بحق من هم أعداء واضحون لهم، وإنما بحق من هم أقرب الناس إليهم، ومن يشكلون جزءا لا يتجزأ من جماعتهم الوطنية، بل والجزء الأكثر مسالمة وبعدا عن التنافس على السلطة أو الطموح إليها بين جميع الأطراف الأخرى. وهذا لعمري غاية النذالة والسقوط الفكري والسياسي والأخلاقي في الوقت نفسه.

لا يجوز في مثل هذه الحالة أن تبقى المراجع الدينية الاسلامية صامتة، أو أن تكتفي بالتبرؤ من هذه الأعمال، وتحتمي وراء فكرة أن هؤلاء لا يمثلون الاسلام، أو أن الاسلام منهم براء. فما لم تنبعث حركة قوية وشاملة لإدانة مثل هذه الأعمال، والتوعية من نتائجها، وضرورة الوقوف في مواجهتها، لن يكون هناك ما يمكن أن يحمي الاسلام من الاتهام بالعنف، أو بالأحرى من تثبيت تهمة العنف التي تكاد تلصق به، بسبب ما يجري من إراقة للدماء على طول وعرض الأراضي العربية. ولا أستبعد أن يكون هناك، من بين هؤلاء وفي الأوساط الرثة من المسلمين من يوحد بين المسيحية والغرب، ويعتبر، كما يعتقد القتلة أنفسهم، أن التخلص من مسيحيي الشرق هو انتصار للاسلام، وتثبيت لدعائمه في مواجهة الضغوط وحملات التشكيك والحرب الباردة والساخنة التي يتعرض لها من ينتمون إليه، هنا وهناك، في الأصقاع الاسلامية. ولو صدق هذا الظن، لعنى ذلك أن قسما لا نعرف حجمه من المسلمين قد فقد توازنه، وأنه تجرد ، بسبب تعصبه أو خوفه أو إحباطه، أو هو في سبيله إلى أن يتجرد من كل القيم الدينية والأخلاقية والسياسية التي تجعل من الانسان إنسانا، ولا يمكن لأي مجتمع، دينيا كان أم وطنيا، أن يقوم من دونها.

وما هو مطلوب من الهيئات الدينية الاسلامية مطلوب أيضا وبالقدر نفسه من الهيئات والأحزاب والحركات السياسية والثقافية. فهم مدعوون جميعا إلى التعبير عن رفضهم القاطع لمثل هذه الأعمال وشجبهم لها وإدانة مرتكبيها وعزلهم أيضا.

بالتأكيد ليس المسيحيون أو الأقليات الدينية هي وحدها التي تتعرض لعمليات القتل والتهجير. وربما كان عدد المسلمين الذين قتلوا في المعارك الدائرة بينهم بسبب اختلافاتهم السياسية والمذهبية يتجاوز بمئات المرات ما حصل لهؤلاء وأولئك من غير المسلمين. لكن مغزى هذه المجازر، اللأإنسانية دائما، ليس واحدا. فبالرغم من أن أكثر المسلمين ألذين سقطوا في السنوات السبعة الماضية من عمر الفوضى السياسية في العراق هم من الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب الدائرة بين الميليشيات الدينية السياسية، السنية والشيعية، إلا أن موتهم يدخل هنا في دائرة الصراع الطائفي والانتقام المتبادل بين الأطراف المتنازعة على السلطة أو على السيطرة على الدولة والموارد. أما قتل المسيحيين أو تشريدهم فهو تجسيد للعبث وغياب المعنى، بمقدار ما هو منفصل عن أي صراع، اللهم سوى الرغبة الجنونية في الانتقام، أو بالأحرى البحث عن كبش محرقة، يعوض القائمين به، من خلال التنكيل بأخوتهم المسيحيين العرب، عن عجزهم عن المساس بالمعتدي الأجنبي عليهم أو بمن هو في أصل بلائهم وإحباطهم من القوى والسياسات الداخلية والخارجية.

مأساة ما يقوم به هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصحاب دولة العراق الاسلامية، لا تكمن في أنهم يقومون بعمل لا إنساني يفضي إلى إفقار البلاد العربية من أحد أكثر مكوناتها الاجتماعية نشاطا وحركة ومساهمة في التنمية الاقتصادية والثقافية والسياسية، كما ذكر الكثير ممن تناولوا الموضوع من قبل، وهذا صحيح بالتأكيد، وإنما تكمن، أكثر من ذلك بكثير، في أنها تشكل عملية تدمير منظم للأسس الأخلاقية والقانونية والسياسية التي تقوم عليها المجتمعات العربية والاسلامية الراهنة نفسها. وهي لا تؤكد كما لاحظ البعض غياب الوطنية أو تغييبها، وهذا صحيح أيضا، وإنما تدل في نظري، أكثر من أي أحداث أخرى، على أننا لا نزال نفتقر في مجتمعاتنا للرؤية الانسانية. ولذلك أعتقد بعمق أننا لن نصبح بشرا ولن نستحق أن نعامل كبشر، في نظر أنفسنا نحن، ونظر الآخرين إلينا، مالم نتعلم أن نعامل المسيحيين وغيرهم من أصحاب المذاهب والديانات والثقافات المختلفة عنا، كما نعامل أنفسنا، ونرتفع بتفكيرنا وشعورنا إلى مستوى القيم الأخلاقية التي تجعلنا نرى في جميع البشر أخوة لنا في الانسانية، يستحقون المعاملة العادلة والقانونية، تماما كما يقول القرأن الكريم : ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى. وما دمنا نضطهد المسيحيين والأقليات الأخرى، لن نتحرر أبدا من النزوع الجامح، كما هو عليه الحال اليوم، إلى أن يضطهد بعضنا المسلم البعض الآخر، ومن الرغبة في كم أفواه من خالفنا من المسلمين أنفسهم في الرأي، وربما من جنون القتل على الهوية المذهبية أو الفكرية. وكما كان الحفاظ على حق المسيحيين وغيرهم، خلال القرون الطويلة الماضية، عربون المدنية التي نطمح إليها، يشكل تهجيرهم اليوم الدليل القاطع على سيرنا الحثيث نحو الهمجية. ولذلك أقول لن تتحرر الأغلبية من قهر الأقليات السياسية الذي هو مبدأ وجودنا اليوم إلا عندما تحرر نفسها من إرادة قهر الأقليات الدينية والإتنية.

الثقافة كمنبع للحرية

الاتحاد 11 نوفمبر 2010

أشرت في مقال سابق إلى الموقع المتزايد الذي تحتله، في عصرنا الراهن، التحليلات الثقافية في فهم التحولات الاجتماعية والعالمية، كما يدل على ذلك الانتشار الواسع الذي حظيت به، رفضا وتقديرا، نظرية صدام الثقافات، التي تحولت بسرعة إلى صراع الحضارات وأنتجت نقيضها: حوار الحضارات الذي تبنته الهيئات الدولية كبرنامج للتأليف بين المجتمعات والشعوب. وذكرت في هذه المناسبة بأنه، حتى عندما يكون للثقافة، كما حصل في جميع العصور والازمان السابقة، دور متميز في تكوين المجتمعات، ذلك أنه لا وجود لجماعة متميزة من دون ثقافة خاصة بها، لا ينبغي النظر إلى الثقافة كما لو كانت قالبا جامدا أو ماهية ثابتة تحدد سلوك الناس مسبقا وتفرض عليهم خيارات خارجة عن نطاق التأمل والاختيار. وإنما يجدر التعامل معها باعتبارها مخزونا متغيرا ومتحولا ومتجددا من القوالب والصيغ والاستعدادات والرموز والمعارف والتوجهات. فهي تعمل كما لو كانت علبة عدة يضعها التاريخ والمجتمع تحت تصرف أفراده ليأخذوا منها ويستخدموا أدواتها حسب حاجتهم وظروف حياتهم وأهدافهم وميولهم الشخصية. وقلت إن نوعية هذه الأدوات والقوالب التي تختزنها الثقافة توحد تفكير أو بالأحرى أسلوب تفكير الناس إلى حد كبير، لكنها لا تحرمهم من حريتهم الأصيلة والأساسية التي ترتبط بمقدرتهم على الاختيار حتى داخل هذه الثقافة، ولا تمنعهم من تبني مواقف تختلف من فرد لآخر وجماعة وأخرى، ومن بلورة استراتيجيات وحلول متباينة في مواجهة مشاكل واحدة أو متماثلة، داخل المجتمع الواحد نفسه.

ثم إن وجود هذه الصيغ والقوالب والاستعدادات العقلية والاجتماعية العامة لا يمنع الأفراد من تكوين مخزونهم الخاص من القيم والرموز والذاكرات والاستعدادات، وبالتالي من امتلاك تفكير وسلوك مختلفين في المجتمعات ذاتها. بل بإمكاننا أن نجد، في إطار العقيدة او الديانة نفسها، التي هي أضيق دائرة من الثقافة وأكثر توحيدا للذهنيات، المتدين الذي يتمسك بحذافير العقيدة ولا يستطيع أن ينفصل لحظة عنها، والأقل تدينا أو الاكثر براغماتية في تعامله مع المباديء والعقائد والأخلاقيات الدينية، بل والمجرد من الدين، مما كان التراث الديني يطلق عليهم اسم المنافقين أو الزنادقة أو المارقين. كما نجد المتدين السياسي، الذي لا يرى في الدين إلا ما يساهم في تحقيق الأهداف السياسية التي يعمل من أجلها، والمتدين الصوفي الذي يستخدم الطقوس الدينية مهما كان أصلها من أجل إغناء تجربته الروحية والتواصلية، والمتدين البسيط الذي يبحث في الدين عن الطمأنينة والرضى وضمان الآخرة وينزع إلى الاقتداء بما يرسمه له علماء الدين وفقهاء المذهب أو العقيدة. وكل هؤلاء يمتحون من مخزون رمزي وخيالي وأخلاقي ومعرفي وعقيدي "واحد"، أو يظهر كما لو كان كذلك. وهنا، في هذه الحرية الجوهرية الأولى، أعني حرية المرء في الاختيار حتى داخل الثقافة الضاغطة الواحدة، واحتمال تجاوزها، والتجرؤ على الاختلاف عما كان سائدا في الماضي، بل عما هو سائد اليوم، وما يشكل تقليدا جماعيا قائما، يكمن أصل التجديد والابداع ومحرك التحول في سلوك الشعوب والمجتمعات.

والقصد، ليس هناك ثقافة جامدة وثابتة لا تتغير ولا تسمح بالتغير والتجدد، اللهم إلا عندما تكون الثقافة قد ماتت فعلا، كما هو حال الثقافة الفرعونية أو البابلية أو الحميرية. ولا تموت الثقافة إلا عندما تموت النظم الاجتماعية التي عاشت في كنفها وكونت محور إلهامها وساحة تفكيرها ورهاناتها المادية والروحية. في ما عدا ذلك، يمكن للثقافة أن تتراجع وتتكلس وتنقطع عن الواقع الذي هو واقع حي ومتغير بالضرورة، وتنغلق على نفسها وتدور حول تقاليدها وقيمها وذكرياتها القديمة. وفي مثل هذه الأحوال التي تفقد فيها الثقافة دورها بالتأكيد، وتترك لقانوني القوة والعصبية أمر التحكم بالأفراد وضمان خضوعهم وتعاونهم وانتظامهم، وهذا ما حصل خلال ما نطلق عليه اسم حقبة الانحطاط في التاريخ العربي، لا تموت الثقافة نهائيا ولا تخمد جذوتها. إنها تنحط وتنضب ينابيع الابداع فيها، جارة معها المجتمع بأكمله نحو الانحطاط والإفقار. لكنها سرعان ما تستيقظ من ثباتها وتعود إلى الحياة حالما تشعر بأن هناك أفقا جديدا قد انفتح، أو أن عوارض قبر الحرية الذي وضعت فيه بدأت تهتز أو تتحرك. ونجد أنفسنا أمام استئناف دورة جديدة من التحول والتغير والابداع الثقافي. وهذا بالضبط ما حصل للثقافة العربية أيضا، وبالأحرى للمثقفين بالعربية، عندما بدأت معالم غروب السلطة الامبرطورية العثمانية وسقوطها تظهر للعلن وتبرز في المقابل آفاق التحولات الجديدة ومعالم النظام الحديث.

الثقافة، بهذا المعنى، ليست قدرا، وإنما هي مستودع تجارب المجتمع والأمم. وهو مستودع غني بالادوات والمفاهيم والأفكار والرموز التي يمكن تركيبها وإعادة تركيبها إلى ما لانهاية، حسب تبدل الاحوال وتغير الظروف، وبالتالي، وضمن حدود العدة الثقافية الموجودة، إبداع ما لم يكن مكتوبا سلفا على جبين المجتمعات وفي ثقافتها الأولى من رؤى ونظم ومؤسسات. بل هنا يكمن سر الابداع الانساني بإطلاق.

فلا يأتي التجديد والابتكار والابداع من النسق الثقافي الثابت، او من المخزون الثقافي القديم بالتأكيد، إنه يأتي من الكشف عن إمكانية تراكيب جديدة من نفس العناصر أو من عناصر جديدة ناجمة عن التفاعل مع الثقافات الأخرى، طالما أن المجتمعات لا تعيش في دارة مغلقة، واستجابة لضغوط جديدة تتعرض لها الثقافات باستمرار ولا تجد لها حلا في التراكيب والصيغ والقوالب الجاهزة الموجودة في مستودعها أو مخزونها القديم. هكذا تجد المجتمعات نفسها مضطرة إلى تغيير أسلوب عملها او تفكيرها، للرد عليها. بمعنى آخر يأتي الابداع بسبب فشل النماذج القديمة التي تختزنها الثقافة في الرد على الحاجات الجديدة الناشئة عن تطور الواقع الحضاري نتيجة تفاعل المجتمعات والفئات والأفراد.

والنتيجة أن ما تعيشه المجتمعات من حالات، بما في ذلك نوعية الثقافة التي تسيطر عليها وطبيعة القيم السائدة فيها، وأسلوب تعاملها مع الوقائع التاريخية المتبدلة والمتقلبة، لا يترجم ماهية ثقافية ثابتة تحكم سلوكها وأفعالها وتتحكم بها بصورة آلية، ولا يشكل أي تجل حتمي لروح ثقافية أو حضارية خاصة، ولا يعكس بنية عقول أبنائها أو نخبها، وإنما هو نتيجة تضافر ظروف طرأت وتطرأ عليها، بعضها داخلي وبعضها خارجي، هي التي ينبغي تحليلها وفهم آليات عملها إذا أردنا معرفة هذه الحالات أو تغييرها. وعندما نتحدث عن ظروف فنحن ندخل في مفهوم الزمن والتاريخ. الثقافات والعقليات والنفسيات والذهنيات موجودة من دون شك، ومؤثرة بقوة في التاريخ من دون شك، لكن على شرط أن لا ننسى أنها هي نفسها ظواهر تاريخية واجتماعية متحولة ومتبدلة وقابلة للقلب والتحوير والتغيير. ولا تشذ المجتمعات العربية عن ذلك. بل هي أكبر مثال حي عليه.

mercredi, novembre 03, 2010

وهم الحتمية الثقافية

الاتحاد 3 نوفمبر 2010

هناك فكرة رائجة اليوم، أو نجحت في ترويجها الأدبيات وأجهزة الدعاية العربية والغربية معا، الرسمية والأهلية، تفيد بأن ثقافة العرب والمسلمين، وبالتالي الاسلام الذي هو جزء رئيسي منها، لا تزال ثقافة تقليدية محافظة، لم تدخل بعد، أو إلا قليلا في روح العصر وأفكاره وقيمه، وأن هذه التقليدية، بما تعنيه من تشبث بالدين، وتنكر للعقل، وبعد عن البحث العلمي، وإنكار لقيم الحرية والفردية، هي التي تفسر وضعية العرب اليوم وما يميزهم من تأخر بالمقارنة مع الشعوب والمجتمعات الأخرى في طرق باب الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وخوض غمارها، للخروج من القرون الوسطى أو ما شابهها والدخول في عصر الديمقراطية والمآثر العلمية والثورة التكنولوجية والمعلوماتية، والتحول إلى فاعل في المنظومة الدولية. ويشارك في هذه الأطروحة الذين يطلقون على انفسهم اسم العقلانيين، من تقدميين يسارييين أو ليبراليين يمينيين، وقسم كبير من اللذين يسمون أنفسهم إسلاميين أيضا. فالبنسبة للعقلانيين يكاد الأمر يكون بديهة لا تحتاج إلى برهان، ويكفي للتحقق منها التأمل في حالة المجتمع العربي اليوم في الثقافة والسياسة والمجتمع والاقتصاد وغيرها. فهي مجافية لقيم الحداثة جميعا، العقل والحرية الفردية والمواطنية والتعددية والديمقراطية. اما بالنسبة للتراثيين والاسلاميين خاصة، فانتشار التقاليد الدينية والتراثية هي الحجة القاطعة على سقوط وهم الحداثة وأسطورتها في البلاد العربية والعودة المظفرة للهوية والخصوصية، وتأكيد قانون التدافع الحضاري ونضوج الظروف، مع الصحوة الدينية، لدورة حضارية جديدة يكون للاسلام وثقافته فيها موقع القيادة والسيطرة والتوجيه.

ومن هنا تركز الصراع داخل العالم العربي منذ أربعة عقود حول الثقافة العربية والاسلام خاصة، وتفرعت عنه صراعات فكرية مستمرة، وترسخ الاعتقاد بأن مصير العالم العربي للعقود القادمة مرتبط بحسم معركة العقل ونجاح عملية التنوير وتأويل التراث، عقلانيا أو علمانيا من جهة، أو ديانيا وإلهيا من جهة ثانية. وصار تعريف الاسلام، ومن ثم تأويله أو إعادة تحديد معناه ومضمونه، كدين وثقافة، محور النقاش العربي الفلسفي والاجتماعي والسياسي. وهناك اعتقاد قاطع اليوم، حتى عند الماركسيين الذين يشددون على المنهج المادي، بأنه لا خلاص ممكنا من الانسداد الذي يعرفه النظام والمجتمع العربيين، والذي يتجلى عبر تفاقم النزاعات الداخلية وبطء التنمية ورسوخ نظم الديكتاتورية والأبوية والاستبداد، وغياب حكم القانون، والانحطاط الأخلاقي، من دون البدء بإصلاح الفكر الديني، وفي المقدمة إعادة تفسير القرآن وتحديد موقعه ومكانته في نظام المعرفة والعقيدة الراهن. وهذا ما يفسر تكاثر محاولات إعادة قراءة القرآن أو تفسيره أو تأويله من قبل العرب والغربيين معا، والتعمق في فهم سيرة النبي وتجربته وأسرار نبوته ورسالته.

وحتى لو لم يعتقد جميع هؤلاء الذين يتبنون هذه الطريقة في مقاربة الأوضاع العربية بأن مفتاح فهم مصير المجتمعات الاسلامية موجود في القرآن والسنة، او الثقافة العربية التقليدية التي ينظر إليه غالبا كثقافة دينية محض، فإنهم يعملون على هذا الأساس. وبالفعل هل يمكن أن نفسر سلوك الناس إلا من خلال ثقافتهم والقيم التي تزرعها فيهم والتوجهات العميقة التي تغذيها والآمال التي تطلقها والمخاوف الدفينة التي تخفيها؟

لكن ليس من الصعب أن ندرك التبسيط المخل الذي تقوم عليه مثل هذه المقاربة. ذلك أن الثقافة لا تعيش خارج المتثقفين بها، أي البشر من أفراد ومجتمعات، والبشر المتثقفين بثقافة، مضطرين غالبا، رغم ضفط التقاليد والنماذج الجاهزة والأعراف السائدة التي تمثلها، إلى التعامل مع واقع متغير، يعلمهم دائما كيف يأولون ثقافتهم ويعدلونها بما يضمن لهم النجاعة في تعاملهم مع الواقع والاتساق مع أنفسهم ومبادئهم في الوقت نفسه. فالثقافة ليست مخزونا من القيم الجامدة والثابتة ولكنها فعل تثقف مستمر عند الفرد، أي مراجعة مستمرة غير واعية للمسلمات والقيم والمباديء تحدد الاختيارات وترتب الأولويات وتعدل الاتجاهات وتعيد بناء المعاني والدلالات على ضوء الأهداف الجديدة أو المتجددة. وكما أنه لا توجد ثقافة خارج الحاملين لها من البشر الذين يعيشون تجربة حية ويصارعون يوميا للحفاظ على نجاعة سلوكهم وعقلانية مشاريعهم حتى لا يخفقوا وتذهب ريحهم في مجتمعهم نفسه، كذلك لا توجد ثقافة خارج المجتمع الكلي الذي يعيش هو أيضا في نسق أشمل يضمه مع مجتمعات أخرى، ويفرض عليه أوضاعا ورؤى وتطلعات متغيرة ومتبدلة، ويدفعه إلى بلورة استراتيجيات جديدة وخيارات لم تكن ملحوظة في زخيرته الثقافية. فهو أيضا بحاجة إلى أن يطور سياسات وحلول عملية تؤثر على الثقافة الأصل أو على المخزون من القيم والدلالات والرموز الثقافية القائمة، وتدفع إلى تحويرها وتجديدها.

لذلك، بعكس ما هو شائع اليوم حول العالم العربي، لم يشكل الدين عقبة أمام تحول أي مجتمع من مجتمعات العالم، عندما كانت الظروف سانحة لمثل هذا التحول، بما في ذلك المجتمعات الغربية التي كان الدين يتمتع فيها بقوة مركزية منظمة ومسلحة، وبشرعية استثنائية كما تتمثل في سلطة البابا وسيادته الروحية والزمنية. وكل ما حصل هنا هو الخروج من معركة التحول الفكري والقيمي والاجتماعي والسياسي، الذي حصل بالرغم من مقاومة الكنيسة وفي الغالب ضد إرادتها، بعداء أكبر للسلطة الكهنوتية ورجالاتها قبل أن يصدع هؤلاء لامر الدولة ويسلمون بسيادتها السياسية. فالثقافة، مهما قيل عن تقليديتها وروحها المحافظة وارتهانها للصيغ والنماذج الجاهزة التي تطورها تلقائيا لتحقيق وظائفها التواصلية والعملية، تتكيف أيضا مع الظروف، ويعاد تأويل رموزها وتجديدها، وهذا ما يفسر تطور الحضارة في كل مكان. ولو كانت الثقافة مخزونا ثابتا من القيم والأفكار والرموز والقوالب الجاهزة التي لا تتغير ولا يمكن تجاوزها من قبل الأفراد والجماعات، لأنها هي التي تتحكم بتفكيرهم وسلوكهم، كما هو الاعتقاد السائد اليوم، لما كان هناك تاريخ آخر غير تاريخ الثقافات الثابتة والجامدة، أو بالاحرى لما كان هناك تاريخ أصلا لأنه سيكون الزمان إعادة إنتاج للنظم نفسها المرتبطة بالثقافات الثابتة. هناك تاريخ لأن هناك ثقافة وإمكانية لتجاوز القوالب الجاهزة أو خرقها لمعاينة الواقع المتغير والمتبدل والتكيف معه، وبالتالي لحصول تغيير وإبداع وتجديد.

فالمخزون الثقافي، أو الثقافة من حيث هي مخزون من القوالب والصيغ والاستعدادات والرموز والمعارف والتوجهات موجودة بالتأكيد في كل المجتمعات. بيد أنها لا تمثل إلى علبة العدة التي يضعها التاريخ والمجتمع تحت تصرف أفراده ليأخذوا منها ويستخدموا أدواتها حسب حاجتهم وظروف حياتهم وأهدافهم وميولهم الشخصية. ونوعية هذه الأدوات والقوالب التي تختزنها الثقافة تؤثر بالتأكيد في سلوك الأفراد وتوحد تفكيرهم إلى حد كبير، لكنها لا تحرمهم من حريتهم الأصيلة والأساسية التي ترتبط بمقدرتهم على الاختيار حتى داخل هذه الثقافة، وتبني مواقف تختلف من فرد لآخر وجماعة وأخرى، وبلورة استراتيجيات وحلول متباينة عند الأفراد والجماعات لمواجهة مشاكل واحدة.

mardi, novembre 02, 2010

ندوة الدوحة 263 نوفمبر المجتمع المدني

المجتمع والمجتمع المدني

جامعة قطر 263 نوفمبر 2010

تدفع تجربة العقود الثلاث الماضية التي دخل فيها مفهوم المجتمع المدني بكثافة في النقاش السياسي والاجتماعي وفي الممارسة السياسية أيضا إلى طرح أسئلة عديدة منها

ماذا يعني المجتمع المدني ببساطة، وهل مفهوم المجتمع المدني مفهوم علمي أم ايديولوجي؟

- هل لا يزال هذا المفهوم ناجعا في عصرنا الراهن، عصر العولمة كما درج القول منذ فترة لا بأس بها، أم فقد إجرائيته العلمية ؟

- هل هو صالح لفهم العلاقة بين الدولة والمجتمع في المجتمعات العربية المعاصرة، أو للإضاءة على أجندة الإصلاح المطلوب داخل الدولة والمجتمع ؟

- ما هي الوظيفة التي يؤديها مفهوم المجتمع المدني في استخداماته العربية الراهنة، في الخطاب وفي الممارسة؟

ما يهمنا في النهاية، هو أن نعرف ما قيمة مفهوم المجتمع المدني بالنسبة لنا نحن، سواء في فهم صيرورة المجتمعات العربية ومسار تحديثها، أو في تحليل طبيعة الحداثة العربية أيضا، أو في نقد هذا المسار وتوجيهه في الاتجاه الصحيح. وفي هذه الحالة تطرح مسألة تحديد هذا الاتجاه الصحيح بالضبط، أي ما معيار الصحة أو السلامة في النظم الاجتماعية؟ هل هو التطابق مع نموذج تاريخي معين، أم هناك تجديد محتمل دائم، وهل المقارنة ممكنة أو مقبولة؟ وإن لم يكمن الأمر في التطابق، فما هو النموذج المرشد في هذا النقد؟

1- عودة إلى معنى المجتمع المدني

تتمحور نظريات المجتمع المدني حول قدرة المجتمع على أن ينظم علاقاته من تلقاء نفسه، أي من دون التدخل المباشر للدولة وخارج سيطرة الأسرة ومنطق علاقاتها الطبيعي. وهذا يعني الاعتراف بدرجة كبيرة من استقلال المجتمع إزاء الدولة والأسرة، ومن ثم إمكانية تأثير هذا المجتمع نفسه فيهما.

ويفترض استقلال المجتمع استقلال الفرد الذي هو الخلية الأساسية فيه، ويقوم عليه. فلا وجود لمجتمع مدني من دون وجود الفرد الحر العاقل. وليس استقلال المجتمع تجاه الدولة والأسرة سوى انعكاس مكبر لاستقلال الفرد. وليست مؤسسات المجتمع المدني القائمة على الأسس العقلانية والقانونية الواضحة، سوى التتويج لما يتمتع به هؤلاء الأفراد أنفسهم من حرية ونظرة عقلانية تسمح لهم بالاختيار ومطابقة إرادة كل واحد منهم مع منطق الحق والقانون، بوصفه التعبير عن إرادتهم المشتركة والعامة.

ويفترض وجود المجتمع المدني، بالإضافة إلى استقلال الفرد، وجود فضاء عام لا يخضع لسيطرة أي فرد ولكنه مجال تفاعل الإرادات الفردية الحرة، وإنضاج الخيارات العمومية، الذي تتجلى فيه إمكانيات المجتمع الفعلية للتنظيم الذاتي. والفضاء أو المجال العام يشير إلى حقل التواصل الحر بين الأفراد، وإلى مؤسسات تجمع بينهم، وهي ملك مشترك لهم جميعا، في ما وراء ما يفرقهم من علاقات أسروية وقبلية ودينية ومذهبية، ويعني أيضا المصالح العامة المتجاوزة للمصالح الفردية[i]. وهو عكس الفضاء الخاص المقتصر على المصالح والمباديء والمؤسسات الخاصة. إنه ميدان تشكل الأفراد كمواطنين أحرار ومستقلين ومتساوين، أي الانتقال من بنية الجماعة ذات اللحمة الطبيعية إلى بنية المجتمع المدني، بما يتميز به من وعي لهذا الاجتماع وإدراك لمعناه وغاياته ومشاركة في قراراته. فهو بعكس العصبية التي يقوم عليها تضامن الجماعة، اجتماع قائم على العقل والاختيار. ومن هنا، لا ينفصل تكوين الفضاء العام عن وجود خطاب عقلاني نقدي يتجاوز أيضا التماهيات الخاصة، ويعبر عن معايير مشتركة للتفاهم بين الأفراد.

وترجع الجذور البعيدة لنشوء المجتمع المدني إلى المجتمع البرجوازي الأول، أي ذلك المجتمع الذي نشأ داخل المدن الصغيرة التي قامت خارج حدود الإقطاعات القرسطوية وعلى هامشها، والتي كانت تحكم نفسها بنفسها، بعيدا عن الوصاية الإقطاعية والتبعية الكنسية المرتبطة بها، والتي تمتع فيها الأفراد البرجوازيون، أي أبناء هذه المدن، بحريات فردية لم تكن معروفة عند بقية السكان. فالمجتمع المدني هو نتاج المجتمع البرجوازي الحر والمتحرر من الوصايات التقليدية.

ومن هنا يشكل المجتمع المدني موضوع السياسة الحديثة. وهذا ما تعكسه النظرية الليبرالية التي تنظر إلى التاريخ السياسي للمجتمعات كتاريخ تحرر من الوصايات الخارجية وتأسيس لاجتماع سياسي قائم على عقد اجتماعي هو ثمرة تواضع واتفاق بين أفراد عاقلين وأحرار ومتساوين في الوقت نفسه. وجوهر الليبرالية التأكيد على أولوية المجتمع المدني على الدولة. وهذه الأولوية متضمنة في نظرية سيادة الشعب، التي هي الأصل في سيادة الدولة. فالمباديء التي تؤسس للمجتمع المدني وتحركه هي التي تؤسس للدولة وتضبط حركتها وسلوكها. وليست الدولة سيدة، ولا قيمة لمعنى سيادتها، إلا من حيث هي التعبير عن روح السيادة الكامنة في كل فرد مواطن، ووسيلة تكريسها في الوقت نفسه. فهو أساسها ومصدر شرعيتها. وهذا ما يشير أليه جون لوك بوضوح عندما يتحدث عن الأسبقية المنطقية للمجتمع على الحكومة. وهو الذي يفسر أيضا نزوع الفكرة الليبرالية إلى تقليص دور الدولة، لحساب الفرد الذي ترى فيه اللبنة الأولى في النظام الاجتماعي. فليست الدولة الليبرالية سوى ثمرة تفاعل الإرادات الفردية الحرة وتفاهمها الضمني او المعلن. فالأساس الحقيقي للدولة في المفهوم الليبرالي هو العقد الاجتماعي النابع من تفاهم الأفراد المواطنين وتضامنهم.

من هنا يختلط المجتمع المدني، أو يختلط تمدين المجتمع، بحداثته. فتطور بنياته، وكذلك الخطاب الذي يحكم علاقات الأفراد فيه، هو الذي يفسر تطور الدولة التي يشكل الحامل الحقيقي لها. وحداثة الدولة القانونية والإدارية والسياسية هي رجع لحداثة المجتمع. فهو جوهر الدولة الحديثة من حيث هي التنظيم الذاتي للمجتمع. مما يفسر أيضا المطابقة بينهما. فهي له وهو فيها، وليس هناك انفصال بين المجتمع المدني والدولة. وكلمة المدني الملحقة هنا بالمجتمع تهدف بالضبط إلى إظهار هذه المطابقة بين المجتمع ودولته، فهي ليست أي دولة ولكنها دولة المجتمع المدني، أي التعبير عن مدنية هذا المجتمع، حداثته، انعتاقه، تعدديته، مساواة أفراده أمام القانون، وطابعه الحقوقي، أي قيام العلاقات فيه على مفهوم الحق والصلاحيات المرتبطة به. وشرعية الدولة الحديثة تنبثق في هذه الحالة تلقائيا من ضمانها للحقوق. فهي بالتعريف أيضا دولة الحق والقانون. وهي النموذج الذي ينزع إليه كل مجتمع أو اجتماع مدني حديث.[ii]

استقلال المجتمع عن الدولة وأسبقيته المنطقية والسياسية عليها شكل من دون شك النواة الرئيسية لمفهوم الحداثة. وهو يعكس الحالة التي أصبحت عليها العلاقات الاجتماعية بعد تفكك البنية السياسية للملكية الإقطاعية وتدهور مواقع البابوية الكاتوليكية أيضا. وهي حالة أخذت فيها العلاقات الاجتماعية بالتبلور بتوجيه من خطاب تأسيسي تحرري جديد يختلف تماما تما كان سائدا من قبل. ويمكن أن نلاحظ هذا الايمان باستقلال المجتمع في جميع الميادين. فقد نظر ريكاردو أيضا إلى الاقتصاد بوصفه محكوما بقانونه الخاص، قانون العرض والطلب. واخترع آدم سميث نظرية اليد الخفية التي تضمن الاتساق والانسجام بين المصالح في المجتمع البرجوازي التجاري. وحتى ماركس، الذي كشف عن هشاشة قشرة المجتمع المدني، أو عن فراغ محتواه القانوني والعقلاني بالمقارنة مع حقيقة السيطرة الطبقية، وأبرز إلى أي حد لا تعكس الدولة القيم المضفاة على المجتمع المدني البرجوازي، لم يشذ عن ذلك. فقد نظر إلى الدولة والسياسة عبر قوانين الصراع الطبقي، وبحث عن مفتاح فهم الدولة والسلطة في ميدان علاقات الانتاج والانقسام الحتمي للمجتمع بين طبقات سائدة وطبقات خاضعة، وفي استغلال طبقة لأخرى، مضفيا بذلك على مجال العمل والانتاج استقلالية كبرى بالمقارنة مع المجالات الأخرى[iii]. وبالمقابل، لا يشير المجتمع المدني في النظام الفكري الماركسي إلى مفهوم ايجابي، وإنما يعبر عن سيطرة المصالح الخاصة واللاقانونية واللاإنسانية على المصلحة العمومية، وثمرة الحتمية الاقتصادية لا صعيد تاكيد العلاقات القانونية وضمان الحقوق الفردية.

2- نقد مفهوم المجتمع المدني

انطلاقا من ماركس لكن في الذهاب أبعد بكثير منه، يقف ميشيل فوكو ناقد الحداثة القانونية والسياسية بامتياز. فهو أيضا يرى أن المجتمع المدني لا ينفصل عن الدولة الحديثة، لكنه لا يرى فيه مجال الحرية اوالتعاقدية التي تؤسس للعلاقات الاجتماعية، وإنما ينظر إليه بالعكس على أنه الجزء المكمل للدولة الحديثة من حيث هي آليات سيطرة وإخضاع للأفراد تحت غلالة خطاب الحرية والانعتاق والمساواة . فهو جزء من أدوات السيطرة التي تستخدمها.

بل إن خطاب المجتمع المدني يبدو في نظر فوكو خطابا قديما أو يستند إلى مفاهيم كانت تنتمي إلى نمط السلطة الذي سبق نشوء السلطة الحديثة في القرن الثامن عشر في ظل المجتمع البرجوازي. فهذا النمط القديم هو الذي كان يدور من حول مفهوم السيادة وما يرتبط بها من مفاهيم الحق والخضوع. ولم يكن الحق نفسه يعني سوى حق الحاكم في السيطرة وما يترتب عليه من خضوع الرعايا لأوامره وطاعة سلطانه. في المقابل لا يتوافق نظام الانضباط، الذي يشكل أهم مخترعات المجتمع البرجوازي، مع مفاهيم السيادة والحق والقانون التي ارتبطت بالنمط السابق، ولا يمكن تمثيله أو تصور أسلوب عمله من خلالها. ولذلك تحولت مفاهيم الحق إلى ايديولوجية فحسب، بالرغم من سيطرتها على النظرية السياسية للقرن التاسع عشر، والتي تتجسد في مفهوم العقد الاجتماعي. إن جميع مفاهيم المجتمع الحديث المتعلقة بالمساواة في القانون والحقوق والديمقراطية التمثيلية والقيود التي يفترض أن تضعها الجماعة الحرة المكونة من أناس أسياد وأحرار على ممارسة السلطة، تدخل في نطاق هذا العمل الايديولوجي. أما السلطة الحقيقية فهي بالتعريف غير مرئية، ولا يمكن الكشف عن موقعها ولا تخفيضها إلى الحالة السياسية التي تعين حدودا واضحة لممارستها. ولا يمكن بالخصوص حصرها في الاطار القانوني. وهي لا تظهر في النمط الإداري البيرقراطي والتسلطي الذي كانت تتخذه في عصر السلطة المطلقة السالفة . بهذا المعنى أيضا بقي نقد السلطة الملكية المطلقة باسم العقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر حبيس المفاهيم القانونية الحقوقية القديمة للسلطة ولم يتجاوزها. كل ما فعله هو دفعها إلى حدها الأقصى. لم يستطيع أن يتخطى فكرة ارتباط السلطة بالقانون، التي هي في أساس نمط السلطة التقليدي. وهي النظرية التي تعتقد أن تطبيق القانون ومراعاة الحقوق هو أساس شرعية السلطة وبالتالي مصدر الطاعة لها. وفي النهاية هذا المفهوم القانونوي للسلطة هو في الواقع مفهوم معياري ليس له علاقة مباشرة بآليات ممارسة السلطة بالفعل. بل إن خطاب السلطة القانوني لا يهدف إلا إلى إخفاء عمليات السيطرة بحرف انتباهنا عن الخطاب والممارسة الفعليين الحديثين. إنه يدفعنا إلى الغرق في النقاش عن شرعية السلطة أو عدم شرعيتها بدل البحث في موضوعات الكفاح والخضوع، أي يلهينا بالحديث في مفهوم السيادة بدل أن يدفعنا إلى الانشغال بموضوع السيطرة.

وللانضباط خطاب وأشكال تنظيم مختلفة عن تلك الخاصة بالسسيطرة القانونية. فالانضباط يسعى إلى جعل سلوك الفرد موائما للسلوك العام المطلوب، لمنطق السيطرة الاجتماعية، ولا يقوم على تأكيد المعايير القيمية. إنه تطبيع للأفراد لا فرض لقانون أو التأكيد على مثال أعلى. وهو يعتمد تقينات حديثة للسيطرة تعمل من تحت ستار مفاهيم الحق والقانون والحرية والمساواة والتعددية والديمقراطية التي يشير إليها المجتمع المدني، وتستند بشكل رئيسي في تحقيق أهدافها إلى تعميم مفهوم التفكير والسلوك الطبيعي الذي لا ينبغي الخروج عنه، وضرب أو تشذيب كل ما يخرج عن هذا السلوك المقياسي ويهدد وحدة الهيئة الاجتماعية وانسجامها. ومن هنا لم يضيع فوكو وقته في البحث عن مطابقة سلوك السلطة للعقد الاجتماعي المفترض واحترامها للحريات والحقوق، ولكنه سعى إلى أن يكشف عن آليات السيطرة الحديثة التي تخضع الفرد لغايات السلطة في التفاصيل الدقيقة لآليات الضبط والمراقبة كما تظهر وتتجلى في مؤسسات المشافي الصحية والسجون والمدارس، ومؤسسات الانتاج[iv].

فعندما ننظر إلى السلطة من خلال تقنيات الضبط والانضباط الدقيقة والمتنوعة واللانهائية هذه، تلك التي يمارسها الفرد على ذاته، والتي تمارس عليه من قبل الآخرين، في المدرسة والمشفى والجمعية والحزب، لن تبقى قيمة للبحث عن هذه السيطرة في مستوى مفهوم الحق والقانون والعدالة والمساواة. فجوهرها هو تسوية الجميع ببعضهم، ومنع أي خروج أو نشاز باسم الاتساق والانسجام والتكامل والتضامن داخل المجتمعات وبين الأفراد.

وإذا كان مفهوم المجتمع المدني مفهوما ايديولوجيا، فليس بإمكانه أن يفسر شيئا من آليات سير المجتمعات، ولا يفيد في توجيهنا إلى أي مكان. وإذا كان مفهوم الحق يهدف إلى إضفاء الشرعية على السلطة أكثر مما يؤكد استقلالية الفرد تجاهها، فليس هناك سوى نقد هذا المفهوم الحقوقي السياسي للكشف عن حقيقة السيطرة التي يخفيها، وفي ما وراء ذلك فتح آفق التحرر والانعتاق الفعلي للفرد. وهذا هو مشروع فوكو الرئيسي.

أما هابرماس فهو يعتقد بعكس فوكو بأن أزمة الحداثة نابعة من تشويه المثال القانوني المعياري ومفهوم الحق الذي قامت عليه السلطة الحديثة. وهذا هو مصدر الأزمة العميقة التي تعيشها الحداثة. وهو يسعى في فلسفته إلى تطوير الخطابات والوسائل التي تمكن المجتمع من استعادة استقلاله وتعيد للفرد المواطن حريته ومقدرته على المشاركة والتفاعل والفعل معا. ولذلك فهو يرفض نقد ميشيل فوكو الذي يبدو من وجهة نظره نقدا سلبيا بل عدميا لا يوصل إلى مكان. وهو يأخذ على هذا النقد: أولا أن خطاب فوكو عن الحق أو الحقوق لا علاقة له بالتطور المعياري الذي حصل داخل مفهوم القانون منذ القرن الثامن عشر، أو مع الانتشار الواسع لفكرة الحقوق المدنية في القرن العشرين. فهو يتجاهل أولا هذا التطور الذي ارتبط بتكون نمط السلطة الحديثة، أو نمط السلطة في النظام الاجتماعي الحديث، ولا يدرك الفرق ثانيا بين مفهوم القانون كما ساد في الاقطاعية الملكية، وما ارتبط به من مفهوم الامتيازات،

كما أن فوكو يخلط في نظر هابرماس جميع مستويات السلطة فيما بينها ويلغي إمكانية نشوء معرفة موضوعية لا ترتبط بنظام سلطة، ولا يقدم أي إجابة عن الموقع الذي يحتله خطابه نفسه، وعن أي علاقات سلطة يعبر خطاب فوكو نفسه في السلطة.

لكن في ما وراء نقد فوكو وهابرماس وخلافهما، تميل النظريات الحديثة، في مناقشة مشاكل المجتمع المدني وحدود عمله، إلى التركيز على مدى المشاركة السياسية للأفراد، والحدود التي يمكن فيها للمجتمعات أن تتنظم من ذاتها أو من داخلها في إطار سيطرة الأسواق الرأسمالية المتوسعة، وتعدد الفضاءات العامة داخل المجتمع الواحد، والتأثير المتنامي لوسائل الإعلام الحديثة، بالإضافة إلى ما تشير إليه نظريات ما بعد الحداثة من تقهقر الخطاب العقلاني النقدي، بالمقارنة مع التأثيرات الثقافية التي تساهم في تكوين وعي الأفراد وتربيتهم.، من دون الحديث عن نشوء المجتمع المدني العالمي.

ويكاد يكون هناك إجماع على أن تطور الإعلام الدولي وتعدد آليات السيطرة الجديدة تنحو نحو تقليص مجال المجتمع المدني ومحو مفهومه. فالإعلام، ان لم نقل الثقافة بمعظمها، وهي اليوم الثقافة الاستهلاكية، تكاد تخضع إلى حد كبير لمعايير الربح التجاري وسيطرة الشركات والرساميل الكبرى. والسوق الرأسمالية الحرة التي تنظم ذاتها من خلال قانون العرض والطلب هي اليوم سوق احتكارية او مغشوشة بسبب المضاربات المالية وفي أكثر الأحوال، تحالف السلطة والمال، وضعف فعالية الدولة القانونية. والخطاب العقلاني النقدي، الذي هو معيار الاستقلال الفكري ومصدر إرادة التحرر والاختيار عند الأفراد المواطنين، يتراجع باضطراد لصالح العصبيات المذهبية والدينية، ولحساب الولاءات الطائفية والقبلية والإتنية، والخطاب المؤسس للمدنية والعقلانية والحق يعاني من التفتت والانجراف، وذلك إن لم نشر إلى تفكك مفهوم العقل نفسه. مما يعني أن المجتمع يفقد أكثر فأكثر مدنيته، أي استقلاله الفكري والتنظيمي تجاه القوى الخاصة والخارجية، قوى الاستلاب والسيطرة، وبالمناسبة ذاتها نجاعته كمفهوم علمي إجرائي صالح لفهم وتفسير آليات عمل النظام الاجتماعي، ومن ثم كأداة أيضا لنقده وإصلاحه.

وليس هناك شك أن الدولة ليست اليوم، أو هي تنأى أكثر فأكثر عن أن تكون، انعكاسا للمجتمع المدني، أو تكريسا للقوى والقيم والمباديء التي تسيره. فهي جزء من منظومة عالمية تؤثر ببعضها وتتأثر وتكاد تستقل في الكثير من الحالات أو تنفصل عن مجتمعاتها الفعلية. لكن لا يعني ذلك أيضا أن المجتمع المدني مفهوم مصطنع، أو ايديولوجية هدفها التغطية على آليات السيطرة التي يمارسها نظام اجتماعي مجرد، لا يخضع لأي إرادة، سواء أكانت إرادة الأفراد أو القوى الاجتماعية. لا يزال المجتمع المدني خطابا مؤسسا في النظم الديمقراطية، أي مصدرا للتاكيد على قيم الحرية والمساواة القانونية والعقلانية التي تقوم عليها النظم الليبرالية. وهذا ما يفسر إعادة إنتاج هذه النظم، ولو في سياق تنازلي يعكس ميلها إلى الانحطاط والعقم. كما يفسر الميل المتزايد لتقديم المفهوم المعياري في تناول المجتمع المدني على المفهوم الوصفي، خاصة في الجمهوريات والمجتمعات النامية. وهو يستخدم كخطاب لتاكيد استقلال الفرد وضمان حرياته، وكمعيار لقياس الحداثة السياسية والاجتماعية. أي للتفريق بين المجتمعات الحديثة أو التي اندرجت جديا في الحداثة وتلك التي لا تزال تعيش حنينا مستمرا للماضي.

ومن الواضح أن هذا المفهوم ذو الأصل الليبرالي يستقل أكثر فاكثر عن سياقه النظري والاجتماعي التقليدي، ويتحول إلى مفهوم نسبي، أي متغير ومتعدد في الوقت نفسه. وهو لا يمكن أن يعني شيئا اليوم إلا ضمن نظام فكري واجتماعي محددين. وعلى أية حال، لم تعد لهذا المفهوم علاقة كبيرة بنظام الفكرة الليبرالية التي شكل محورها الرئيسي بمقدار ما عبر عن نشوء سلطة جديدة أو نمط جديد من السيطرة السياسية يربط مصير السلطة بالشرعية المستمدة من السيادة الشعبية أو الديمقراطية وبخضوع الدولة للعقد الاجتماعي، أي بالتكون كدولة قانونية وحقوقية.

3- نحن والمجتمع المدني

لكن ما يهمنا هنا ليس الانتقادات التي وجهتها الفلسفة المعاصرة لفكرة المجتمع المدني المرتبطة بالفعل بالحقبة الأولى من الحداثة التي كان يغلب عليها الطابع المعياري بقدر ما كانت فكرة صاعدة، وتعبير عن إرادة التغيير والتحويل التاريخي للمجتمعات الرازحة، حتى ذلك الوقت، تحت انقاض مفاهيم مجتمعات القرون الوسطى وخطاباتها ونظم سيطرتها المجتمعية، وإنما علاقة هذا المفهوم، وبالتالي نجاعته في المجتمعات العربية المعاصرة.

اول ما يميز التعامل مع هذا المفهوم في لفضاء الفكري والسياسي العربي هو أنه تعامل استهلاكي لم يقم على نقد المفهوم وإنما على استعارته واستخدامه كمفهوم ناجز وجاهز في الصراع الفكري والسياسي العربي منذ نهاية الحقبة الثورية وانكشاف الطابع العنين لنظم السلطة العربية وعجزها عن التغير والتحول والتطور.

والثاني أن انفصال هذا المفهوم عن بيئته الطبيعية المتمثلة في الفكر الليبرالي. وهو إما مفقود في الفضاء الثقافي العربي أو فكر مشوه وقابل للتأويلات الديكتاتورية بسبب مأزق الليبرالية السياسية والاقتصادية نفسها في هذه المجتمعات، وانعدام آفاق بلورتها وتطورها. فتكاد الليبرالية تعني هنا التعلق بالحداثة الغربية كما هي وتحويل قيمها إلى مثل لا تاريخية، أكثر بكثير مما تعني تمثل قيم الحرية الفردية والانسانوية والكونية القانونية والفكرية. وحتى الفكر الرديكالي النابع منه والمضاد له بقي هنا ملوثا بروح الطليعية والنخبوية العنصرية. ولهذا بقي المفهوم في حالة من فقر الدم الشديد ولم يثر بأي أبحاث جدية في ميادين الحق والقانون والقيم المعيارية الاخرى.

والثالث أن دخول هذا المفهوم على نظام سلطة مضادة بعمق لمفهوم الليبرالية ومتطلباتها، ومفتقرة لمهوم الفضاء العام، بمقدار ما هي غير موائمة لنمو الفردية المسؤولة والعاقلة، ومعادية للحريات الفردية، حرم مفهوم المجتمع المدني من أن ينشأ ويتطور بالفعل كممارسة متميزة عن الممارسة السياسية.

والواقع أن مأساة المجتمع المدني العربي مزدوجة، وهذا ما يفسر هشاشته والحيز المحدود جدا الذي يحتله. فهو يفتقر إلى البيئة البرجوازية الليبرالية، ثقافة وتنظيما، التي كانت في أصل ولادته ونشوئه أولا ويتعرض لجميع ما يتعرض له المجتمع المدني في مجتمعاتنا الحديثة من ضغوط نتيجة الحت المستمر الذي تمارسه الوسائل والمصالح والقوى الخاصة الصاعدة، المحلية والدولية، في سياق مجتمع الاستهلاك والضبط وصناعة الرأي العام على الفضاء العمومي والذي يجعل الحديث عن مجتمع مدني مستقل وأفراد أحرارفي إرادتهم وعقلانيين في سلوكهم من باب المجاز أكثر منه من باب الحقيقة والواقع.

هل يعني ذلك أن علينا أن نرفض هذا المفهوم ؟

ليس بعلينا الضرورة أن نرفضه لمجرد أنه مفهوم مجلوب من نظام آخر أو غير موافق لمسار تطور أو تاريخ المجتمعات العربية[v]. فالمفهوم، أي مفهوم، ليس ماهية ثابتة مستقلة عن الزمان والمكان وعن الخطاب الذي يدخل فيه أو الفاعلين الاجتماعيين الذين يمتشقونه. إنه يأخذ معنى جديدا دائما مع تغير هذه العوامل وتبدل الظروف. وهو يوظف ويعاد استمثاره في بيئات مختلفة، وقد يكون في إعادة هذا التوظيف مصدرا لتجديده وإحيائه. وربما تحول في ما كان يضمره إلى رمز وعمل عمل الأسطورة المحركة والملهمة. وهذا ما حصل في الفضاء العربي المعاصر. فمنذ انحسار الشرعية عن نظم السلطة المركزية التي عرفتها المجتمعات العربية بعد الحرب العالمية الثانية والتي ارتبطت بعملية التحديث الإرادي القوية، سواء في بلدان سيطرت عليها ايديولوجية الاشتراكية والماركسية أو في بلدان بقيت حببسة النظرة الليبرالية أو شبه الليبرالية التي لم تكن سوى تعبير عن تفضيل التحالفات الاستراتيجية مع الكتلة الغربية، أو حتى في ظل ايديولوجية سياسية دينية ومذهبية وقبلية، برز مفهوم المجتمع المدني كأداة لنقد نظم السلطة المطلقة والشمولية وإطارا لإعادة طرح مسألة الديمقراطية والتعددية في المجتمعات العربية.

ومن هذه الناحية أصبح لمفهوم المجتمع المدني هنا وظيفة جديدة مختلفة تماما عن تلك التي كانت له في المجتمعات الليبرالية التي عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر. وبالرغم من أنه يستخدم أحيانا العناصر نفسها ويستند إلى المرجعية المعيارية القانونية، إلا أن فاعليته الحقيقية تنبع هنا من فتحه آفاق التفكير الكوني الذي يربط مصير المجتمعات العربية وتحولها بمصائر الشعوب الأخرى، ومن سعيه إلى إضفاء شرعية سياسية أو فوق سياسية على أعمال المقاومة المتعددة الوجوه التي برزت في وجه نظم السلطة المطلقة القائمة.

بالتأكيد ليس المجتمع المدني إلا جزءا من المجتمع السياسي الليبرالي الحديث، تماما كما أن المعارضة السياسية هي عنصر بنيوي في نظام السلطة الديمقراطية الحديثة. وبغياب هذا وذاك، أي بفقدان عنصر الشرعية القانونية عن المجتمع المدني وعن المعارضة السياسية، يتحول كل عمل احتجاج، مهما كان نوعه، على النظام والسيطرة القائمة، بالضرورة، إلى عمل مقاومة بدل أن يكون مشاركة في إطار توزيع معين للفضاء الاجتماعي العام أو للاختصاصات (المدني والسياسي)، أو أن يكون معارضة للنظام السياسي القائم في إطار الدفاع عن النظام الديمقراطي العام في إطار الدولة الليبرالية.

ومن هنا تبرز لا فاعلية النقد الذي يطبق نقد المفهوم في الغرب على استخداماته العربية وينطلق من ذلك النقد الخارجي ليلغي شرعية هذا الاستخدام أو يعلن زيفه وعدم إمكانه. فمثل هذا النقد المكرر للنقد، أو المعتمد على نقد يرتبط بسياق اجتماعي آخر، لا يمنع صاحبه من رؤية الجدة في السياق الذي يستخدم فيه المفهوم، ويفقده القدرة على الكشف عن أصالته بالمقارنة مع السياق المرجعي الأصلي، وإنما يحرمه أيضا من الكشف عن معنى الاستخدام الجديد وفهم الوظائف والمهام الخاصة التي يستخدم من اجلها. وهكذا لن يساعد هذا النقد على تطوير تجربة مقاومة النظم التسلطية بمقدار ما يساهم في إبطالها وإحباط القائمين بها. بل ربما أمكن القول إن نتائج النقد اللاتاريخي المعمم على التجربة العربية كانت أسوأ على نشاط المقاومة الإنسانية لنظم السيطرة والتسلط الأبوية والمافيوزية من نتائج غياب النقد النظري للمفهوم من قبل أولئك الذين استخدموه كما هو، أي كمفهوم ايديولوجي، ولم يكلفوا أنفسهم عناء النظر بمقتضيات اشتغاله.

فالنقد الاول يقود إلى التضحية بالمقاومات وإدانتها أو نزع الشرعية عنها، بينما غياب النقد منع المقاومين أنفسهم من إدراك حدود ومعنى وطبيعة الممارسة التي ينخرطون فيها، وأوقعهم في مطبات كان من الممكن تجنبها لو فهموا أن ما يقومون به ليس عملا مدنيا بالمعنى الذي كان يشير إليه هذا المفهوم في المجتمع الليبرالي وإنما هو مقاومات "سياسية"، ولو كان ذلك بثياب وتحت شعارات مختلفة.

الواقع أنه في غياب بيئة اجتماعية وفكرية تاريخية لنشوء الديمقراطية والفضاء العام والفردية الحرة، وتفاقم التحالف بين النظم القائمة عبر الحدود ومن خلالها لتأكيد المصالح الخاصة، وتضاؤل شروط سيادة الدول ووطنيتها بل ووجودها، تفقد مفاهيم المجتمع المدني، بل والسياسة نفسها مضمونها، ومعها ما تنطوي عليه هذه المفاهيم من معنى العمل ضمن نظام اجتماعي وسياسي أموي (من أمة) لممارسة السيادة وتحقيق المشاركة وبناء التضامن بين أفراد الأمة الواحدة. وما يبقى في النهاية هو مشاريع مقاومة متعددة الأشكال والوسائل، تستخدم جميع الشعارات والمفاهيم القديمة والحديثة، الأصيلة والمستعارة، لمواجهة نظم تعسفية، هي نقيض دولة الحق والقانون، أو على الأقل للصمود أمامها وعدم الانجراف في تيارها، بما يعنيه الانجراف من فقدان الوعي الذاتي والإرادة . وليس المهم بالنسبة للمحلل الاجتماعي ما ترفعه الحركة من شعارات وإنما معنى الممارسة التي تقوم بها، وبالتالي شرعيتها.

وما يقال عن استخدام مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي في غير مكانه ولغايات مختلفة عن غاياتها الأصلية يقال أيضا عن مفهوم الديمقراطية. فهنا أيضا ليس من المؤكد أن الشروط الجيواستراتيجية والاجتماعية والثقافية لولادة نظم ديمقراطية، قائمة بالفعل. لكن الديمقراطية تستخدم هنا كشعار لإعطاء معنى للمقاومة المريرة للقهر السياسي والثقافي والاجتماعي ولنزع الشرعية الانسانية والسياسية عن سلطة القهر القائمة في آن واحد. ولا يفيد كثيرا التأكيد الدائم من قبل المثقفين والمتفلسفين على الخلافات القائمة بين السياقات التي قادت إلى بناء الديمقراطية في الدول الحديثة الغربية والسياقات التي تمارس فيها اليوم المقاومة من أجل الانعتاق مع أمل النجاح في وضع حد لمنطق العسف والاضطهاد والإساءة اليومية. فليس هناك نظام ديمقراطي ناجز وجاهز يناضل الأفراد من أجل وضعه موضع التطبيق، وإنما يكمن نظام الديمقراطية، أي شرعيتها ومبرر وجودها وأسس نشوئها، في معركة الانعتاق هذه، ومن خلالها وبمقدار تقدمها وتحقيقها للانجازات النظرية والعملية. فالديمقراطية لا تنفصل عن العمل من أجلها، بل هي هذا العمل بالذات. وهي قائمة بمقدار ما توجد هناك قوى وجماعات تؤمن بمثالها وتعمل على تحقيقه، حتى في ظل أقسى نظم القهر واللامساواة.

هذا يعني أيضا أن مفهوم المجتمع المدني، وإن أفادنا كشعار من شعارات المقاومة، إلا أنه ليس مفهوما ناجعا في فهم آليات عمل المجتمع وتحوله. فلا يمكن لشيء غير موجود إلا في حدود رمزية أن يفسر حقيقة العلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع، أي في الواقع حقيقة الدولة القائمة ونمط المجتمع المتحول.

أن الدولة والمجتمع المدني العربيين معا، بوصفهما من مظاهر الحداثة أو انعكاسا للانخراط في الحداثة وتعبيرا عن صيرورتها أيضا، يجدان مفتاح فهمهما في المجتمع نفسه، أي في التحولات العميقة التي طرأت ولا تزال تطرأ عليه، وفي التشوه الذي أصاب بنياتها والاختلالات العميقة في توازناتها المادية والنفسية، نتيجة اجهاص مشروع الحداثة أو تعثره. وهو ما يترك آثاره على الدولة التي انتكست من كونها أداة تحديث إلى أن تصبح أداة سيطرة فئوية فحسب، وعلى المجتمع المدني الذي فقد أي مبرر لوجوده مع العودة إلى نماذج السلطة السلطانية أو الامبرطورية .

من هنا لا يفسر مصير الدولة ومصير المجتمع المدني العربي سوى حالة المجتمع نفسه. ففي تحولات هذا المجتمع وتشوه بنياته ينبغي البحث عن مفتاح إخفاق الدولة أو إخفاق مشروع بناء الدولة العربية الحديثة وتقلص المجتمع المدني حتى مستوى الرمز البسيط الذي يجسد الحنين للحداثة السياسية أكثر مما يدل على وجودها الحقيقي.

والقصد، لا ينبغي لمفهوم المجتمع المدني أن يشغلنا عن مفهوم المجتمع نفسه، أي عن البحث في بنياتها والكشف عن آليات عمله ومسار تحوله، بعيدا عن مرجعية المجتمع المدني أو بمعزل عنها. وليس من الضروري أن يكون التطور نحو ما يشبه المجتمع المدني الأصلي هو مسار تطور هذه المجتمعات العربية، ولا نستطيع أن نغلق التاريخ على مثل هذه المرجعية وحدها.



[i] عن المجتمع المدني وعلاقته بالفضاء العمومي أنظر:

Calhoun C (ed.) 1992 Habermas and the Public Sphere. MIT

Press, Cambridge.

[ii] عن فكرة الحق الحديثة

Claude Lefort, » Politics and Human Rights »in The Political Forms of Modern Society, 1986 MIT Press Cambridge.

[iii] عن مفهوم ماركس للمجتمع المدني الذي يحصر استقلاليته في المجال الاقتصادي ومجال العمل والانتاج، وعن نقده أيضا، أنظر

Cohen, Class and Civil Society 53-82

[iv] عن موقف فوكو

Jean L. Cohen and Andrew Arato, Civil Society and Political Theory, 1992, MIT, Cambridge

[v] أنظر في هذا النقد عزمي بشارة المجتمع المدني، 2000 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت