mercredi, mars 24, 2010

الاستيطان جوهر المواجهة في فلسطين

الاتحاد 24 مارس 10

كان الاستيطان ولا يزال الجبهة الرئيسية للصراع الدائر منذ منتصف القرن الماضي في فلسطين، وذلك لأن إسرائيل ليست دولة عادية تتخاصم مع دول أخرى. بل بالعكس، لأن اسرائيل لم تكن في أي وقت دولة، ولا تزال غير قادرة على التفكير بنفسها والتصرف كدولة، بما يعنيه ذلك من بنية قانونية واعية ومستبطنة تحكم علاقاتها بداخلها، وتحولهم إلى مواطنين لا أبناء طائفة، كما تحكم علاقتها بخارجها، وتساعدها على النظر إلى هذا الخارج بوصفه دولا وشعوبا مماثلة لها الحق نفسه في الحماية والسيادة والحياة، لا حقل صيد خاص مفتوح لكل المطامع والشهوات.

ولدت اسرائيل وعاشت ولا تزال كمشروع اسيتطان، بما يعني هذا المشروع من غزو عسكري لإحلال سكان جدد محل سكان أصليين، وبالتالي انتزاع أراضيهم وإخراجهم منها ووضع اليد القانونية والسياسية والعسكرية عليها. وهذا ما يعكسه تاريخ اسرائيل الطويل منذ بناء اول مستوطنة يهودية في الارض الفلسطينية قبل أكثر من قرن. فليست إسرائيل التي عرفناها حتى إعلان استقلالها عام 1948، والتي لا نزال نعرفها إلى اليوم سوى هذه السلسلة الطويلة من عمليات الغزو والضم والإلحاق لرقع متزايدة من الأرض العربية المحيطة بها، مع تدمير حياة سكانها وتهجير ما يمكن تهجيره منهم وتشتيت شملهم وضرب الحصار العنصري، أو السياسي والاقتصادي، كما هو الحال في غزة اليوم، عليهم، لإجبارهم على القبول بالأمر الواقع والاستسلام.

يعني المشروع الاستيطاني، أي مشروع، أمرين لا يستطيع من دونهما البقاء ولا الاستمرار. الأول الحرب الدائمة، وإلا توقف وانهار، وأصبح على مجتمع المستوطنين أن يعيد النظر في أسلوب حياته وتفكيره بأكمله، أي في ثقافة الاستيطان ذاتها، ويواجه بجرآة مشاكل بناء الدولة والتعامل على أسس وقواعد قانونية وسياسية، مع المحيط الذي كان انكار حقوقه في أصل وجود المشروع نفسه نفسه. والثاني النزوع المتزايد إلى العنصرية، أي إلى الصفاء أو النقاء الديني أو العرقي، او العرقي الديني معا، وطرد العناصر المختلفة التي تبدو أكثر فأكثر نشازا، يهدد تماسك المجتمع الاسيتطاني وصلابته. ويزداد النزوع إلى هذا النقاء بموازاة تقدم الاستيطان ونجاحه في تحقيق أهدافه وتوسيع دائرة انتشاره وسيطرته، وذلك بمقدار ما يضاعف هذا التقدم من حجم المشاكل والتحديات التي يثيرها الاستيطان لدى المجتمعات التي يقوم على حسابها ومن خلال تفكيكها وكسرها، وتعاظم المقاومات التي تفرزها أيضا. وهذا ما يفسر المفارقة التي يعيشها أي مشروع استيطاني، أعني تفاقم شعور مجتمع المستوطنين بالخطر والتهديد والهشاشة في الوقت الذي لا يكف فيه عن تأكيد تفوقه الكاسح في ميدان القوة المادية والمقدرة على التدمير وزرع الخراب في المجتمع الضحية المحيط.

ومن هنا ليس أمام أي مشروع استيطان خيار آخر، ولا سياسة ممكنة، ترد على حاجات بقاء نظامه واستمراره سوى خيار الهرب إلى الأمام. فتوسيع دائرة الاستيطان يستدعي المزيد من المقاومة من قبل المجتمعات المشردة والمشتتة، ويجر المزيد من الحرب والاعتماد على الحرب للدفاع عن البؤرة الاستيطانية وتعزيز استقرارها وأمنها. والعكس أيضا صحيح، فتنامي القوة وتزايد الشعور بالتفوق العسكري يعزز منطق الاستيطان، بما يوحي به من أن المزيد من الاستيطان يعني تحقيق استقرار أكبر وديمومة أكثر للبؤرة الاستيطانية.

تشكل القارة الأمريكية، وأمريكا الشمالية بشكل خاص، لكن استراليا أيضا، مثالا واضحا لهذه الآلية التي قادت إلى القضاء شبه الكامل على الشعوب الهندوأمريكية وإحلال شعوب أخرى، وثقافات جديدة محلها. فلم تتحول البؤر الاستيطانية إلى دول قانونية إلا بعد أن قضت تماما على المجتمعات المحلية وأخضعت ما تبقى من مقاومتها، أي عندما تحققت لها السيطرة على قارة كاملة او ما يشبه ذلك. لكن لم يكن الحال كذلك في العديد من البلاد الأفريقية التي عرفت مشاريع استيطان مشابهة. ففي جنوب أفريقيا اضطر مجتمع المستوطنين البيض بعد ما يقارب ستة قرون من السيطرة المطلقة على بلاد واسعة، إلى الاستسلام والمفاوضة على إعادة تحديد دور المستوطنين ومكانتهم في المجتمع الجديد المختلط. وكان هذا نموذجا خاصا وإن لم يكن فريدا للخروج من منطق الحرب الاستيطانية اختلف كثيرا عن النموذج الامريكي. لكن في الجزائر التي كانت معدة أيضا لتكون مستوطنة بيضاء انتهت العملية بتفكيك المشروع الاستيطاني والانكفاء بعناصره ورجاله على البلد الاصلي فرنسا. وفي اعتقادي أن الصراع القائم اليوم في المشرق العربي لا يخرج عن هذا الإطار، أي تحديد مستقبل مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين ومحيطها العربي القريب.

ليس هناك شك بأنه ليس من الوارد، على الأقل في وجود المعطيات القائمة الإقليمية والعربية، التفكير في حل على الطريقة الجزائرية. وأقل من ذلك في حل على الطريقة الامريكية يمكن المجتمع الاستيطاني من القضاء على المجتمع العربي الفلسطيني وامتدادته، ويحقق سيطرته على قارة، ويتحول إلى دولة وأمة طبيعية أو عادية. فلا المعادلة السكانية ولا الثقافية والحضارية تعمل على المدى الطويل لصالح إسرائيل. وبالمثل، يرفض المستوطنون الاسرائيليون بشكل واضح وقاطع الحل الجنوب أفريقي لمأزق المشروع الاستيطاني، ولا يكفون عن رفض الاختلاط والتنوع الاتني، والتمسك بتأكيد هوية يهودية يزيد من التشبث بها الإحياء المستمر لذاكرة الإبادة الجماعية التي تعرض لها يهود ألمانيا النازية، والربط الذي أقامته الصهيونية بين العملية الاستيطانية والوفاء للعقيدة اليهودية أو استعادة الأرض المقدسة التوراتية، وكذلك القوة الاستثنائية، المعنوية والمادية والاستراتيجية، التي يوفرها لمشروعهم التضامن اليهودي العالمي العابر للحدود.

من هنا لا يزال الرأي العام الاسرائيلي واليهودي على العموم يرفض التفكير في مستقبل المشروع الاستيطاني، وأحيانا يرفض النظر إلى ما يواجهه من تحديات، ويعتقد أن توسيع الاستيطان وبناء جدران عازلة تحيد الفلسطينيين وتمنعهم من المقاومة، يمكن أن يضمن له النجاح في ما أخفق فيه مجتمع البيض الجنوب أفريقييين، أي الخروج من الازمة بحل على مثال نظام الفصل العنصري الذي ساد في جنوب أفريقيا قبل مانديلا، مع بعض التعديلات التي تجعله اكثر قدرة على الصمود والمقاومة. تشجع على هذا الاختيار المطابقة بين منطق الاستيطان والوفاء للعقيدة الدينية، وهذا ما يفسر تنامي وزن المتدينين وتماهي قضيتهم مع سياسة الاستيطان. وتغذي الثقة بنجاحه التعبئة القوية للجماعات اليهودية العالمية وراء إسرائيل، والتأييد الكبير الذي يحظى به من قبل الغرب الذي لا يزال القوة الضاربة الدولية. كما يعزز هذا الخيار تفكك الجبهة العربية وتضارب أطرافها، وانقسام الفلسطينيين أنفسهم وتضارب سياساتهم الداخلية والخارجية.

لن تتخلى إسرائيل، أي أغلبيتها الانتخابية، عن هذا الخيار إلا إذا أدركت بشكل واصح أن نظام التمييز العنصري طريق مسدود وليس حلا، وأن السير فيه لا يضمن أي امن وسلام، ولكنه يقود إلى تخليد الحرب بما تحمله من مأسي وآلام ومخاطر لا تهدد إسرائيل والعرب خاصة وإنما جميع الاطراف، بما فيها أطراف بعيدة عن المنطقة وفي محيطها.

قطع هذا الطريق وكسر منطقه، وهو ما يهدف إليه مشروع الدولتين، مسؤولية الأطراف جميعا: الغرب الذي تحتمي اسرائيل خلف تأييده أو صمته، والجماعات اليهودية التي تراهن تل أبيب على نفوذها الكبير في جميع أنحاء العالم، والعرب الذين يلهب ضعفهم وشلل إرادتهم حماس المستوطنين اليهود ويقوي متطرفيهم، والفلسطينيون الذين يغرون، بانقساماتهم وتفرق كلمتهم وتخبط قياداتهم، أعداءهم بهم، ويشجعون أصدقاءهم وأشقاءهم على التساهل في حقوقهم إن لم يكن التضحية بهم. هذا جوهر المواجهة القائمة اليوم في فلسطين وعليها.

mercredi, mars 10, 2010

مفاوضات السلام التي تضمر الحرب

الجزيرة نت 10 مارس 2010

لا أدري أي منطق سياسي أملى على وزراء الخارجية العرب موقفهم الجديد في إعادة إطلاق المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، بعد أشهر من تأكيد رؤساء الدول العربية عدم التراجع عن شرط التجميد الكامل للاستيطان ووقف أعمال التهويد المستمرة للقدس والأراضي العربية الأخرى، بما فيهم رئيس السلطة الوطنية محمود عباس.

لم تكن خيبة العرب ثمرة رد فعل ظرفي على سلوك إسرائيلي جديد، ولكنها كانت ثمرة خبرة عقدين طويلين من المفاوضات، التي استغلها الاسرائيليون لتوسيع دائرة استيطانهم، وتعزيز سيطرتهم على الأراضي المحتلة، وإنهاك مقاومة الشعوب العربية، وتقسيمها، وزرع الفتنة بين قادتها وشعوبها.

وليست الخيبة هذه حكرا على العرب وحدهم. فلم يبق في العالم كله، حتى داخل إسرائيل، مراقب محايد واحد يؤمن بأن حكومة نتنياهو، حتى لا نقول جميع القوى السياسية في إسرائيل، تبحث بالفعل عن تسوية، مهما كان شكلها، أو أنها لا تستخدم المفاوضات للتغطية على عملية التوسيع المستمر والعلني للاستيطان وتهويد الأراضي العربية المحتلة، بانتظار الوقت الذي يمكن فيه وضع العرب أمام الامر الواقع، وإجبارهم على التسليم بواقع اسرائيل الكبرى، ربما، كما يحلم الأكثر تطرفا في إسرائيل، خلال ولاية نتنياهو نفسه. وهذا ما كان قد فهمه وعبر عنه المسؤولون العرب الذين لم يملوا من التاكيد على غياب إرادة السلام لدى الطرف الآخر.

وبالمثل، لم يعد هناك مراقب سياسي محايد، بما في ذلك داخل الحزب الديمقراطي الحاكم في واشنطن، يعتقد بأن إدارة أوباما لا تزال، بعد الصفعة المهينة التي وجهتها لها حكومة نتنياهو برفضها الانصياع إلى قرار التجميد الكامل للاستيطان، قادرة على أن تقود مفاوضات سلام ناجعة ومثمرة في الشرق الأوسط تقود إلى إقامة تلك الدولة العتيدة، القابلة للحياة والمتواصلة الأراضي، التي تحدث عنها الرئيس الامريكي في عهد تفاؤله، واحتفائه بانتخابه رئيسا جديدا بالمعنى السياسي للكلمة، للولايات المتحدة الامريكية.

فما الذي بقي للاختبار في النوايا السلمية الاسرائيلية ؟ وما صدقية الضمانات الأمريكية التي يشير وزراء الخارجية العرب إليها بعد تخاذل واشنطن وعودتها المذلة عن قراراتها أمام صمود حكومة نتنياهو واستمرارها في أعمال الاستفزاز التي لا تهدف إلى شيء آخر سوى تقويض المفاوضات وتفجيرها قبل أن تبدأ؟ وإذا كان لا بد من العودة لمجلس الامن، فلماذا الانتظار أربعة أشهر جديدة وإعطاء تل أبيب الفرصة لافتعال أحداث عنف ربما تقضي على ما تراكم للقضية الفلسطينية من رصيد عالمي حتى الآن؟ ثم ما قيمة نقل القضية إلى مجلس الامن، الآن أو بعد أشهر، إذا لم يكن هناك تفاهم مع بقية الدول الاعضاء على خطة واضحة، وعلى رأسها الدول أعضاء الرباعية الشهيرة التي لم تحرك ساكنا ضد مشاريع الاستيطان الاسرائيلي وتقويض عملية السلام خلال السنوات الطويلة الماضية؟ وما هي الضمانات التي حصل عليها العرب كي لا تستخدم واشنطن حق النقض في هذا المجلس؟ وحتى لو تحقق كل ذلك كما يشتهي العرب، ما قيمة موقف إدانة جديد لاسرائيل في مجلس الأمن إذا لم يكن مشفوعا بالمادة السابعة التي تفرض التطبيق بالقوة للقرارات الدولية؟ وفي هذه الحالة من يستطيع أن يفرض على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى استخدام قواتها لفرض السلام أو اقتسام الأرض ونزع الاحتلال عن فلسطين؟ هل هناك من يفكر فعلا أم أن كسب الوقت هو الهدف الوحيد المشترك بين الحكومات العربية والقيادة الاسرائيلية، الأولى لتجنب فكرة المواجهة والثانية لابتلاع المزيد من الأرض وفرض الامر الواقع.

يطرح أصحاب القرار الجديد الذي جمع أغلبية عربية كاسحة عدة حجج ومبررات وذرائع لتبرير موقفهم، او بالأحرى التراجع عن الموقف المتشدد السابق. من ذلك أن العرب والفلسطينيين تعرضوا ويتعرضون إلى ضغوط شديدة من قبل الأمريكيين والدول الغربية عامة، وأن السلطة الفلسطينية التي تعيش، وشعبها كذلك إلى حد كبير، على المنح والعطايا والمساعدات الدولية، لم تتوقف عن تلقي التهديدات بوقف هذه المعونات إذا لم تذعن لإرادة الدول المانحة. فليس لهذه المعونات غاية أخرى في نظر مانحيها سوى تشجيع عملية السلام، وأن رفض الفلسطينيين الدخول في مفاوضات سلام، مهما كانت شروطها، يعني إخلالهم بالعقد الذي يبرر مساعدتهم وإعطاء الحق للمانحين بوقف مد العون لهم. وفي هذه الحالة لن تتمكن السلطة الفلسطينية حتى من دفع مرتبات موظفيها، اما الشعب الفلسطيني الذي يفتقر لأي اقتصاد منتج فلن يجد ما يقيت أطفاله.

ومنها، أن إجهاض مبادرة أوباما التي لم يكن العرب يحلمون بمبادرة أفضل منها، والاعتراف بفشل المفاوضات السياسية، يضع العرب أمام لحظة حقيقة إستثنائية ويفتح الباب على المجهول. وما لم يعثرو على خيار يسمح لهم بمواجهة الضغوط الداخلية والإقليمية المتفاقمة، سيجدون أنفسهم بسرعة أمام موقف يصعب احتماله، من تهلهل السمعة وانهيار الصدقية السياسية. من هنا يبدو تجميد عملية السلام، وهو الاسم التجميلي لنكتة المفاوضات المستمرة منذ عقدين، أخطر في نظر الكثير من القادة العرب، من عدم تجميد الاستيطان، بل ربما من استمرار الاحتلال. فهذا التجميد يهدد، في غياب أي بديل آخر لمواجهة البعبع الاسرائيلي، بخلق فراغ كبير ستدخل منه لا محالة رياح حركات التطرف القومي الديني العاتية، وتستغله بعض الدول المعادية أو المنافسة لتوسيع دائرة نفوذها وتاثيرها داخل المجتمعات العربية وضد مصالحها.

وبالنسبة للعديد من الحكومات العربية، لا تنبع قيمة المفاوضات من نجاعتها أو احتمال نجاحها في استرجاع الحقوق الفلسطينية، وإنما من كونها الوسيلة الوحيدة لتجنب الحرب، والتفرغ لقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل عند معظمهم اليوم المسألة المركزية. فكما صرح وزير الخارجية المصرية، أحمد أبو الغيط، مبررا القرار، التنمية والاستقرار والسلام هي الأهداف الرئيسية التي يضمن تحقيقها مصالح الأمة العربية للمستقبل، وأن الحرب لن تكون سوى دمارا شاملا لا يمكن تصوره.

لجميع هذه الأسباب والتفسيرات نصيب من الصحة والمعقولية لا شك. لكن ليس من المؤكد أن الجواب على التحديات التي تكشف عنها يكمن في دفن الرأس في الرمال، أو الاستسلام او التسليم بالهيمنة الاسرائيلية أو التعامل الضعيف معها. بل ربما كان العكس هو الصحيح.

فللحكومات العربية الحق في أن تعتبر أن التنمية والسلام والاستقرار، بصرف النظر عن طبيعة هذه التنمية ومنحى تراكم الثروات وأسلوب استهلاكها او هدرها، هي الأهداف الرئيسية التي ينبغي أن تحكم سياسة دول تعيش وضعا اجتماعيا وسياسيا لا تحسد عليه، وهي تستدعي بالفعل تجنب الحرب. ولديهم الحق أيضا في القول بأن الحرب ليست لعبة. وهي بالفعل ليست لعبة، وتكاليفها ستكون كارثية على العرب قبل الاسرائيليين. لكن من قال إن الضعف وإظهار الضعف والقبول بتقديم تنازلات متواصلة هو ضمانة لتجنب الحرب، لا تشجيعا للطرف الآخر على شنها أو الاستمرار فيها؟ وهل لما تقوم به إسرائيل في فلسطين اسم آخر غير الحرب، حتى لو كانت بوتيرة بطيئة يومية؟

ثم ألم تكن هذه هي السياسة المتخاذلة، التي اتبعتها أوربا لتهدئة الوحش النازي في الثلاثينيات من القرن الماضي، هي التي قادت الفهرر الألماني إلى تضخيم أطماعه إلى درجة اعتقد فيها أن أيا من الدول الأوروبية لن تكون قادرة على منع ألمانيا من اكتساح القارة والسيطرة عليها، بعد أن قبلت عواصمها الكبرى التضحية بالدول الصغيرة، الواحدة بعد الأخرى، لتبريد شهية الوحش النهم وتصبيره؟ ومن يجرؤ على القول بإن إسرائيل، وهي ذات شهية للتوسع لا ينكرها قادتها أنفسهم، لن تطمع في أراضي عربية أخرى، بين النيل والفرات بالفعل هذه المرة، إذا وجدت أنها نجحت في هضم المناطق العربية المحتلة، وفي ضبط مقاومات أبنائها من خلال جمعهم في معازل محاصرة ومحروسة، هي في الوقت نفسه مناطق سكنى ومعسكرات اعتقال جماعية؟ ومن يستطيع أن يؤكد، وحالة فساد النخب العربية على ما نراها ونقرأ عنها، أن إسرائيل او حلفاءها لن ينجحوا، من خلال التلاعب بزعامات المنطقة الصغيرة والموتورة، وتغذية حزازات بعضها الدينية والقومية والعشائرية والعائلية، ضد بعضها الآخر، وبالرهان على روح الانتهازية والوصولية والأنانية التي تميزها، وبالتعاون مع الطامحين الذين لا أمل لهم بالحكم من خلال قدراتهم الذاتية، في الابقاء على سيطرتها وإدارة امبرطوريتها الاستعمارية؟ وما هي التكاليف التي ستدفعها الشعوب العربية في تلك الحالة للقضاء على نظام العنصرية الاسرائيلية المتورمة ؟

وللحكومات العربية الحق أيضا في أن تخشى من أن يؤدي وقف المفاوضات أو إعلان إخفاقها النهائي إلى تفاقم التوتر داخل المجتمعات العربية بإضافة الخوف على المصير إلى بؤس شروط المعيشة وغياب أي حياة سياسية أو مدنية حقيقية، وأن يزيد من قدرة الدول الإقليمية، وفي مقدمها ايران الخمينية، على تعميق نفوذها وتدخلها في الشؤون العربية، السياسية والدينية، واستتخدام هذا النفوذ وذاك التدخل لتحسبن شروط مفاوضاتها حول مصالحها القومية مع الغرب. لكن هل الاستمرار في مفاوضات منتجة للاحباط والخيبة والتذمر وانعدام الأمن هو الذي سيحد فعلا من قدرة ايران على توسيع دائرة نفوذها، ويحمل الجمهور العربي إلى المزيد من الولاء للنظم العربية والايمان ببطولات قادتها أو إخلاصهم لقضاياها الدينية والقومية؟

ومن حق القادة الفلسطينيين أيضا أن يقولوا إن الممانعة، بمعنى الصمود أجيالا وعدم التفريط بحقوقنا، كما ذكرت الناطقة باسم الرئاسة السورية، تبدوا سهلة على نخب وسياسيين يعيشون في بلادهم المستقلة، ويملكون حرية الحركة والقرار والعيش بسلام، وأحيانا برفاهية يحسدهم عليها المحتلون أنفسهم، لكن ربما يحتاج الأمر، بالنسبة للفلسطينيين الذين يعانون الأمرين، يوميا، من أجل تأمين لقمة عيشهم، وينظرون إلى الأرض وهي تذوب تحت أقدامهم، ووطنهم يغور في ماء الاستعمار والاستيطان الزاحف، إلى حلول عملية وسريعة أكثر قليلا. فالحقوق لا توجد إلا عندما تمارس، وينبغي أن تمارس اليوم، لا أن ننظر إليها كصكوك ملكية نعض عليها بالنواجذ بانتظار حصول المعجزة التاريخية، بينما نستمر في قضاء العمر في الذل والهوان.

ومع ذلك هل للفلسطينيين حظ اكبر في الخروج من محنة الاحتلال من خلال إضفاء شرعية متجددة على مفاوضات هدفها الوحيد التغطية على الاستيطان، أم أن لهم مصلحة أكبر في دفع العرب وقيادتهم إلى تغيير قاعدة المفاوضات الفاسدة والمفسدة، والمشاركة في بناء خيار استراتيجي جديد يكون أكثر نجاعة في مواجهة الاحتلال؟ وما الذي سيفيده الفلسطينيون والعرب من تمديد هذا الوضع وتأجيل القرارات الأساسية التي ينبغي عليهم اتخاذها، والتي سيضطرون لاتخاذها بالتأكيد بعد فترة، لكن في شروط أقسى وأكثر كلفة؟ هل الهدف تمكين إسرائيل من تعزيز وضعها على الأرض، وتبرئة أمريكا وغيرها من الدول الكبرى من مسؤوليتهم وتخاذلهم أمام اللوبي الاسرائيلي، أم العمل على تعميق أزمة الثقة عند الشعوب العربية ،وتوسيع الهوة التي تفصلها عن حكوماتها، وتعظيم اليأس والقلق والنزوع إلى العنف لديها؟

بدل قرار تمديد المفاوضات التي فقدت مبرر وجودها بعد أن أثبتت عدم فاعليتها وجدواها خلال عقدين، كان المطلوب من الدول العربية، مباشرة بعد فشل مهمة جورج ميتشيل، وإصرار إسرائيل على مواصلة عمليات الاستيطان والتهويد، أولا رفض التراجع بأي ثمن عن قرارها بالتجميد الكامل للاستيطان ووقف عمليات التهويد جميعا واحترام امن وسلامة الفلسطينيين، كشرط لفتح مفاوضات سلام جديدة، وعلى أسس جديدة. وثانيا العودة مباشرة إلى مجلس الأمن لوضع الدول الكبرى، وعلى رأسها الرباعية المستقيلة عمليا أمام مسؤولياتها. وثالثا، اتخاذ إجراءات عملية مشتركة تظهر أن العرب لا يتسولون السلام من إسرائيل، وأن اختيارهم المفاوضات لا يعني تخليهم عن حقوقهم، وفي مقدمها حقهم في استخدام القوة، لاسترجاع الأراضي المحتلة، وأن اسرائيل بتقويضها مفاوضات السلام قد اختارت الحرب وهي تمارسها يوميا في فلسطين وما وراء حدودها.

لا يعني هذا إعلان الحرب ولا التشجيع عليها. فليس من بين الشعوب العربية من لم يجرب الحرب ويعيش ويلاتها ويعرف مآسيها. المقصود هو العكس تماما تجنبها. فليس هناك وسيلة أفضل لقطع الطريق على أنصار الحرب من الإعداد الجدي لها. وجهلنا بهذه القاعدة أو تغييبها عن فكرنا هما الذين يفسران تعرضنا المستمر لها منذ عقود. من هنا فإن مجلس الجامعة العربية، باتخاذه قرار التمديد لهذه المفاوضات، وبصرف النظر عما يقوله ويهدف إليه معكسر الممانعة، ومن وجهة نظر مصالح دول الاعتدال نفسها، قد ذهب في الاتجاه الخطأ. فبمقدار ما أكد عجز العرب وخوفهم أو عدم قدرتهم على التخلي عن نهجهم السابق الضعيف، وتبني منهج قوي، واتخاذ قرارات جرئية، زاد من اقتناع الاسرائيليين بنجاعة منطق القوة والقسوة والعدوان. وهذا ما يفسر تلاشي اليسار ومعسكر السلام والاعتدال داخل إسرائيل نفسها، والانزلاق المتزايد للجمهور الاسرائيلي إلى سياسة العنصرية المكشوفة والشرعنة العملية نظام التمييز العنصري. لذلك ليس من المبالغة القول بأن قرار مجلس الجامعة العربية قد قربنا من الحرب اكثر مما أبعدنا عنها، وأننا سنكون أقرب إليها بعد مرور الأشهر الأربعة القادمة مما نحن اليوم.

التاريخ يكرر نفسه، قال الفيلسوف الألماني هيجل عن حق. في المرة الأولى على شكل مأساة وفي الثانية على شكل مهزلة، رد عليه ماركس معلقا. لكن قد تكون المهزلة أكثر ايلاما من المأساة نفسها، أضاف إليهما ماركوز، صاحب كتاب "إنسان البعد الواحد". لا أدري في أي مقام من هذه المقامات يندرج وضعنا نحن؟