samedi, juin 20, 2009

أوباما: لا أعور دجال ولا مهدي منتظر

الجزيرة نت 20 يونيو 09

تراوحت ردود فعل الساسة والمثقفين العرب على زيارة أوباما وخطابه الذي وجهه للعالمين العربي والاسلامي من جامعة القاهرة بين من نظر إليه كمنقذ ومخلص أو مهدي منتظر، ومن لم يجد في زيارته ومضمون خطابه شيئا آخر سوى تأكيد أهداف السياسة الأمريكية والدفاع عنها، حتى لو جاء ذلك بلسان معسول ودغدغة للعواطف العربية والاسلامية.
من الواضح أن رسالة أوباما الرئيسية في رحلته للمنطقة وخطابه معا هي المصالحة ورأب الصدع بين عالم العرب والمسلمين من جهة وعالم الغرب والأمريكيين بشكل خاص من جهة ثانية. ليس هناك عداء بين الطرفين قال أوباما، ولا ينبغي أن يكون. بالعكس، يقترح الرئيس الأمريكي على العرب والمسلمين شراكة فعلية، عربونها تجميد الاستيطان الاسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية ووقف الحملات الإعلامية المعادية للاسلام والمسلمين، والمساهمة في التنمية الاقتصادية. وهذه لغة لم يعتد عليها العرب ولا خبروها على لسان أي رئيس أمريكي سابق، بالرغم من الوعود الكثيرة السابقة التي لم تر النور أبدا.

لا ندري إذا كانت هذه السياسة التصالحية الجديدة مبادرة شخصية من قبل الرئيس لا تزال تحتاج إلى التفاوض عليها بين الاطراف ومراكز القوى المختلفة في الإدارة الأمريكية، أم أنها موضع إجماع. كما لا ندري إذا ما كان هذا الإجماع نتيجة استنتاجات نهائية بخطأ السياسة التقليدية تجعل منها مبادرة استراتيجية أم أنها انعطافة تكتيكية تهدف إلى امتصاص النقمة العربية والاسلامية ضد واشنطن وسياساتها المنحازة. لكن إذا كانت تعبر بالفعل عن اقتناع عميق لدى النخبة الحاكمة الأمريكية بخطأ السياسات المعتمدة على القوة وسلبية نتائج تطبيقها في الشرق الأوسط، فهي تشكل خطوة أولى لكن خطوة مهمة على طريق التغيير ووقف الانحدار وبداية عملية انتشال الشرق الاوسط من الهوة الخطيرة، السياسية والاقتصادية والأخلاقية، التي سقط فيها نتيجة تحويله إلى مسرح للنزاعات والحروب والمواجهات الدولية وتهميشه في دورة الحضارة والتنمية والتقدم العلمي والتقني العالمية.
فمهما كانت قوة إسرائيل العسكرية والمعنوية، وبالرغم من جميع المظاهر السطحية الخادعة في الاستقلالية، ليس من الممكن تفسير إقامة دولة إسرائيل، وأكثر من ذلك رعايتها الدولية وتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية والتقنية، والتغطية على سياساتها الاستيطانية التي لو طبقت في أي منطقة أخرى في العالم ومن قبل أي شعب لأثارت ردود فعل قوية أقلها فرض العقوبات وضرب الحصار على الدولة العنصرية، أقول ليس من الممكن تفسير كل ذلك وتبرير كل ما قامت به تل أبيب وما تزال تقوم به، في فلسطين ولبنان والمناطق السورية المحتلة، لو لم تحظ بالدعم الغربي الكامل لها وغير المشروط. ومن الصعب الاعتقاد بأن السبب الرئيسي وراء هذا الدعم، بل التبني العملي، هو ما بقي من الشعور بالذنب في ضمير الشعوب الغربية لاضطهادهم السابق لليهود، أو التضامن مع ضحايا المحرقة. وليس من المؤكد أن دفع إسرائيل، عن طريق تشجيعها الدائم، بالتسليح وتقديم الغطاء الدبلوماسي، على التوسع والعداون على جيرانها، كان بالفعل خدمة لليهود المعذبين وتعزيزا لأمنهم.
أعتقد، بالعكس، أن مثل هذا الدعم، الذي تحول إلى تجنيد حقيقي لاسرائيل في الحرب على العرب، لا يمكن فهمه ولا تفسيره من خارج إطار الصراع والتنافس الذين ميزا علاقات الغرب الأطلسي بالعرب والمسلمين عموما، وإرادة الدول الاوروبية التي فتكت بالسلطنة العثمانية، ثم الأوروبية الامريكية التي كرست السيادة الغربية العالمية، في إبقاء العالم العربي تحت السيطرة الشاملة وتحت المراقبة، وحرمانه من فرص التكتل والتعاون التي يمكن أن تحوله إلى لاعب مستقل في المتوسط. وقد زاد من حدة هذا الصراع الإرث الاستعماري الحديث ثم حيازة المنطقة على أهم احتياطيات الطاقة الدفينة القابلة للتصدير في العالم.
إسرائيل ليست صنيعة الغرب فحسب، وإنما أداته الرئيسية أيضا في إخضاع العرب وضبط مسارهم التاريخي وتحجيمهم وقطع الطريق على ما يعتقد الغرب أنه حلم إعادة بناء الامبرطورية العربية أو الاسلامية الزائلة والتي تحمل تهديدات استراتيجية لهم. فهي ثمرة هذا النزاع لا سببه. ومستقبلها وسياستها رهينة بمصيره أيضا. إن حل المشكلة الإسرائيلية التي هي أصل مشاكل عديدة في المنطقة، وفي مقدمها المشكلة الفلسطينية والاحتلال وعدم الاستقرار والتخلف وانتشار العنف، يتوقف على الاتجاه الذي سيأخذه هذا الصراع العربي الغربي المضمر، ويسير بشكل مواز لحله أو حلحلته وتحول طبيعة الرهانات التي لا تزال تغذيه إلى اليوم. ولا نعني بحل المشكلة الاسرائيلية بالضرورة زوال إسرائيل، فهذه مسألة أخرى تتعلق بعوامل متعددة إضافية، إنما تحويلها من اداة استراتيجية وقاعدة عسكرية كبرى في خدمة السيطرة الغربية، وبالتالي قوة ضاربة جاهزة للتدخل والحرب، بل في حرب دائمة توسعية، إلى دولة عادية، تهتم بشأن مواطنيها وتقدمهم، وتتخلى عن طموح التفوق الدائم والتوسع الجغرافي والتحكم بمصير الشعوب المحيطة.

بالرغم من الإشارات العديدة والواضحة التي جاءت في خطاب الرئيس الامريكي التي توحي بآفاق جديدة للعلاقات العربية الغربية، على الأقل من طرف الإدارة الامريكية، إلا أنني لا أعتقد أننا في صدد وضع حد لهذه الحرب غير المعلنة التي يشنها الغرب على العرب على يد إسرائيل. نحن في أحسن الأحوال على طريق هدنة يدفع إليها الوضع الاستراتيجي المتدهور للغرب الامريكي. لكن ليس هناك أي سبب للاعتقاد بأن السيطرة على الشرق الأوسط وحرمانه من التحكم بمصيره وانتزاع استقلاله وسيادته، لم تعد هدفا حيويا للاستراتيجية الغربية. بل ربما كانت الدوافع لهذه السيطرة أقوى اليوم في الغرب من أي حقبة سابقة، نتيجة ما يقدمه بموقعه الجيوستراتيجي وموارد الطاقة المستحاثية الكامنة فيه من أوراق قوية في معركة السيطرة العالمية، وكذلك بسبب الخوف من إفرازات أزمة المجتمعات العربية الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، والسعي إلى درء مخاطر العنف المتعلق بها والناجم عن تفاقم ظواهر الإفقار والتهميش والإقصاء والإحباط .
أما أوروبة الغربية فهي اكثر مناطق الغرب خوفا من تحرر العالم العربي من قبضة السيطرة الأجنبية، وتشكيكا بمقدرته على التحكم بمصيره وقيادة نفسه، بل على الخروج من أزمته التاريخية، والأشد توجسا من صعود قوى الاحتجاج والمعارضة والتمرد المحلية. من هنا اللغة المزدوجة التي تميز دبلوماسيتها. فهي في الوقت الذي تظهر فيه مراعاتها الجزئية للمصالح العربية والفلسطينية، لا تكف عن دعم إسرائيل وترفض القيام بأي إجراءات قد تضعف من سيطرتها وتفوقها، حتى لو تعلق الأمر بإجراءات رمزية. وقد نشر في الأسابيع الأخيرة فقط تقرير أكاديمي لمجموعة الأبحاث والمعلومات عن السلام والأمن، وهي مركز دراسات إستراتيجية مستقل في العاصمة البلجيكية بروكسل، أظهر الدور الكبير الذي لعبه الاتحاد الأوروبي، حتى خلال السنوات القليلة الماضية التي كان ينتقد فيها سياسة إسرائيل لفظيا، في تسليح تل أبيب بمعدات ضخمة لاستخدامها في حروبها بالشرق الأوسط. وقد استمر تصدير الأسلحة الفتاكة لاسرائيل، كما جاء في التقرير "رغم اتفاق دول الاتحاد الـ27 فيما بينها على ما يسمى بالميثاق الأخلاقي لبيع الأسلحة الذي يحرم تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع التي يحتمل أن تستخدم فيها ضد المدنيين أو ضد حقوق الإنسان، غير أنه (الاتحاد الأوروبي) يستثني إسرائيل من هذا الميثاق". وقد بلغت "قيمة مشتريات إسرائيل من مبيعات الأسلحة الأوروبية عام 2006 وحده 11 مليار دولار، ساهمت فرنسا بالنصيب الأكبر منها بعد ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا.
ليس هناك أمل كبير بعد، بصرف النظر عن نوايا الرئيس الأمريكي نفسه، في تفكيك نظام الشرق الاوسط الاستعماري أو شبه الاستعماري أو التخلي عن سياسة إخضاع العرب للأجندة الغربيه بعد. إن المطروح اليوم كما كان عليه الحال في عهد الإدارة الجمهورية السابقة هو إعادة بناء هذا النظام الذي قوضته الاحداث ولم يعد يستطيع العمل ولا ضمان مصالح أحد، لا في دول الغرب ولا عند حلفائهم في الدول الشرق أوسطية. وحدها إسرائيل هي المستفيدة.
لكن ثمن الاستيطان وحرب التظهير العرقية الفلسطينية أصبح مكلفا جدا وعائقا أمام إعادة تشغيل هذا النظام. وقد حاولت إدارة جورج بوش أن تفرض إعادة بنائه بالقوة وعلى قاعدة انتصار إسرائيل وتكوين تحالف بينها وبين الدول العربية المخضعة بالقوة وتحت الضغط. وكانت النتيجة إخفاقا مدويا، ليس بسبب المقاومات التي أثارها هذا المخطط فحسب وإنما بسبب رفض الدول الغربية نفسها، وفي مقدمها أوربة الحليف الرئيسي لواشنطن، وكذلك الدول العربية، الانخراط وراء الحلم الجنوني للمحافظين الجدد.
هكذا لم يعد هناك بديل آخر لإعادة ترميم نظام الشرق الأوسط شبه الاستعماري وضمان مصالح الدول والنظم المنخرطة فيه إلا على حساب إسرائيل، أي بإكراهها على التخلي عن أطماعها التوسعية ووضع حد لتوكيلها غير المشروط بعملية إخضاع الشعوب العربية وتدجينها. وهذا يعني من الناحية العملية أن باراك أوباما بعكس سلفه لا يراهن من أجل إعادة بناء جيوستراتيجية الشرق الاوسط على تعزيز إسرائيل والتحالف غير المشروط معها، بوصفها الذراع الضاربة لصالح الغرب، وإنما بتعزيز العلاقة مع الدول الأوروبية والعربية والتفاهم معها. فهي وحدها القادرة على ضمان الاستقرار والنظام في الشرق الأوسط.
بالحسابات الأخلاقية التي ميزت معظم التعليقات العربية على خطاب القاهرة، أوباما لم يقدم شيئا يستحق الذكر. بل كاد يساوي بين الضحية والجلاد. هذا صحيح. لكن بالحسابات السياسية والاستراتيجية، يشكل التراجع عن تكريس إسرائيل وحاجاتها التوسعية قاعدة لإعادة بناء نظام الشرق الأوسط المنهار خطوة كبيرة جدا في مسار تأهيل العرب والاعتراف لهم بدور ووجود سياسي إقليمي. وهي لم تتحقق بسبب صحوة أخلاقية مفاجئة عند الرئيس الأمريكي الجديد أو القيادات الامريكية وإنما نتيجة تضحيات العرب الكبيرة والمتواصلة ومقاومتهم العنيدة للسياسات العدوانية الاسرائيلية والأمريكية في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، والتي قادت إلى تقويض رؤية جورج بوش للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، على حساب العرب والفلسطينيين.
ولا أعتقد أن من الحكمة التفريط بهذا الكسب الحقيقي ولا الاستهتار بمغزاه السياسي والتاريخي. إن من واجب العرب، معتدلين وغير معتدلين، استغلال هذا التراجع عن توكيل إسرائيل مشروع السيطرة على العرب بأقسى الأساليب وحشية، لتعميق الشرخ بين الغرب وإسرائيل، والعمل معا من أجل تعزيز هذا المكسب وعدم السماح بالارتداد عنه أو ترك إسرائيل تستعيد الدور الذي كانت مكلفة فيه حتى الآن.
ويحتاج تحقيق هذا الهدف أولا إلى أن يسترجع العالم العربي ثقته بنفسه ويوفر الإطار المشترك الذي يسمح بملء الفراغ الذي سيتركه تحييد إسرائيل أمريكيا او سحب الوكالة الشاملة عنها لإحلال الاستقرار في الشرق الأوسط. وثانيا فحص العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص، والسعي إلى إعادة بنائها على أسس أكثر شفافية وعقلانية. وربما كان من المفيد في هذا المجال السعي إلى فتح مفاوضات عربية أمريكية جماعية تؤسس لعلاقات جديدة، وتطرح على بساط البحث جميع القضايا العالقة من الأمن الإقليمي إلى التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحل النزاعات القائمة. فلا يستطيع العرب أن يطرحوا أنفسهم شركاء في إدارة النظام الإقليمي القائم من دون أن يظهروا حدا أدنى من التفاهم والتعاون والقدرة على التنسيق في ما بينهم. فإذا لم ينجح العرب، وأعني هنا النظم القائمة، في توحيد سياستهم والتنسيق فيما بينهم والعمل كشريك حقيقي، بما تعنيه الشراكة من التزام ومقدرة على المبادرة وحمل المسؤولية، ليس هناك أي ضمانة في أن لا تنجح إسرائيل في استعادة موقعها السابق كحصان رهان غربي وحيد لضمان ما يسمونه الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
بالتأكيد ليس العمل كوكلاء للغرب في حفظ النظام الإقليمي هو ما يطمح له العرب، ولا هو ما يستحقونه. لكن هذا بالتأكيد أفضل من توكيل أمرهم لاسرائيل. وعليهم وحدهم يتوقف استكمال عملية تفكيك النظام الإقليمي شبه الاستعماري وإقامة نظام إقليمي جديد من صنع أبناء المنطقة وشعوبها. فلا تحرر ولا انعتاق من أسر السيطرة الخارجية من دون نجاح مسبق في إعادة بناء الذات وتحقيق التحرر الداخلي.
باختصار شديد، ليس اوباما مهديا منتظرا، لكنه ليس مسيخا أيضا. إنه لا عب/فاعل سياسي. والجواب على الخطاب الذي وجهه للعرب والمسلمين من جامعة القاهرة ليس التهليل والتكبير ولا التقزيم والتشهير وإنما الارتفاع إلى مستوى الفعل السياسي والتصرف بمنطق اللاعب الاستراتيجي.

mercredi, juin 17, 2009

سياسة أوباما العربية

الاتحاد 17 يونيو 09
بالرغم من بعض الشكوك التي أثيرت حوله، أثار خطاب أوباما الموجه إلى العالمين العربي والاسلامي تفاؤلا كبيرا لدى الرأي العام العربي عموما. فهو لم يظهر تعاطفا واضحا مع القضايا العربية والاسلامية ويعترف بمعاناة الشعب الفلسطيني التي لا يمكن أن تتجاهل فحسب، ولكنه عرض، أكثر من ذلك، نهجا جديدا للتعامل مع قضايا المنطقة المشرقية من ضمن القضايا العالمية الأخرى. والنتيجة المتوقعة لهذا النهج أن تحل واشنطن لغة الحوار والتفاوض ومفهوم الشراكة في المصالح والتمسك بالالتزامات الدولية في فلسطين وغيرها، محل لغة الإملاء والضغط والتهديد وتوتير الأجواء مع الدول والأطراف العربية.
وإذا كان من الصحيح أن خطاب أوباما لا يتضمن جديدا بالحسابات الأخلاقية لأنه وضع المعتدي والمعتدى عليه على نفس المستوى من الرعاية، وساوي بين الضحية والجلاد، إلا أنه شكل، بالحسابات السياسية، نقلة مهمة في الاستراتيجية الأمريكية والغربية في المنطقة. وتتجسد هذه النقلة في التراجع عن تكريس إسرائيل وحاجاتها التوسعية مرجعية لإعادة بناء نظام الشرق الأوسط المنهار أولا، وفي إعادة تأهيل العرب دوليا والاعتراف لهم بدور ووجود سياسي إقليمي ثانيا. ولا يقدم البيت الأبيض هذا التنازل للعالم العربي من قبيل الصدقة أو التعاطف أو الصحوة الأخلاقية المفاجئة، وإنما نتيجة مقاومة العرب وما بذلوه من تضحيات خلال العقود الثلاث الأخيرة في مواجهة المخططات الاسرائيلية وإحباط مساعي الإدارة الجمهورية السابقة، في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، وما قاد إليه ذلك من تقويض رؤية جورج بوش للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، على حساب العرب والفلسطينيين.
لقد أدرك الرئيس أوباما، كما أدرك الجمهور الأمريكي الذي انتخبه من قبل، أن سياسة التدخل العسكري والدعم غير المشروط لإسرائيل في سياستها الاستيطانية، لم تعد ناجعة ولا قادرة على أعادة بناء النظام وضمان الأمن والمصالح الأمريكية الحيوية في الشرق الأوسط. هكذا لم يعد هناك بديل آخر لضمان هذه المصالح في المنطقة غير التفاهم مع العواصم العربية، وفي موازاة ذلك إكراه إسرائيل التي تنامت أطماعها في إطار استراتيجية استخدام القوة الأمريكية تجاه العرب، على التخلي عن أطماعها التوسعية والقبول بإقامة دولة فلسطينية، حال دونها منذ أكثر من عقدين الرهان المباشر والواسع على إسرائيل وتفوقها الاستراتيجي لضمان الأمن والاستقرار بالمفهوم الغربي في المنطقة. لا يعني هذا بالتأكيد تخلي الولايات المتحدة عن مصالحها القومية، ولكن بالعكس تنامي الاعتقاد في الإدارة الامريكية بأن هناك حظا أكبر لضمان هذه المصالح بالمراهنة على تعزيز العلاقة مع الدول العربية والتفاهم معها، بدل المراهنة على إسرائيل واستخدامها كآلة حرب وتهديد ضد البلدان العربية.

من هنا، لا أعتقد أن من الحكمة التقليل من قيمة ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي للعالم العربي، ولا التفريط في ما يمثله من كسب سياسي لصالح العرب، ولا الاستهتار بفرص تحول السياسة الأمريكية عن الدعم غير المشروط لتل أبيب في المستقبل. وإذا صدقت النوايا سوف تفقد تل أبيب بالتأكيد من حظوتها الخاصة في واشنطن، على الأقل في الحقبة الراهنة، وحتى تتبين نتائج المبادرة التصالحية الأمريكية. يرتب هذا الوضع على العرب مسؤوليات جديدة، وفي مقدمها تعزيز هذا المكسب وعدم السماح بالارتداد عنه أو ترك إسرائيل تستعيد الدور الذي كانت مكلفة فيه حتى الآن.
ويحتاج تحقيق هذا الهدف أولا إلى أن يسترجع العالم العربي ثقته بنفسه ويوفر إطارا فعالا للعمل الاستراتيجي الجماعي، يسمح ببناء قطب عربي قادر على ملء الفراغ الذي سيتركه تحييد إسرائيل أمريكيا او سحب الوكالة الشاملة عنها لإحلال "الاستقرار في الشرق الأوسط". ولا تشكل الجامعة العربية بديلا لهذا الإطار، ولا تستطيع في ظروفها الراهنة أن تفوم بهذا الدور. وربما كان من الضروري أن يفكر العرب، في إطار الجامعة، بإنشاء مجلس للأمن القومي يشارك فيه قادة وزعماء وخبراء من بلدان متعددة، ويمثل إطارا لبلورة رؤية استراتيجية عربية للحقبة القادمة، ويؤمن لها وسائل تحقيقها.
ويحتاج ثانيا إلى مجهود جديد لإعادة فحص العلاقة مع الولايات المتحدة وأوربة المعنيتين بشكل كبير بشؤون المنطقة، والراعيتين لعملية التسوية السياسية الإقليمية، ومحاولة إعادة بنائها على أسس أكثر شفافية وايجابية معا. وربما كان من المفيد في هذا المجال أيضا السعي إلى فتح مفاوضات عربية أمريكية جماعية تؤسس لعلاقات جديدة، وتطرح على بساط البحث جميع القضايا العالقة: من الأمن الإقليمي إلى التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحل النزاعات القائمة. فلا يستطيع العرب أن يطرحوا أنفسهم شركاء في إدارة النظام الإقليمي القائم من دون أن يظهروا حدا أدنى من التفاهم والتعاون والقدرة على التنسيق في ما بينهم. وإذا سلمنا منذ البداية بأن العرب، بسبب انقساماتهم، وسيطرة التفكير الآني على سياساتهم، بدل النظر نحو المستقبل، وخوفهم على رموز سيادة دولهم الشكلية، غير قادرين على بلورة سياسة جماعية والتنسيق فيما بينهم كي يتحولوا إلى شريك إقليمي، بما تعنيه الشراكة من التزام ومقدرة على المبادرة وحمل المسؤولية، فلن تكون هناك أي ضمانة في أن لا تنجح إسرائيل في استعادة موقعها السابق كحصان رهان غربي وحيد لضمان ما يسمونه الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
وعلى الأغلب أن إدارة الرئيس أوباما سوف تنحو، في حال استمرار الضعف الاستراتيجي العربي، وبالمقابل تزايد ضغوط مراكز القوى الأخرى، نحو العواصم الاوروبية التي اعتادت منذ سنوات طويلة استخدام لغة مزدوجة تحافظ فيها على علاقات طيبة وعادية مع الطرفين العربي والاسرائيلي من دون أن تغامر بتغيير سياستها العملية. فقد درجت هذه العواصم، في الوقت الذي تظهر فيه مراعاتها الجزئية للمصالح العربية والفلسطينية، على الاستمرار في دعم إسرائيل بصورة طبيعية، ورفض أي إجراء عملي، حتى لو كان رمزيا يضعف نقوذها أو تفوقها. وقد جاء التقرير الذي نشر مؤخرا، من إعداد مجموعة الأبحاث والمعلومات عن السلام والأمن، وهي مركز دراسات إستراتيجية مستقل في العاصمة البلجيكية بروكسل، ليفضح هذه الازدواجية. فبالرغم من الانتقادات المتكررة التي كان يوجهها لإسرائيل في السنوات الخمس الأخيرة، حتى بدا وكانه غير متفق مع مشاريعها الاستيطانية،، لم يتوقف الاتحاد الأوروبي عن تزويدها بأسلحة ومعدات ضخمة ومتطورة لاستخدامها في حروبها ضد العرب. حتا بلغت "قيمة مشتريات إسرائيل من مبيعات الأسلحة الأوروبية عام 2006 وحده 11 مليار دولار، ساهمت فرنسا بالنصيب الأكبر منها. ولم يوقف تصدير الأسلحة الفتاكة لاسرائيل، كما جاء في التقرير، تعاهد دول الاتحاد الـ27 فيما بينها على ما سمي بالميثاق الأخلاقي لبيع الأسلحة، الذي يحرم تصدير السلام إلى مناطق النزاع التي يحتمل أن تستخدم فيها ضد المدنيين أو في انتهاك لحقوق الإنسان. وليس من المستغرب أن تكون إسرائيل هي وحدها التي استثناها الاتحاد الأوروبي من تطبيق هذا الميثاق.

jeudi, juin 04, 2009

اوباما وامتحان القضية الفلسطينية

الاتحاد 4 يونيو 09

تركز اهتمام الساسة والمثقفين الذين تناولوا بالتعليق زيارة باراك أوباما للمنطقة ومضمون الخطاب الذي ألقاه في القاهرة الأسبوع الماضي على مسألتين. الأولى افتقار خطاب الرئيس الأمريكي لخطة عملية لحل القضية الفلسطينية واقتصار كلامه كما ذكر العديد من المعلقين على المباديء والوعود والبراعة الكلامية، والثانية مقدرة أوباما، لو كان لديه مثل هذه الخطة، على فرضها على إسرائيل وأكراه تل أبيب على القبول في النهاية بوقف الاستيطان وتطبيق القرارات الدولية.
وفي اعتقادي أن زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة وتوجهه بخطاب شامل للرأي العام العربي والاسلامي من جامعة القاهرة يتتجاوزان في أهدافهما بكثير الرد على قلق العرب من توسع حركة الاستيطان الاسرائيلي ومن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، ويشكلان جزءا من مجموعة مبادرات سياسية ودبلوماسية يطمح من خلالها زغيم البيت الأبيض إلى تصحيح الخطأ الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية الجمهورية السابقة، بسياساتها العدوانية، وإعادة بناء العلاقات العربية الأمريكية خصوصا والاسلامية الغربية عموما على أسس جديدة. وليست مواجهة المسألة الفلسطينية إلا مفتاحا لما يمكن أن نسميه المصالحة بين عالمين لم يتقاربا يوما إلا كي يتباعدا في اليوم التالي. وهي مصالحة تعكس اعتراف واشنطن بإخفاق سياستها في المنطقة وتنامي مشاعر العداء لها في وسط الرأي العام العربي والإسلامي. وربما طمح الرئيس الأمريكي من وراء ذلك إلى تغيير الصورة السلبية التي أفرزتها السياسة الامريكية الخارجية لواشنطن في العالم، وإعادة الاعتبار لعلاقاتها الدولية.
ومن الواضح أن تحقيق مثل هذه المصالحة يستدعي بداية، كما أدرك ذلك العرب والاسرائيليون معا، التوقف عن الدعم غير المشروط الذي كانت واشنطن تقدمه لإسرائيل حتى الآن، بل الضغط على هذه الأخيرة كي تقلص من طموحاتها الاستراتيجية بل أطماعها الإقليمية وتقبل بتجميد الاستيطان والسماح بقيام دولة فلسطينية إلى جوارها. بمعنى آخر، إن للمصالحة العربية الأمريكية ثمن، وليس هناك عليها أن تدفعه تماما كما كان للدعم المطلق لإسرائيل ثمنا كبيرا دفعته الولايات المتحدة من رصيدها الإقليمي والعالمي أيضا. والسؤال هو ما إذا كانت واشنطن تملك الإرادة والقوة والتصميم على إرجاع البعبع الاسرائيلي الذي أطلقته في السابق لتخويف العرب وتركيعهم وإجبارهم على قبول السير حسب أجندتها الإقليمية والعالمية، إلى القمقم الذي أخرجته منه. ولا تزال هناك شكوك كبيرة حول هذا الأمر، بالرغم من أحدا لا يجهل أنه ما كان لاسرائيل أن تستمر في الوجود وتبلغ ما وصلت إليه من تفوق استراتيجي، ولا أن تستهتر بالحقوق الفلسطينية والعربية، وتمعن في تطبيق خطط الاستعمار الاستيطاني العنصري، لولا الدعم الكامل والمتواصل، الايديولوجي والسياسي والمالي والعسكري والاستراتيجي الذي حظيت عليه من قبل واشنطن وأوربة الغربية. كما أن أحدا لا يجهل أن هذا الدعم والتأييد غير المشروط يمكن فصله عن الدور الذي أنيط بها في المنطقة، كأداة للضرب والحرب المستمرة المعلنة والمستترة، وحارس للمصالح الغربية، الامريكية والاوروبية
لكن ليس هناك شك في أن تغيير السياسة الأمريكية، والغربية عموما، تجاه العالم العربي، والقبول بهذا العالم طرفا أو شريكا في بناء نظام الشرق الأوسط، والالتزام الفعلي، كما أعلن أوباما في خطاب القاهرة، باحترام المصالح العربية الاستراتيجية والسياسية، هو المدخل الحقيقي لحلحلة الأزمة الإقليمية. وفيه يكمن مفتاح تصحيح العلاقة المختلة تماما بين إسرائيل والعرب، أي دفع إسرائيل إلى التوقف عن تحدي القوانين الدولية وانتهاك الحقوق العربية بتوسيع دائرة الاستيطان وضم الأراضي وتأبيد الاحتلال وحرمان السكان في فلسطين وغيرها من المناطق المحتلة وفي المشرق العربي بأكمله من الأمن والسلام والحياة الطبيعية المستقرة. والواقع أن ما هو مطلوب من الامريكيين لتحقيق هدفهم الجديد، أي استعادة الحد الادنى من الثقة بسياستهم الإقليمية لا يستهدف مصالح إسرائيل نفسها وإنما أحلام غلاتها والمتطرفين فيها الذين يتصرفون كما لو كانت المنطقة العربية حقل صيد، ينتزعون فيه ما يشاؤون متى أرادوا ويضمونه إلى مكتسباتهم ويسجلوه مليكة خاصة بهم. إن ما هو مطلوب لايتعدى إرجاع إسرائيل إلى منطق العقل والحد من أطماعها ومساعدتها، كما يعتقد الكثير من الصهيويين المعتدلين اليوم، على نزع الطابع الاستعماري والتوسعي والعدواني عنها وتحويلها إلى بلد طبيعي يعيش بسلام مع جيرانه ولا يعتبر الاعتداء عليهم وإلحاق أراضيهم رسالة وطنية.

من هذه الزاوية تكتسب زيارة أوباما للمنطقة في الأسبوع الماضي وتوجيهه خطابا فيها يدعو إلى طي صفحة الماضي والبدء بتجربة جديدة في العلاقات الأمريكية العربية قائمة على الاحترام المتبادل والحوار والسعي المشترك لمعالجة المشاكل الكبيرة التي تعاني منها المنطقة وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي، أقول تكتسب هذه الزيارة معنى يختلف كثيرا عما كانت تتضمنه زيارة الرؤساء الأمريكيين والغربيين السابقين وخطاباتهم فيها.

والسؤال هل يمكن لباراك أوباما أن يأمل بالنجاح في تحقيق اختراق تاريخي على جبهة المصالحة الاسلامية الغربية من دون إظهار جدية واشنطن في احترام القانون وتطبيق القرارات الدولية في أكثر القضايا إثارة للعواطف والأهواء منذ أكثر من نصف قرن؟ ثم أبعد من ذلك، هل يكفي الوعد بتحقيق تسوية فلسطينية أو حتى عربية إسرائيلية حتى تستعيد الولايات المتحدة صدقيتها في المنطقة العربية ؟ وكيف يمكن لمصالحة عربية أمريكية أن تتحقق في ظروف غياب الشعوب العربية عن نفسها وتغييبها عن واقعها ومصيرها ومستقبلها؟ في الإجابة على هذه الأسئلة يكمن ربما الجواب على سؤال استعداد الجبهة الفلسطينية للدخول في مفاوضات سلام جدية.


في نظري سيحتاج أوباما إلى إرادة حديدية حتى ينجح في لوي ذراع القوى المؤيدة لإسرائيل في الإدارة الامريكية نفسها، ومن ثم إعادة إسرائيل إلى مكانها وحجمها الطبيعيين. لكنه سيحتاج أيضا وبصورة أكبر إلى بروز إرادة عربية قوية موحدة، وفي مقدمها الإرادة الفلسطينية. فإجبار إسرائيل على الإنطواء على مصالحها والكف عن لعب دور الحارس الغربي الأمين للمنطقة لا يمكن ضمانه بالخطب والالتزامات المعنوية. إن ضمانته الوحيدة تكمن في نشوء قوة عربية تملء الفراغ الاستراتيجي الذي سينشأ نتيجة تراجع إسرائيل، وهذا ما يجعل من التفاهم بل الاتحاد العربي مهمة عاجلة وجزءا لايتجزأ من مشروع التسوية الأقليمية وشرطا لها.