mercredi, juillet 29, 2009

من التسلطية إلى القيصرية

الاتحاد 29 يوليو 09

طرحت الأرقام المخيفة التي أشار إليها تقرير التنمية العربية الذي صدر هذا الشهر عن 2009 مجددا وبصورة أكثر حدة من قبل مسألة الاصلاح التي اعتقد العديد من الحكومات العربية أنها دفنت نهائيا. وكانت بعض الدول العربية قد حاولت، في محاولتها لتخفيف الضغوط الأمريكية، إجراء بعض الاصلاحات الديكورية في الممارسة السياسية، بما في ذلك تعديل قوانين أو إنشاء مؤسسات شكلية إضافية تهدف إلى توسيع القاعدة الزبائنية، وتبدو من حيث المظهر توسيعا للمشاركة السياسية.
في المقابل نحا بعضها الآخر، بالعكس، منحا آخر تماما. فقد استفاد من نتائج الحملة الامريكية الفاشلة لإدارة الرئيس بوش الابن على المنطقة المشرقية كي يعزز مواقعه ويخرج أقوى مما كان من قبل. وقد استغل حصول الإجماع في الداخل، والخارج، على أسبقية الاستقرار على أي هدف آخر، ليعيد بناء التوازنات الداخلية والخارجية على أسس جديدة، تضمن مزيدا من احتكار السلطة وشخصنتها. وفي سياق تحول الاستقرار إلى الخيار الرئيسي للمنظومة الدولية، وتلقي النظم المزيد من الدعم الخارجي تجنبا لخيار الفوضى والعنف (الاسلاموي) أو الإرهابي، والإحباط المتجدد للرأي العام، نجح العديد من النظم في التحول من نظم تسلطية إلى نظم قيصرية أو قيصرية جديدة. والقيصر هو بشكل أو آخر، ملك إله، يقضي في شؤون الناس ومصالحهم على هواه بمقدار ما يعتبر نفسه، ويصور من قبل أعوانه كشخص ملهم، لا يخطيء بمقدار ما هو منزه عن المصالح والأهواء.
والقيصرية السياسية ليست ثمرة طبيعية تولد من تلقاء نفسها، بسبب الطبيعة الثقافية أو النفسية، أو التراث التاريخي لشعب، ولا حتى الأهواء الشخصية. إن ولادتها تحيل إلى سياق اجتماعي سياسي هو هنا التحالف اللامنسجم واللامتجانس لفئات مصالح لا يجمع فيما بينها ويضمن استمرار تسيدها وتحقيق ذاتها سوى الولاء المشترك والكامل للسلطة وخضوعها الكلي لها وتسليمها لواحد أحد يحكم فيما بينها ويفصل في شؤونها. فبهذه الطريقة يتميز القيصر عنها جميعا ويتحول إلى كيان شامل أو رمز لشمولية الدولة والمجتمع، ومركز تماه جمعي، بل يتحول إلى تجسيد لشعب بأكمله قبل أن يكون ممثلا للطبقة اللمامة التي يستند النظام القائم إليها.
فالقيصرية نظام يقوم بالأساس على، أو بالأحرى لا قيام له من دون، هذه الوظيفة الجامعة والشاملة التي يمثلها القيصر، والموقع المتميز والمشرف والمستقل، وبالتالي المقدس أو شبه المقدس الذي يعطى له، والذي يجعل الجميع أمامه على القدر نفسه من العبودية والحرمان من السيادة والأهلية، مهما عظم شأنهم الاقتصادي وعلا كعبهم الاجتماعي. والتسليم للملك الإله، وإعلان الولاء الجامع له، من دون استثناء أو انتقاص أو تردد، هو شرط تكونه كقيصر، لا يشك في ولائه أو إلهامه أو إخلاصه ووفائه وسداد رأيه. وبعكس الحاكم السياسي، أي البشري، لا تستقيم صورة القيصر ولا تستقر في الذهن كسلطة فائقة الرمز والقوة والقيمة والنجاعة، إلا برفع الحاكم الفرد، ملكا كان أو رئيسا، إلى مرتبة استثنائية، غير طبيعية، وتجنب مقارنته بغيره من الحكام. فممارساته، مهما كانت، فوق بشرية، لا تخضع لمعايير العقل أو المنطق أو السياسة أو المصلحة أو الأخلاق، أي لمعايير ومنطق الصح والخطأ، والحق والباطل والخير والشر. منطقها الوحيد هو الحكمة الكامنة فيها والتي لا يعرفها إلا أهل الذكر والقيمين على السر، ولا تتجلى حقيقتها إلا في تاريخ لاحق.
وبعكس ما يبدو في الظاهر، لا تنبع قوة القيصر من صفاته الشخصية، العقلية أو النفسية، وإنما من الموقع الذي يحتله في النظام والقوة التمييزية المطلقة التي تمنح له من قبل الأطراف المشاركة في النظام. لذلك ليس لقوة الشخصية قيمة هنا، بل ربما كان ضعف الشخصية سببا إضافيا في تعزيز السياسة القيصرية. إذ يميل الشخص ضعيف الثقة بالنفس إلى استغلال القوة التمييزية التي يعطيها له النظام بأكملها، وعدم التساهل في أي جزء منها. وبالإضافة إلى مصدر القوة الرئيسي هذا، لا تقوم القيصرية من دون عمل يومي دؤوب يقوم فيه كهنة النظام والقيمين عليه، من أنصار وايديولوجيين، ورجال دين مقربين، ورجال دولة وأمن، وأطراف اجتماعية مشاركة في النظام ومستفيدة رئيسية منه، بالمشاركة الحية في بناء القيصرية كمصدر سلطة استثنائية، مقدسة وملهمة وناجعة معا، ورسم صورة رمزها كما ينبغي أن تكون. وتهدف هذه المساهمة إلى التاكيد اليومي والدائم، في الممارسة والخطاب معا، على الطابع الفريد والامتيازي لنظام الحكم وللحاكم معا، وقمع أي سلوك أو كلام من شأنه التشكيك باستثنائية الوضع وشخص القيصر أو بمناقشة أفعاله وأقواله أو إخضاعها لمقياس العقل أو السياسة أو المنطق الطبيعي، وفي المقابل تكريس سلطة الحاكم الفرد المطلق كواقع طبيعي وحتمي، منزه عن الأغراض والأهواء والمصالح والأخطاء.
لا يصبح القيصر قيصرا إلا بمقدار ما يسلم له الجميع، وفي مقدمهم بالطبع القوى الاجتماعية التي تشكل قاعدة النظام، والنخب الثقافية وغير الثقافية التي تدور حولها، بالأمر، ويقبلون به وكيلا لذواتهم جميعا قبل أعمالهم. والتسليم فعل من أفعال الايمان، لا يقبل إلا إذا كان مخلصا وصادقا وكاملا لا يدخله أي شك أو تردد أو اعتبار سوى الثقة بمقدرة الملك الإله وحكمته وطبيعته الخيرة. من هنا يحتل القيصر، كحاكم فرد مطلق ومنزه عن الاهواء والأغراض، رئيسا كان أم ملكا، كل الواجهة السياسية، أي كل فضاء العمومية، ويحول جميع المؤسسات والسلطات الخاضعة له، عسكرية واقتصادية وسياسية وإدارية وثقافية وأهلية، بما في ذلك المسؤولين فيها، إلى أدوات يستخدمها في تحقيق إدارة ليست من السياسة وإنما هي من الحكمة اللدنية، لا تخضع لأي معيار موضوعي وقانوني، سوى ما يراه هو من خير وفائدة للمجتمع والبلاد. الحكم حسب إرادة الحاكم ورغبته وتمنياته، والاستجابة لتصوراته وأهوائه، الخيرة بالضرورة، من دون أي محاسبة أو مراقبة حتى من قبل من يحيط به من رجال السلطة أو من طرف القوى المالكة التي تشكل قاعدة نظامه الاجتماعية، هو جوهر الايمان والتسليم، ومن وراء ذلك راحة البال وحسن المآل في الدنيا والآخرة.
في هذا السياق، لم يكن من المستغرب أن يكون تقرير عام 2009 للتنمية البشرية، بصرف النظر عما تعرض له من تزيين، أكثر إدانة لواقع المجتمع والسياسة العربيين من التقارير السابقة، التي شكلت عندما صدرت عام 2009 صدمة حقيقية للوعي العربي، العام والمختص معا. فجميع المؤشرات، ما تعلق منها بالنمو الاقتصادي أو التكافؤ الاجتماعي أو البطالة أو الفقر أو التعليم، فما بالك بالمشاركة السياسية والتقدم على طريق تحقيق المطالب الديمقراطية والحقوق الانسانية، تشير إلى تجاوز الخطوط الحمر. ومع نسبة بطالة تزيد على 14 بالمئة، ومستقبل قاتم للتنمية المستدامة، وانعدام أي آفاق لتعاون اقتصادي وتقني وعلمي جدي بين البلدان العربية، لن يكون من المستغرب أن تتدهور بشكل أكبر معاني الحكم السياسي المدني ومفاهيمه، لتحل محلها المحسوبيات الشخصية والطائفية والعشائرية، أي أن يترسخ أكثر فأكثر خروج العالم العربي، أو قسما كبيرا منه، من السياسة الحديثة.

vendredi, juillet 24, 2009

ايران وحقبة ما بعد الثورة الاسلامية

الجزيرة نت 24 يوليو 09

كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة في العالمين العربي والاسلامي سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بحقبة جديدة يمكن ان نطلق عليها ما بعد إسلاموية. وليس المقصود بما بعد هنا العودة عن إنجازات الحقبة الاولى وإنما تجاوزها، أي الاحتفاظ بما فيها من ايجابي وضم عناصر جديدة إليها، أو بالأحرى إعادة النظر في مكانة رجال الدين ودورهم في الحياة السياسية، انطلاقا من تجربة غنية وأساسية هي تجربة الجمهورية الاسلامية الايرانية، كما جسدتها ولاية الفقيه وأسبقيته السياسية، المعمول بها في طهران رسميا منذ عام 1979. وبعكس ما يبدو على السطح، لا تشكل حركة الاحتجاج الأخيرة نفيا للجمهورية الاسلامية الايرانية، وإنما تعبيرا عن انتصار فكرتها، والحلم المتنامي بتحريرها من أغلالها وإعادة تأسيسها.
من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية، وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها المجتمعات العربية، من دون أن تستطيع التعبير عنها، بسبب القهر والكبت السياسيين والفكريين، ومن باب أولى أن تتطلع إلى الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث، في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات إلى قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس، ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم، والمصالحة مع ذواتهم وتاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر بالعطالة والذل والمهانة الأبدية. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الشاه الذي عمل حارسا للمصالح الغربية، وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الشعب. وفي ردها الاعتبار للناس العاديين - الذين احتقرهم النظام الأسبق وهمشهم تماما ورفض أن يعترف بأهليتهم السياسية، أي بمعاملتهم كمواطنين متساوين، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى - ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي كانوا يحملونها، والتي تشير إلى هويتهم الثقافية، وتعبر عن شخصيتهم التاريخية، في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والفكرة الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
وقصدي ان ما حرك الجمهور الواسع في ايران ضد نظام الطغيان الشاهنشاهي لم يكن، كما سعى رجال الدين إلى تصويره في مابعد، إتاحة فرصة أكبر لممارسة الشعائر الدينية، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، ولا كان فرض الحجاب ومراقبة سلوك الأفراد الأخلاقي، ولا بناء جدران تعزل الشعب الايراني عن العالم باسم القومية أو الدين. ولا كان التسليم بسلطان الولاية الدينية وفرض وصاية رجال الدين على الحياة السياسية. ففي ما وراء المظهر الديني للحركة الشعبية التي أطاحت بالشاه ونظامه، كان محرك الثورة الاسلامية العميق الانعتاق من حياة الذل والهامشبة والتمييز الاجتماعي والثقافي وإسقاط الأهلية السياسية عن أغلبية الشعب بما تعنيه من من تكريس مبدأ المساواة واحترام الحقوق الانسانية في الحرية والمشاركة السياسية.
لكن الدور الذي لعبه الاسلام في تفجير هذه الثورة التحررية وقيادتها، قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. فقد غطت الايديولوجية الدينية، التي لعبت الدور الأول في بلورة الوعي بالمطالب السياسية والإنسانية من جهة، على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت لها الحركة الشعبية. كما عزز الدور المركزي الذي قامت به الحوزة الشيعية الايرانية في تنظيم قوى الثورة وتوجيهها وقيادتها من شرعية سيادة رجل الدين وأسبقيته على رجل السياسة من جهة ثانية. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي، واعتباره الأمين على السلطة، والقيم على حسن ممارستها، بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لم يساعد هذا الوضع الجمهورية الاسلامية على انتهاج الطريق الذي كان متوقعا لها. ودفعها إلى الانخراط بشكل متواصل في طرق مسدودة حطمت شيئا فشيئا جميع الآمال التي كانت معقودة عليها. وستعقب حقبة الانجازات الكبرى حقبة ثانية طويلة من الاحباط والعجز عن الوفاء بالوعود المعقودة والتورط المتزايد في سياسات لمزايدة القومية والدينية والمواجهة الخارجية. ولم تلبث الثورة الاسلامية أن فقدت بوصلتها. فصار الحفاظ على الهوية الدينية، التي تبرر سيطرة النخبة القائمة وتضفي عليها الشرعية، غاية بديلة عن تحرير الأفراد وتحسين شروط حياتهم الإنسانية، وصار البحث عن القوة والعظمة استراتيجية الدولة الأولى المقدمة على برنامج تحقيق المواطنة الحقيقية، وأصبح الحفاظ على النظام الثوري وضمان أمنه أولوية وجودية، وتعويضا عن الفشل في بناء شروط المساولة وتحرير الفرد من الاستلاب لسلطة خارجية. فلن يتأخر الوقت قبل أن تظهر الهرمية الجديدة في السلطة، مع ما يعني ذلك من إعادة بناء علاقات السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما سيحرم الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، الثورة الايرانية من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، سيساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة - الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي - في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات.
هكذا لم تكن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة هي السبب في تفجير حركة الاحتجاج الايرانية الواسعة، ذات الطابع الثوري أي القطعي، وإنما كانت الصاعق الذي فجر قنبلة موقوتة. ولا يغير في مغزى ما حصل عدم حصول تزوير في الانتخابات بل إنه يفاقمه ويبرز بشكل أكبر مدى الانكشاف السياسي والايديولوجي لنظام الملالي الايرانيين، ونفاذ صبر قطاعات واسعة من الرأي العام الايراني وتوقها الشديد إلى التغيير وقطعها تماما مع أوهام الجمهورية الاسلامية ووعودها.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وتنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند إلى أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام، وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة، أصبحت مستقرة بمعزل عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة الدينية والقومية. وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تراجع الثورة لصالح الدولة. وهذا بمعنيين، الأول تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام الثوري، والثاني بروز مطالب الحرية والمساواة والحياة القانونية السليمة التي تميز الدول الحديثة الناجزة، أي العودة إلى حياة دستورية طبيعية وعادية ونموذجية والقطع مع الأوضاع الاستثنائية المرافقة للثورات.
ومع تراجع شرعية النظام الثوري الذي أصبح استمراره يتناقض مع تحقيق مفهوم دولة المواطنة وقانونها، سيصبح من الصعب على أصحابه الحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها من دون توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية. وهذا هو الثمن الحتمي لانحسار الشرعية، أي لتراجع رصيد الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة، ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو الرصيد المعنوي والرمزي الذي يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية، وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، وذلك حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا يختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته في الخمسينات والستينات جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فهي تتعرض اليوم إلى مراجعة قوية وعميقة الجذور يصعب استئصالها. لكن بعكس ما حصل في البلاد العربية التي نجحت النخب القومية والثورية في تدجينها وفرض الموت السياسي عليها، لن تستطيع سلطة الملالي مقاومة المعارضة الشعبية لفترة طويلة. وسوف تضطر عاجلا أم آجلا إلى الانفتاح على مطالبها التحررية، أو تحكم على نفسها بالهلاك وعلى ايران بالتخبط في وحول ثورة انحرفت عن أهدافها، تماما كما تتخبط المجتمعات العربية منذ عقود طويلة في رواسب ثورة "قومية" مخفقة وتدفع غاليا ثمن إجهاضها. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وحتى تعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالاتها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها في سبيل إدامة أوضاع السيطرة اللاشرعية فترة أطول وزيادة فعالية الحكم بالقوة وردعيته معا.
وفي اعتقادي، ليس هناك أي حتمية في أن تنجح سلطة الملالي في قهر إرادة التحرر لدى الشعوب الايرانية وتعريض ايران إلى مخاطر التخبط والفوضى والاقتتال الأهلي الذي يميز دول المنطقة العربية. وإذا نجحت ايران في أن تشق لنفسها طريقا جديدة للمستقبل، فسيكون ذلك، من دون شك، فاتحة تحرر المنطقة برمتها من أزمتها الفكرية والسياسية التي لعبت الثورة الاسلامية الايرانية دورا رئيسيا فيها.

mercredi, juillet 15, 2009

نهاية الحقبة الاسلامية

الاتحاد 15 يوليو 09

كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بنهايتها أو بالخروج منها.
من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها المجتمعات العربية، لكن في ظروف الكبت والعجز والحرمان من التعبير عنها أو التفكير في مضمونها وأفق الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات في قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم والمصالحة مع تاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر والعطالة والذل الأبدي. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الذي عمل حارسا للمصالح الغربية وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الناس. وفي ردها الاعتبار لهؤلاء، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى، ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي يحملونها والتي تمثل هويتهم وشخصيتهم في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والايديولوجية الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
فلم يكن تحقيق المطالب الدينية، ولا توفير فرص أكبر لممارسة الطقوس والعبادات، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، هو مصدر ولاء الجمهور للجمهورية الجديدة، وأقل من ذلك التسليم بسلطان الولاية الدينية المطلق وفرض وصايتها على الحياة السياسية.
لكن ليس هناك شك في أن هذا الترابط الذي حصل بين الثورة التحررية والاسلام قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. وغطت الايديولوجية الدينية على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت الحركة الشعبية لحقبة طويلة سابقة. وعزز ذلك الدور المركزي الذي قامت به الهيئة الدينية الايرانية بما قدمته من قوة تنظيمية وتوجيهية جاهزة لإعادة بناء قوة التغيير. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي واعتباره الأمين على السلطة والقيم على حسن ممارستها بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لكن الثورة الاسلامية، كجميع الثورات التي سبقتها، لن تحقق مكاسب فحسب ولكنها ستنتج إحباطات كثيرة وعميقة أيضا، وذلك على مقدار ما ستبرز، في التطبيق العملي، التباين الواسع بين الطوبى الملهمة والممارسة الفعلية، وما ستعيد بناءه من أوضاع السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما حرمها الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، ساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات الحاملة لمخاطر عديدة.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وإدراك مسار الانحسار والتراجع في شعارات الجمهورية الاسلامية، وربما، أكثر من ذلك، خاصة بعد الانتخابات الإشكالية الأخيرة، تنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. وهو ما شجع جمهورا كبيرا على القطع مع أسطورة الثورة التحررية، والنزول إلى الشوارع للتعبير عن رفضه التمديد للأوضاع القائمة. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند على أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة مستقلة عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة، وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام، وهو ما سيضطر أصحابه للحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها إلى توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية على حساب المراهنة على الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو ما يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا تختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وتعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها لضمان إنتاجية أكبر للعنف وبقاء أطول للنظام؟
ستظل إيران لفترة طويلة ضحية شعارات ثورتها وجمهوريتها الاسلاميتين قبل أن تنجح في شق طريق جديد للمستقبل، تماما كما بقيت مجتمعاتنا العربية ولا تزال تتخبط منذ عقود في رواسب ثورتنا "القومية" وتدفع غاليا ثمن إجهاضها.

lundi, juillet 13, 2009

عودة إلى مسألة الإصلاح والتغيير

الاتحاد 13 يوليو09

لم يكن المواطن العربي بحاجة إلى تقرير التنمية البشرية الجديد حتى يدرك أن العالم العربي يعيش مشكلة داخلية حقيقية تتعلق بأسلوب عمله وتطوره، لا تقل أهمية عن المشكلة الخارجية المتمثلة في استمرار الاحتلال وضغط القوى الدولية.
وأصل هذه المشكلة هو إخفاق ما كنا نسميه في الأدبيات الدولية حركة التحرر الوطني
بما كانت تعنيه من تبلور قوة محلية سياسية وأجندة للعمل الجمعي وغايات واضحة توجه القادة والرأي العام معا وتبين مدى نجاحهم أو فسلهم في تحقيق البرنامج الوطني المجمع عليه. ويعني هذا الإخفاق فراغا فكريا وسياسيا وقياديا أيضا يجعل من الصعب تحديد المهام التاريخية المجمع عليها فما بالك بمواجهتها والتوافق على قيم وأهداف وغايات جماعية.
هكذا أصبح التغيير، أي سد الفراغ الفكري والسياسي والرمزي الذي تركه إخفاق نموذج حركة التحرر الوطني النظري والعملي، هدفا في ذاته بعد أن كان وسيلة لتحقيق أهداف واضحة ومنشودة، وأصبح استبدال النظم السابقة بنظم جديدة تعيد بناء العلاقة بين النخب والقيادات وتحيي معنى الشرعية والمشاركة السياسية، مقدمة لإطلاق ديناميكية العمل والنشاط الاجتماعيين وإخراج المجتمعات من الطريق المسدودة التي دخلت فيها، أي لعودة الايمان بإمكانية التقدم، على محدوديتها، ونجاعة الاستثمار في جميع مستوياته الاقتصادية والفكرية والمدنية.

وعندما نفكر اليوم بمصير الكتل القارية العديدة، نجد أنفسنا مدفوعين تلقائيا إلى أن نتحدث عن ديناميكيات التغيير الخاصة التي نقلت الشعوب والمجتمعات من حقبة نموذج التحرر الوطني إلى الحقبة الجديدة التي تلعب المشاركة الشعبية الفاعلة دورا أساسيا في بناء مشروعيتها وبناء الثقة العامة اللازمة لاستقرارها واستمرارها. وفي هذا السياق تقفز إلى ذهننا تجارب ناجحة عديدة. أولها تجربة دول أمريكا اللاتينية التي قبلت النخب المعارضة فيها، وكان لمعظمها ميليشيات ومواقع عسكرية قوية في البلاد، من خلال الحوار والتنازلات المتبادلة، بالاندماج في النظم القائمة والتخلي عن تمردها مقابل تخلي النظم الأوليغارشية عن احتراف القهر والقمع والاستبداد. وثانيها تجربة الدول الأفريقية التي كانت تتميز بتبعيتها والتي انتقلت إلى مواقع ديمقراطية تعددية. ولا شك أنه كان للضغوط الخارجية وضمان الدول الحامية التقليدية دور كبير في هذا التحول. وربما سيبقى لفترة طويلة شرط استمراره.
ويختلف عن ذلك نموذج تجربة شرق أوروبة الذي جمع بين التدخل الخارجي والديناميكية السياسية الداخلية. فلا يشك أحد في أثر زوال الاتحاد السوفييتي وإغراء الاندماج بالغرب الرأسمالي في دفع حركة المعارضة الثقافية وإطلاق حركة التغيير الشعبية التي أدت إلى إسقاط النظم الشمولية وإقامة نظم ديمقراطية مكانها.
وبالمقابل جمع النموذج العربي بين غائبين. أولهما انعدام أي تعاطف خارجي حقيقي مع الشعوب، وبالتالي صعوبة نشوء سياق يسمح بتكوين حركات انشقاق قوية وبناء ثقة عميقة بإمكانية التغيير عند الرأي العام الواسع، وثانيهما تمتع النظم السياسية والاجتماعية القائمة بهامش كبير من الاستقلالية تجاه الشعوب، إما بسبب التحالف الوثيق الذي يربطها بالدول الكبرى أو بسبب وجود موارد ريعية مادية ومعنوية غزيرة خلفتها الحركة القومية أو أخيرا بسبب نجاح هذه النظم في تدمير المجتمع المدني وفرض العزلة الثقافية والنفسية على الشعوب. والنتيجة استعصاء مديد في هذه المنطقة على أي تغيير في اتجاه التحولات العالمية وإنجاز المهمات التاريخية، كان من عواقبه انحسار الشرعية، وعلى هامشها استمرار التدخل الخارجي شبه الاستعماري الذي شكلت الحرب الأمريكية على العراق وجهه الكارثي الأبرز، وفرعنة نظم سياسة لا تجد مبررا لفتح أي حوار مع حركات الاحتجاج ومع الرأي العام ككل. وهي لا تزال مستمرة في تعبئة شعوبها بالطرق الكلاسيكية الشمولية نفسها، باستعداء الخارج وتهييج المشاعر القومية وتأليب الرأي العام على قوى المعارضة الجنينية. وهو ما يجعل العالم العربي يبدو وكأنه يعيش في حقبة ماضية، ويخرج من التاريخ الحي الذي تعيشه الشعوب الأخرى، ببرامجه الجديدة وقيمه وغايات إنسانه. كما يجعل الإنسان يشعر في هذا العالم بالضياع وانعدام الوجهة وضياع الأمل معا، ويغذي التوقعات الأكثر سلبية وسوداوية في مستقبل المجتمعات..

يشجع الجمود الذي يسم الأوضاع العربية منذ عقود طويلة، والتعثر الذي لا تزال تشهده
المسيرة الاصلاحية على تزايد دور الدول الاجنبية في تكوين التوازنات الإقليمية والداخلية، ونزوع النظام والمعارضات بشكل أكبر إلى الشك في مقدرتهم على البقاء والاستمرار من دون تعزيز التحالف مع الخارج. من هنا ولد الصراع الدائر اليوم حول التغيير في العالم العربي أوضاعا جديدة ذات سمات خصوصية، وأنتج إشكاليات نظرية سياسية لم تكن موجودة من قبل. وأصبحت العلاقة مع الخارج، والغرب منه بشكل خاص، إشكالية مركزية في أي نقاش حول التغيير. وما كان لمثل هذه الإشكالية أن ترى النور لو نجحت قوى المعارضة الداخلية أو القوى الشعبية المدنية كما حصل في العديد من البلدان الأخرى التي عانت من نظم شمولية في أن تنتزع المبادرة من القوى الحاكمة أو أن تجبرها على القيام بالتنازلات الضرورية لشق طريق الاصلاح والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية. وأكثر فأكثر تثبت الأيام أن مثل هذه الاحتمالات التي مكنت المجتمعات التي عاشت ظروفا مشابهة لظروف المجتمعات العربية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبة الشرقية والكتلة السوفييتية السابقة غير واردة أو صعبة التحقيق في البلاد العربية.

تنبع المشكلة بالفعل من انسداد النظم وانغلاقها وعدم عكسها لحركة المجتمعات وتجميدها للمصالح وتحولها إلى قنوات لتأكيد سيطرة مستمرة وكاملة وأبدية لجماعة مصالح واحدة. ولا يزال السؤال الذي نظرحه منذ عقود دون جواب، أعني كيف يمكن فتح هذه الأنظمة لإطلاق ديناميكية الحراك الاجتماعي وتشجيع الناس على العمل والمبادرة والمشاركة وبذل الجهد. والقضاء بالمناسبة على الطبقة الطفيلية التي تكونت في العقود الماضية وأصبح وجودها منبع الفساد الكبير والصغير، وذلك بمقدار ما تفرض إعادة إنتاجها الرشوة المعممة وأحيانا وفي بلدان كثيرة تأبيد الأحكام العرفية والاستثنائية وانتشار المعاملات المهينة والمذلة للأفراد، وإحلال العصبيات والولاءات الزبائنية والمحسوبيات محل الهوية السياسية والولاءات الوطنية.
ليس هناك خيارات كثيرة في الواقع، فإما أن تتقوى قوى الاصلاح الداخلية كي ما تفرض التغيير بالحوار على الطريقة الأمريكية اللاتينية وما تعنيه من تنازلات متبادلة، أو أن تنجح الضغوط الخارجية في ضمان تحول تدريجي للنظم لقاء مساعداتها السياسية والاستراتيجية
أو أن يتفاقم الفساد ويشمل الانهيار والتفسخ جميع مؤسسات النظم، مع ما يعني ذلك من تدهور شروط معيشة الأفراد المادية والمعنوية، وتزايد احتمال الانفجارات على الطريقة التقليدية/ وما يمكن أن تجره من المزيد من التدخلات الأجنبية.
باختصار، أصبح التغيير بصرف النظر عن مضمونه ومعانيه السمة الرئيسية للحقبة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم في كل مكان. وعلى قدر النجاح في هذا التغيير تقاس جدارة النظم وشرعية بقائها، لدى الرأي العام الداخلي والخارجي معا.

mercredi, juillet 01, 2009

احتجاجات ايران

الاتحاد 1 ثوفثو 09
شكلت أحداث ايران الدامية في الأسبوعين الاخيرين فرصة جديدة لتأكيد الانقسام داخل ا لرأي العربي بين معسكرين، جرت العادة على تسمية أحدهما معسكر الاعتدال والثاني معسكر الممانعة. نظر أصحاب المعسكر الاول، وهم في غالبيتهم من النخب الحاكمة أو والسائدة، إلى ما يجري هناك على أنه ثورة ديمقراطية، أو بداية ثورة، قاعدتها الشباب والطبقات الوسطى المتعلمة، وسكان المدن الراغبين في دخول العصر، وهدفها تحرير ايران من نظام الملالي الديني والمذهبي، الفاسد والفاشل معا، والعودة بها إلى حكم مدني يتماشى مع قيم العصر الزمنية. وفي ظنهم، وهذا أصل ترحيبهم بالمعارضة الايرانية الصاعدة، أن مثل هذا التحول يعني أمورا ثلاثة تدفع جميعها إلى تخلي ايران عن سياسة الهيمنة الإقليمية وتمكنها من الاندماج من جديد في محيطها، والتعاون مع الحكومات المجاورة لايجاد حلول على قاعدة الحفاظ على الوضع القائم في المنطقة. الأول هو وضع حد للمواجهة بين طهران والغرب وما نجم عنها من ضغوط غربية متزايدة على الدول العربية الحليفة للغرب والمناوئة له معا، والثاني تراجع جذوة الحماسة الدينية وما نجم عنها من توترات طائفية ومذهبية فاقمها الحديث المتكرر عن تقدم حركة التشيع، وتعبئة طائفية مقصودة أو تلقائية، هنا وهناك. والثالثة ايجاد حل سياسي لمشكلة التقنية النووية الايرانية وما تثيره من تحد استراتيجي للدول العربية.
وبالمقابل، عاش فريق الممانعة العربي فترة شك عصيبة لم يحسمها إلا يقين مصادقة مرشد الجمهورية الاسلامية، علي خامنيء، على فوز الرئيس السابق أحمدي نجاد، ورفضه أي تشكيك في نزاهة الانتخابات الرئاسية. ونظر مؤيدو أحمدي نجاد العرب، او أغلبيتهم الساحقة، إلى ما يجري في ايران على أنه محاولة فاشلة قام بها الغرب لزعزعة استقرار الجمهورية الاسلامية والتشكيك في إمكانية بقائها، بل هي ثمرة مباشرة للتدخلات الخارجية. وبينما لزمت العواصم العربية الصمت، هنأت دمشق الرئيس الجديد على الفوز واعتبرته ردا على هذه التدخلات عينها. وهذا هو أيضا محتوى موقف حركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية حماس التي اعتبرت فوز أحمدي نجاد رسالة من الشعب الإيراني موجّـهة إلى الغرب والولايات المتحدة، قِـوامها رفض الضغوط والتمسّـك بمُـقاومتها. أما حزب الله اللبناني فقد رأى في فوز نجاد وهزيمة المعارضة تأكيدا للقيادة الحكيمة والإرشادات الأبوية للمُـرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وتطمينا للمستضعفين والمجاهدين في كل مكان. أما بغداد التي تريد سلتها كما يقول المثل الشعبي من دون عنب، فقد اكتفت بتصريح وزير خارجيتها هوشيار زيباري الذي أكد، أثناء زيارته إلى طوكيو منذ أسبوع، على أن "العراقيين يحترِمون إرادة الشعب الإيراني ويحترِمون النِّـظام السياسي، وليْـسوا في موقِـف لإصْـدار حُـكم على خياراتهم".
ما هو المضمون العميق لهذه الحركة التي دفعت إلى شوارع المدن الايرانية ملايين المتظاهرين، وأكرهت مرشد الجمهورية على إعلان ما يشبه الأحكام العرفية، بما تعنيه من تحريم التظاهرات والاحتجاجات ومواجهتها بالقوى الأمنية المسلحة، وتشديد الرقابة على الصحافة واعتقال عشرات بل مئات الصحفيين والمثقفين وتهديدهم؟ هل نحن أمام ثورة تحررية تهدف إلى نزع الوصاية الدينية وإقامة نظام ديمقراطي يحترم إرادة الشعب الايراني ويعيد تركيز الجهد السياسي على تحسين شروط معيشة الأفراد وإصلاح الإدارة والسلطة، بدل البحث عن تأكيد القوة والعظمة الخارجية، أم نحن أمام محاولة أجنبية لزعزعة الجمهورية الاسلامية التي أصبحت تمثل قطبا من أقطاب الممانعة الإقليمية والدولية ضد السيطرة الغربية، وتهدد بإصرارها على الاستمرار في مشروعها النووي، التفوق الاستراتيجي الاسرائيلي وتدمر صدقية تل أبيب الردعية؟ هل نحن أمام نزاع داخل الجمهورية الاسلامية بين مشروع إصلاحي لا يهدف إلى نزع الطابع الديني عن السلطة ولا يعترض على ولاية الفقيه، ولكن يسعى إلى وضع حد للفساد وسوء الإدارة والمبالغة في استعداء الدول الغربية من دون أي فائدة أو سبب، أم نحن أمام صراع طبقي يضع في المواجهة قوى المستضعفين من فقراء الريف والاحياء الشعبية وقوى الأغنياء والميسورين والطامحين إلى مسايرة أنماط الاستهلاك الغربية؟
هي في اعتقادي مزيج من ذلك كله. فهي حركة سياسية واجتماعية وفكرية معا. ومن هذه الناحية نراها تعيد، لكن في الاتجاه المعاكس، نموذج الثورة الاسلامية نفسها التي ولدت عام 1979 في سياق ثورة شاملة ضد النظام الشاهنشاهي الذي جمع بين سلطة قمعية كان السافاك، أو المخابرات، أهم رموزها وأدواتها، وتراتبية طبقية غليظة وفجة أفضل من جسدها الارستقراطية الفاسدة الملتفة حول القصر والجامعة بين نمط الحياة الاستهلاكي الغربي والخنوع للسلطة المطلقة الفردية، وأخيرا التبعية للغرب والعمل في سياق استراتيجية سيطرته الإقليمية، بما في ذلك التحالف مع إسرائيل والتعاون معها لكسر إرادة الشعوب العربية. هكذا جاءت الاسلاموية كايديولجية بديل، تحمل مشروع هوية شعبية وطنية في مواجهة أسطورة الأمبرطورية الساسانية التي أطلقها الشاه والهوية الآرية التي أراد فرضها على الشعب لتحقيق التماهي الكامل بين الارستقراطية السائدة والغرب، وتكريس نظام الإقصاء والاستبعاد والإخضاع الشامل للأغلبية الاجتماعية. وجمعها بين هذه الأبعاد الثلاثة، هو ما شكل مصدر قوتها الاستثنائية وما اتسمت به من إجماع شعبي ودفع وتوقد وطاقة جعلها تبدو وكأنها أحد اأهم لثورات في تاريخ الانسانية الحديث.
تجمع حركة الاحتجاج الواسعة التي تشهدها ايران اليوم بين آمال التحرر السياسي الذي يتجسد في نزع نير الوصاية الدينية التي تعيق المشاركة الطبيعية والمتساوية لجميع الأفراد في تقرير مصيرهم، ومقاومة الفساد الشامل النامي على هامش صعود الارستقراطية الجديدة النامية في حجر هذه الوصاية الدينية وفي حمايتها، وأخيرا كسر جدار العزلة التي يسعى النظام إلى فرضها على المجتمع والشعب، باسم الاسلام والعقة والوطنية معا، لقطعه عن مسار التحولات العالمية وإحكام القبضة عليه، والحد من مقدرته على تمييز وجوده المستقل، وتلمس حقيقة أوضاعه بمقارنتها مع ما يحصل في العالم، وإضعاف ملكة التفكير النقدي والاحتجاجي لديه.
ليس هناك بعد يطغى على آخر، ولا يمكن الفصل في ما بينها من دون تحطيم ديناميكية الحركة بعمومها وإضعافها أو تحويلها إلى حركات متباينة ومتنافسة ومتصارعة. فالتحرر السياسي لا يتحقق هنا من دون التحرر الفكري كما لا يمكن كسر إرادة الارستقراطية الجديدة وإخضاعها أو إعادة تشغيل مبدأ تكافؤ الفرص بين الأفراد من دون نزع الوصاية الدينية. وبالمثل، لا يمكن كسر العزلة الفكرية والأخلاقية والنفسية المفروضة على المجتمع من دون التواصل مع العالم، ومركزه الغرب، واستلهام القيم الإنسانية الكونية أو شبه الكونية السائدة، ومسايرة العصر في قيمه الزمنية والاستهلاكية والمادية معا.
وليس هناك أيضا ميثاق جامع يوحد القوى المشاركة في حركة الاحتجاج ويصهرها في قوة واحدة. فمنها من يتحرك أساسا بدافع عدم القبول بالنظام الشمولي الراهن المرتبط بإرادة الولي الفقيه، والطامح بالتالي إلى نظام تعددي مفتوح وديمقراطية دستورية لا وصاية عليها، ومنها من يحركه رفض الفساد الذي يميز سيرورة تكوين ارستقراطية جديدة محمية بميليشيات النظام وزبانيته من حرس ثوري وقوى متطوعة لخدمة الثورة رهن إشارة السلطة وذخيرتها الحية في قمع أي حركة مقاومة أو احتجاج. ومنها أيضا من تشده أنماط الحياة الاستهلاكية الغربية ويشعر بأن النظام الراهن، السياسي والقانوني والفكري، هو مجموعة من القيود التي تحرمه من الحياة وتخضعه لموت بطيء. وهناك أخيرا، من بين عناصر النخبة الموجهة والقائدة، من يدرك أهمية الصعود على موجة الاحتجاج هذه لإعادة موقعة نفسه على خريطة القوة لتحسين شروط صراعه على السلطة أو الثروة.

وهذا ما يبقى حركة الاحتجاج هشة وضعيفة الهيكلة مفتقرة لقيادة واحدة. في مثل هذه الحالات، وفي غياب شخصية ملهمة قوية، وحده الإمساك بالسلطة يؤمن لحم القوى غير المتجانسة. فهو يشكل حافزا للجميع وأرضية لتوزيع المصالح وتقاسم النفوذ. ولا يختلف وضع التحالف الحاكم في ذلك عن حركة الاحتجاج. فهو أيضا يستمر بفضل إمساكه بالسلطة وما تقدمه له من إمكانية وموارد استثنائية لتأليف القلوب وصوغ تسويات وحلول عملية لتناقضات لا حل سياسيا لها. ولأن الإمساك بالسلطة بشكل رهانا رئيسيا، بل الرهان الوحيد القادر على تأمين تحالفات لا يمكن المعارضة ولا الحكم من دونها، فمن الطبيعي أن يكون الصراع عليها، سواء للاحتفاظ بها أو لانتزاعها من أصحابها حادا ووحشيا، لا يوفر عند الضرورة أي سلاح. فإذا نجحت حركة الاحتجاج في في الخروج من امتحان القوة الراهن من دون أن ينفرط عقدها ومع الاحتفاظ بقدر ما من التماسك والحيوية، سنكون في بداية حقبة تغيير حقيقية، مما يعني أ]ضا أننا سنسير على طريق صراع طويل ودام سيشغل ايران لستوات طويلة قادمة بل لعقود. وهذا موضوع مقال مستقل.