mercredi, juin 30, 2010

الغرب في مواجهة التحدي الاسرائيلي

الاتحاد 30 يونيو 10

ليس هناك شك في أنه، باستثناء قطاعات قليلة غربية ترى في توسع إسرائيل وسيطرتها على الشرق الأوسط بكامله سياسة شرعية ومفيدة للحضارة الغربية، بل رسالة دينية، تنظر معظم الحكومات والطبقات السياسية في العالم، إلى تمسك إسرائيل باحتلال الأراضي الفلسطينية والعربية، واستهتارها بالأعراف والقواعد والتقاليد المرعية في حقل العلاقات الدولية، وبشكل خاص في مشروع الاستيطان والاستعمار وتهويد الأراضي المحتلة، ومن وراء ذلك عرقلة جهود أي تسوية سياسية، على أنه مشكلة حقيقية.

لكن التعاطف الشعبي والرسمي مع اليهود بسبب المحنة التاريخية، والعمل الدائب لاسرائيل وأنصارها في العالم على الربط بين وجود إسرائيل ذاته وسياساتها التوسعية التي أظهرتها على انها مسألة أمنية، وتشتت العالم العربي وانقسامه على نفسه، قد دفعت الجميع إلى القبول بمقاربة عرجاء للتسوية في الشرق الأوسط لم يحصل لها نظير في العالم قط.

فبعكس ما جرت العادة في كل حالات النزاع الأخرى، قبلت المجموعة الدولية، أي غالبية الدول والأمم المتحدة، بأن لا يرتبط البحث عن تسوية في الشرق الاوسط بين العرب والاسرائيليين بالضغط على تل أبيب، مما يمكن أن يهدد، في نظرهم، استقرارها وأمنها، وإنما بتقديم المزيد من الدعم والملاطفة والاحتضان والمنافع، تشجيعا لها على خوض غمار مغامرة السلام، وتطيمنا للاسرائيليين على موقع الرعاية والحظوة في المنظومة الدولية.

وقد فرضت هذه السياسة، على الغربيين أولا، وعلى جميع القوى الراغبة في المشاركة في جهود السلام ثانيا، الأخذ بشروط معينة مراعاة لحساسية إسرائيل والاسرائيليين. منها التاكيد على المفاوضات المباشرة، وترك الأطراف تحل مشاكلها بنفسها، وقصر الموقف الدولي على دور المسهل أو الوسيط ، وعدم فرض أي رؤية او خطة أو موقف خارجي على الاطراف المتفاوضة. مما يعني عمليا ترك الطرف القوي يستخدم المفاوضات للتنكيل بالطرف الضعيف واستفزازه ودفعه هو ذاته إلى ترك المفاوضات.

ومنها اتخاذ المسهل أو الوسيط، قوميا كان أم منظمات أممية، موقفا متماثلا أو محايدا من الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ففي النقاشات الدولية يكاد النزاع يتجسد بين طرفين متخاصمين ومسؤولين عن استمرار الخصام بالدرجة نفسها، لطبيعتهما الدينية أو القومية، لا بسبب الاحتلال أو نتيجته. والمصالحة بينهما هي الحل، سواء كانت نتيجتها أرجاع الحقوق إلى أصحابها أو نصفها أو قليلا منها. المهم رضى الطرفين، فالوسيط ليس لديه موقف من نتيجة المفاوضات. لهذا لا تظهر القضية في أي بيان أو وثيقة أو خطة بوصفها قضية إزالة الاحتلال، أو نزع الاستعمار كما هي بالفعل، وإنما قضية عداء متبادل فحسب بين العرب واليهود.

ومنها أيضا اختراع لغة دبلوماسية جديدة تماما لا تسمي الأشياء بأسمائها وإنما تستخدم التورية والتذكير والتمني، خاصة تجاه إسرائيل. ومن الأمثلة على ذلك العبارة المشهورة التي تمسك بها الأمريكيون والغربيون طويلا التي تقول إن الاستيطان عقبة في وجه السلام، وأن هدم البيوت وطرد السكان لا يخلق عوامل الثقة الضرورية لنجاح المفاوضات او أن هذه الحكومة أو تلك تأسف لحصول ضحايا او أضرار بالأملاك. وكل ذلك تجنبا لمصطلحات الشجب والإدانة والرفض والتحذير الشديثد التي تستخدمها عادة الدبلوماسية الدولية إزاء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الشعوب والناس.

ومن بين هذه الوسائل الخاصة بمفاوضات الشرق الأوسط أيضا حرص المنظومة والمجموعة الدولية، في كل مرة تضطر فيها إلى إبداء ملاحظة سلبية تمس إسرائيل، على مرافقتها بديباجة طويلة من التأكيد على التزامها بأمن هذه الدولة وازدهارها وتقدمها. وفي المقابل الحرص على استخدام أقسى عبارات التهديد والوعيد تجاه الفلسطينيين، وتجاهل حصارهم وأمنهم ومستقبلهم، ووسم معظم نشاطات مقاومتهم بالارهاب، والعمل على ردعهم وإحباط مقاومتهم باستخدام جميع وسائل الضغط ، بما في ذلك تدخل الحكومات العربية.

لكن ما هو أهم من ذلك الترجمة المادية لهذه السياسة الخاصة بحل النزاع العربي الاسرائيلي والتي تتجسد في الدعم اللامحدود للقوة العسكرية الاسرائيلية، بالمال والتقنية والأسواق، وذلك، كما يقال، حتى تطمئن إلى قوتها وتفوقها على جميع دول المنطقة، بهدف جرها للسلام. وفي المقابل حرمان الفلسطينيين حتى من حق المقاومة، وفرض العمل الدبلوماسي والتفاوضي عليهم بوصفه السلاح الوحيد المسموح لهم به من أجل تحقيق أهدافهم واستعادة أرضهم والعودة إليها.

والنتيجة أن إسرائيل هي اليوم أقوى وأغنى وأكثر غطرسة وتمردا على السلام واستهتارا برأي حلفائها الغربييين، بل وبمصالحهم الاستراتيجية واليومية، عشرات المرات مما كانت عليه قبل بدء مفاوضات السلام. مما يعني أن عملية السلام التي فرضها الغربيون على الفلسطينيين والعرب عموما، والمقاربة العمياء أو المتواطئة التي ارتبطت بها، كانت أفضل وسيلة لدعم مشروع إسرائيل التوسعي والعنصري، وتحويلها من دولة لا تكاد تطمح في اعتراف العرب بها لنيل السلام إلى قوة إقليمية عظمى ترفض الاعتراف بالفلسطينيين بل وبالعرب جميعا كطرف مقبول أو معتبر في أي مفاوضات، ضاربة عرض الحائط بكل ما يقدمونه من مبادرات.

وقد وصل الأمر في هذه السياسة الخاصة إلى حد أن الاوروبيين الذين كنا نراهن عليهم في الضغط على الأمريكيين لتعديل موقفهم من الدعم المطلق لاسرائيل، لم كافؤا إسرائيل بضمها إلى منظمة التعاون والتنمية الأوروبية بعد حربها الإرهابية على غزة، ثم، في ما بعد، بالتواطء على دفن تقرير غولدستون، وإخيرا قاموا بتكريمها أثناء جريمة أسطول الحرية بإطلاق اسم بن غوريون على أحد ساحات العاصمة الفرنسية.

ليس هناك شك في اعتقادي ان الكثير من المسؤولين الغربيين يدركون اليوم أنهم في ورطة حقيقية في ما يتعلق بما يسمونه عملية السلام في الشرق الأوسط. ويشعرون عن حق بأن قدرتهم على التأثير على سياسة إسرائيل أصبحت أضعف، وأن إسرائيل استخدمت تعاطفهم مع ضحايا النازية من اجل إعادة بناء مشروع استعماري يثير اشمئزازا ونفورا متزايدا من قبل معظم الرأي العام العالمي، بما في ذلك الامريكي.

وهم لا يعرفون اليوم كيف يمكن دفع إسرائيل إلى القبول بمفاوضات جدية لتحقيق التسوية المنشودة وإقناع تل أبيب بتجميد، وليس حتى إلغاء، مشروعها الاستيطاني، وضم الأراضي المحتلة وتهويدها.

وربما كان لقضية أسطول الحرية التي تعاملت معه إسرائيل كما لو كانت في جبهة قتال عسكرية حقيقية، الفضل الأكبر في الكشف عن الطريق المسدودة لسياسة مكافآة إسرائيل بدل معاقبتها من أجل جرها إلى طريق التعاون الدولي والسلام. فقد أزالت الغشاوة عن عيون الكثيرين الذين كانوا ما يزالون يعتقدون بأن إسرائيل التي "تشكل واحة للديمقراطية في صحراء من التسط والاستبداد"، لا تحلم بشيء آخر غير السلام، وأن احتلالها الأراضي لا يهدف إلا إلى تشجيع العرب على الاعتراف بها وقبول شروط السلام. لقد وضعت جريمة أسطول الحرية العالم أجمع أمام حقيقة إسرائيل العميقة، أي تماهيها مع منطق القوة والعنف بدل منطق الحق والقانون، وعدم التردد في التعبير عن إرادتها الشريرة في قتل شعب كامل والتنكيل به عبر الحصار والحرب والتجويع.

لكن ما ذا سيختار الغرب من وسيلة لدفع إسرائيل إلى التوافق في سلوكها مع متطلبات الإرادة الدولية؟ هل سيزيد إلى ما لانهاية من حجم الجزرة لتطمين تل أبيب وتشجيعها على التخلي عن مشروعها الاستيطاني الذي تراهن عليه لمواصلة نموها والتحول إلى قوة أكبر قادرة على مواجهة القوى الإقليمية القوية الصاعدة أم يرفع العصا، أو على الأقل يمسك بكليهما، ويكف عن مكافأتها على السراء والضراء؟ باختصار ما هو مستقبل العلاقات الاسرائيلية الغربية في السنوات القليلة القادمة؟

هذا موضوع نقاش آخر.

mercredi, juin 16, 2010

في تأبين الجابري فيلسوف العقل

الاتحاد 16 يونيو 10

في كتاب: الخطاب العربي المعاصر الصادر عام 1981، انتقدني الجابري بعد صدور كتابي بيان من أجل الديمقراطية (1977) قائلا :

"نعم، إن الحاجة إلى بيان من أجل الديمقراطية قائمة فعلا... غير أنه لن يكون لهذا البيان أي مفعول تاريخي، ولن يكون هو نفسه في المستوى المطلوب، ما لم يسبقه، أو على الأقل يرافقه بيان من أجل العقل... العقل العربي بالذات". ص 83

وقصده أن إصلاح العقل هو المبتدأ. فما لم نصلح أداة تفكيرنا لن نستطيع التقدم في معالجة أي قضية من القضايا التي تشغلنا. ومن هنا نظر الجابري إلى مهمته التاريخية على أنها إعادة بناء العقل العربي. وتستدعي إعادة البناء هذه العمل على ثلاث محاور رئيسية، يشكل النجاح فيها شرطا لإطلاق انهضة العربية المنشودة.

الأول التحرر من سيطرة النموذج السلف، مقابل التفكير المستقل وغير المملى من قبل سلطة مرجعية جاهزة تحكم بسبب الهيمنة التاريخية او السياسية، وتعطل المحاكمة العقلية، سواء أكانت سلطة السلف الماضي أو السلف الحاضر. وهذا التحرر لا يعني شيئا آخر سوى تقديم النقد على المحاكاة، والتفكير الحر على منهج قياس الحاضر على الغائب واعتماد القياس الفقهي وتوظيف الايديولوجي للتغطية على النقص المعرفي والتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية. ومن هنا أطلق الجابري أيضا على منهجه الفكري اسم العقلانية النقدية.

والثاني توحيد السلطة المرجعية. فتوحيد المرجعية أو ايجاد سلطة معرفية واحدة بدل السلطتين المرجعيتين المتنافستين لنموذج السلف، والذي لا يمكن التوفيق بينهما، هو شرط قيام وحدة فكرية ،وتجاوز القطيعة نحو التواصل والتفاعل والحوار بين تيارات الرأي العربية التي تنتمي اليوم أو بالأحرى تخضع لإملاء سلطات مرجعية متنافية، هي التي تؤسس لصراعات، الاسلامي والعلماني، الأصولي والليبرالي، القومي والماركسي. وتشكل هذه الوحدة أيضا ضرورة للخروج من الايديولوجيا نحو البحث العلمي والتامل العقلي.

والثالث هو"الاستقلال التاريخي التام". وهذا الاستقلال، الذي يستعير الجابري مفهومه من غرامشي، هو في الواقع الغاية الرئيسية للتحرر من نموذج السلف وتحقيق السلطة المرجعية الواحدة. وليس هدف النقد والتوحيد والتجديد سوى تحقيق هذا الاستقلال. وهنا يظهر العنصر الخصوصوي في فكر الجابري بالمقارنة مع الحداثوية الكونوية السائدة أيضا منذ عصر الأنوار. فهذا الاستقلال التام ضرورة لاستقلال الفكر ولتطوره أيضا وتعقلنه إذا صح التعبير.

لكن كيف يتحقق استقلال الذات العربية التام؟

الجواب في الرد على سؤال آخر:

"ما الذي أفقد ويفقد الذات العربية استقلالها التاريخي التام؟

أنه ال "نحن" و "الآخر". أي النموذجان اللذان يتجاذبان الذات العربية منذ بدء يقظتها الحديثة: النموذج السلف العربي الاسلامي والنموذج السلف الأوروبي. وإذن فسبيل تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية هو التحرر من النموذج السلف المزدوج، أعني التحرر من سلطته (ما) المرجعية".ص 204 . وبعبارة أخرى: سلطة التراث وسلطة الحداثة الكونية.

لا يعني التحرر من هاتين السلطتين إسقاط التراث والحداثة، أو تمني سقوطهما وإنما التحرر من سلطتهما المعرفية، أي ببناء سلطة معرفية جديدة.

التحرر من الغرب يعني التعامل معه نقديا لا رفضه، "أي الدخول مع ثقافته، التي تزداد عالمية، في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها، وأيضا التعرف على أسس تقدمه والعمل على غرسها أو ما يماثلها داخل ثقافتنا وفكرنا..." ص

وكذلك الشأن في التحرر من التراث فهو لا يعني الإلقاء به في المتاحف أو في سلة المهملات وإنما امتلاكه، ومن ثم تحقيقه وتجاوزه. وهذا ما لا يتأتى لنا إلا إذا قمنا بإعادة بنائه بإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى، بالشكل الذي يرد إليه في وعينا تاريخيته ويبرز نسبية مفاهيمه ومقولاته. وكما أبرزنا ذلك في فصول هذا الكتاب، فإنه ما من قضية من قضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، إلا وكان الماضي حاضرا فيها ططرف منافس. ... لذلك من المستحيل علينا نحن العرب أن نجد طريق المستقبل ما لم نجد طريق الماضي. وبعباررة أخرى لا يمكن للعرب أن يحلوا مشاكل المستقبل إلا إذا حلوا مشاكل الماضي".

من هنا أيضا الحاجة إلى عصر تدوين جديد يتجاوز التدوين الذي البناء الثقافي العربي العام الذي شهدته الثقافة العربية ابتداءا من منتصف القرن الثاني للهجرة. ومنطلق العصر الجديد وأداته الرئيسية نقد سلاح التدوين، أي إعادة بناء العقل، من حيث هو بلورة الخيارات الأساسية في الثقافة والايديولوجية والمعرفة العربية. وهذا ما يلقي الضوء على الكثير من المفاهيم والاشكاليات التي تطرق لها الجابري، كإشكالية الفصل والتمييز بين المعرفي والايديولوجي، ومفهوم السلطة المعرفية، والوحدة المعرفية، وانفصال الفكر عن الواقع، ومنهج قياس الحاضر على الغائب والانغماس في النصوص وعدم إعمال التفكير في الواقع الفعلي.

الآن ماذا تعني النهضة التي هي مطلب مشروع نقد العقل وإعادة بنائه عند الجابري؟

لا ينتقد الجابري الحداثة ولا يعيد النظر فيها. وعلى هذا المستوى يشكل فكره امتدادا لفكر الاصلاحيين الاسلاميين الذين شقوا طريق التفكير في النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر. لكن بعكس هؤلاء لم يبحث الجابري عن التوفيق بين الفكر الاسلامي والفكر العلمي الحديث، ولا سعى إلى ترجمة المفاهيم والمصطلحات الحديثة ترجمة عربية حتى يسهل تمثلها. منذ البداية كان يعتبر أن هناك سلطتين معرفيتين لا يمكن التوفيق بينهما.

ما سعى إليه الجابري هو ما يمكن أن نسميه تأصيل الحداثة أو إعادة اختراعها في الثقافة العربية الاسلامية بدل تقليدها أو نقلها أو نسخها أو رفضها. ومجمل فلسفته يصب في خطاب التأصيل : تأصيل الحداثة من خلال إعادة تشكيل بنية الثقافة العربية التاريخية ذاتها، أي إعادة بناء العقل العربي الذي يستوطن هذه الثقافة من حيث هو عقل حديث أو مساوق للحداثة.

ومن أجل ذلك سعى الجابري إلى القيام بمسح شامل للتراث لتفكيكه وتحليله كما سعى إلى خلخلة العقلية أو الثقافة العربية الساائدة والمشجعة على الركود واالانحطاط. وبعكس العديد من المجددين الذين سبقوه، لم يكتف الجابري بالفرز الآلي بين عناصر هذه الثقافة واختيار ما اعتبره ايجابيا فيها ورمي ما هو سلبي، ولا اعتبر نقد التراث تنقية له من الشوائب، أو نفض الغبار عما خفي من عناصر الجدة فيه، كما لو كانت عناصر النهضة موجودة مسبقا ولا تنتظر إلا من ينفض الغبار عنها. إنما طبق على هذه الثقافة منهجا ديناميكيا حاول من خلاله إعادة تركيبها على توازنات جديدة تتيح لمنهج العقل أن يحتل المكانة الرئيسية فيها، في مقابل وإلى جوار المناهج الأخرى.

فالجابري من جيل نقاد الفكر العربي الذي افتتحه العروي بكتابه الايدولوجية العربية المعاصرة.

لكن الجابري لم يقتصر أو يشأ أن يقتصر على نقد الايديولوجية، ولا على إعادة بناء المفاهيم الحديثة التي دخلت الفكر العربي مع الحداثة وضبط معانيها، وإنما أراد أن يذهب بنقده إلى الأسس المعرفية للثقافة العربية، أي إلى بنياتها العميقة الموروثة من العصر الكلاسيكي والمستمرة في تأثيرها إلى اليوم. وهذا ما دفعه إلى العودة إلى عصر التدوين، والحديث عن عصر تدوين جديد. فكان نقد الجابري نقدا للتراث أولا بهدف إصلاح العلاقة بين التفكير في الواقع والمرجعية المعرفية، الذي يشكل أساس النهضة، وبالتالي ولوج الحداثة والمعاصرة. ونقد التراث على ضوء العقل لم يكن في الواقع سوى إعادة بناء مفهوم العقل ذاته، أو تأسيس عقلانية جديدة لا تقطع مع التراث بقدر ما ترفض نسخه وتقديسه لتبقي الثقافة العربية مفتوحة على المستقبل. فهو بحق فيلسوف العقل في الفكر العربي الحديث.

- المقال من مداخلة قدمت في ندوة أربعينية المفكر محمد عابد الجابري، التي عقدت في الرباط في 9 يونيو 2010 في قاعة المكتبة الوطنية في الرباط